عربية القرآن

اقرأ في هذا المقال


لغة القرآن

لا بدَّ وأن تكون لغة الرِّسالة التي يحملها الرسول هي لغة قومه الذين يدعوهم إليها حتى تتحقَّق الغاية منها، وقد أكَّد القرآن الكريم هذه القاعدة في قوله تعالى ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ فَیُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [إبراهيم ٤] ومعنى (بلسان قومه) أي بلغتهم .

وقد جاء القرآن عربياً لأنَّ الله تعالى أنزله على النبي العربي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين أولاً، فقد قال تعالى ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ یَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ فَرِیقࣱ فِی ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِیقࣱ فِی ٱلسَّعِیرِ﴾ [الشورى ٧] وأم القرى هي مكة .

وبلغ عدد الآيات الكريمة التي تؤكِّد نزول القرآن باللغة العربية أكثر من عشر آيات، وهذه حقيقة واضحة لمن قرأ أو سمعه، لكن تأكيد القرآن عليها لا بدَّ أن يكون لمعنى مقصود، ومن ثمَّ أجمع العلماء جواز قراءة القرآن بغيرالعربية، في الصَّلاة وخارجها، قال الإمام النووي : مذهبنا :أنَّه لا يجوز قراءة بغير لسان العرب، سواء أمكنه العربية أوعجز عنها، وسواء كان في الصَّلاة أو غيرها؛ فإن أتى بترجمته في صلاة بدلاً من القراءة لم تصح صلاته سواءً أحسن القراءة بالعربية أم لا، هذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وداود.

ولا تسمَّى ترجمة معاني القرآن قرآناً، كما لا يسمَّى التفسير بالعربية قرآناً، لأنَّ إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وليس في معناه فقط .

فالله تعالى جعل القرآن عربياً، وأنزله عربياً لأنَّ المخاطبين من قوم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عرباً، ليعقلوا معانيه، وما فيه من مواعظ، ولم ينزله بلسان العجم فيقولوا : نحن عرب، وهذا كلام عجمي لا نفقه معانيه، فأنزله بلسانهم، حتى يفقهوا ما فيه، فيتقوا ما حذرهم الله منه، ﴿وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِیࣰّا لَّقَالُوا۟ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥۤۖ ءَا۬عۡجَمِیࣱّ وَعَرَبِیࣱّۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ هُدࣰى وَشِفَاۤءࣱۚ وَٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣱ وَهُوَ عَلَیۡهِمۡ عَمًىۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ﴾ [فصلت ٤٤].

ولا شكَّ في أنَّ لغة العرب في أنحاء الجزيرة العربية لم تكن موحَّدة حين بعث الله نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم فكان لكل قبيلة أو مدينة لهجة تميزت بها، لكن التباين بين تلك اللهجات لم يكن يحول بينهم وبين التواص بينهم، وقد وردت نصوص تؤكِّد أنَّ القرآن الكريم نزلَ بلغة قريش خاصَّة، وهم قوم النبي صلى الله عليه وسلَّم وسكان مكَّة وما حولها .

منه ما روي عن أنس بن مالك: أنَّ عُثْمانَ، دَعا زَيْدَ بنَ ثابِتٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيْرِ، وسَعِيدَ بنَ العاصِ، وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الحارِثِ بنِ هِشامٍ فَنَسَخُوها في المَصاحِفِ، وقالَ عُثْمانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إذا اخْتَلَفْتُمْ أنتُمْ وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ في شيءٍ مِنَ القُرْآنِ، فاكْتُبُوهُ بلِسانِ قُرَيْشٍ، فإنَّما نَزَلَ بلِسانِهِمْ فَفَعَلُوا ذلكَ.صحيح البخاري ٣٥٠٦  • 

ومنها ما روي عن كعب بن مالك: عن عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ كعبٍ الأنصاريِّ عن أبيه عن جدِّه أنَّه كان عند عمرَ بنِ الخطّابِ فقرأ رجلٌ من بعدِ ما رأَوُا الآياتِ ليسجُنُنَّه حتّى حينٍ فقال عمرُ: من أقرأكها، قال: أقرأنيها ابنُ مسعودٍ، فقال عمرُ: حَتّى حِينٍ وكتب إلى ابنِ مسعودٍ: أمّا بعدُ فإنَّ اللهَ أنزل القرآنَ بلسانِ قريشٍ فإذا أتاك كتابي هذا فأقرِئِ النّاسَ بلغةِ قريشٍ ولا تُقرِئْهم بلغةِ هُذَيلٍ، والسَّلامُ . ابن عبد البر التمهيد ٨/٢٧٨ .

وقد قال مجاهد بن جبر المكِّي المفسِّر المشهور (توفي 104هــ) ، وأشهر تلامذة ابن عباس، في تفسير قوله تعالى ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ فَیُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [إبراهيم ٤] قال : نزل القرآن بلغة قريش .

وقد حاز القرآن الكريم أعلى درجات البلاغة وأصفى صور الفصاحة، فأعجز البلغاء وبهر الفصحاء، فهو وإن كان بلغة العرب فإنَّه كلامُ رب العالمين، وهو معجزة خاتم النبيين والمرسلين، وهو مع ذلك ميسَّر، قال تعالى ﴿وَلَقَدۡ یَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرࣲ﴾ [القمر ١٧]

وأكَّد هذا المعنى قوله تعالى ﴿فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِینَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمࣰا لُّدࣰّا﴾ [مريم ٩٧] قال الإمام الطبري في تفسيره : “فإنما سهلناه قراءة هذا القرآن الذي انزلناه إليك يا محمد بلسانك ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناه إليهم بعبرة وحججه”

وجاء في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي قال إنَّ معنى ﴿فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِینَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمࣰا لُّدࣰّا﴾ [مريم ٩٧] قال : اللسان بمعنى اللغة مجازاً لكنه لشهرته ملحق بالحقيقة، أي بلغتك ميسراً فهمَهُ وحفظه. أنزلناه بلغتك، وكلا التفسيرين يؤولان إلى التيسير الذي خصَّ اللهُ به كتابه العزيز .

المصدر: المجموع-الامام النووي محاضرات في علوم القرآن - غانم قدوري صحيح البخاري - الامام البخاري حاشية القونوي على تفسير البيضاوي- عصام الدين القونوي


شارك المقالة: