الاستقراء وفلسفة فرانسيس بيكون

اقرأ في هذا المقال


في بداية (Magna Instauratio) وفي الكتاب الثاني من الأورغانون الجديد، قدم الفيلسوف فرانسيس بيكون نظامه (الاستقراء الحقيقي والكمال)، والذي اقترحه كأساس للطريقة العلمية وأداة ضرورية للتفسير الصحيح للطبيعة، وكان من المفترض أن يتم شرح هذا النظام وإثباته بشكل كامل في الجزء الرابع من (Instauratio) في قسم بعنوان (سلم الفكر)، ولكن لسوء الحظ لم يتجاوز العمل أبدًا مقدمة.

مفهوم الاستقراء لدى بيكون:

وفقًا لبيكون يختلف نظامه ليس فقط عن المنطق الاستنتاجي والهوس للقياسات المنطقية لرجال المدارس، ولكن أيضًا عن الاستقراء الكلاسيكي لأرسطو وغيره من علماء المنطق، وكما يشرح بيكون فإنّ (الاستقراء الكلاسيكي) يستمر مرة واحدة من المعنى والتفاصيل حتى القضايا الأكثر عمومية، ثم يعمل بشكل عكسي عن طريق الاستنتاج للوصول إلى افتراضات وسيطة، وهكذا مثلًا من خلال بعض الملاحظات يمكن للمرء أن يستنتج (عن طريق الاستقراء) أنّ جميع السيارات الجديدة لامعة.

فلسفة بيكون في مبدأ سلم الفكر:

كما يشير بيكون بحق فإنّ إحدى مشكلات هذا الإجراء هي أنّه إذا ثبت خطأ البديهيات العامة، فقد تكون جميع البديهيات الوسيطة خاطئة أيضًا، وكل ما يتطلبه الأمر هو مثال واحد متناقض ففي هذه الحالة سيارة واحدة جديدة ذات لمسة نهائية باهتة والهيكل بأكمله ينهار.

ولهذا السبب يصف بيكون مسارًا مختلفًا، وطريقته هي المضي قدمًا بانتظام وبشكل تدريجي من بديهية إلى أخرى، بحيث لا يتم الوصول إلى الأكثر عمومية حتى النهاية، وبعبارة أخرى كل بديهية أي كل خطوة للأعلى (سلم الفكر)، يتم اختبارها بدقة من خلال الملاحظة والتجريب قبل اتخاذ الخطوة التالية، وفي الواقع تصبح كل بديهية مؤكدة موطئ قدم لحقيقة أعلى، حيث تمثل البديهيات الأكثر عمومية المرحلة الأخيرة من العملية.

وهكذا في المثال الموصوف سيضطر محقق بيكونيان إلى فحص قائمة جرد كاملة لسيارات شفروليه ولكزس والجيب، وقبل التوصل إلى أي استنتاجات حول السيارات الجديدة بشكل عام، وبينما يعترف بيكون بأنّ مثل هذه الطريقة يمكن أن تكون شاقة، فإنّه يجادل بأنّها تنتج في النهاية صرحًا مستقرًا للمعرفة بدلاً من هيكل متهالك ينهار مع ظهور حالة واحدة غير مؤكدة.

في الواقع وفقًا لبيكون عندما يتبع المرء إجرائه الاستقرائي، فإنّ المثال السلبي يصبح في الواقع شيئًا يستحق الترحيب بدلاً من الخوف، فبدلاً من تهديد التجمع بأكمله فإنّ اكتشاف التعميم الخاطئ يحفظ المحقق فعليًا عناء المضي قدمًا في اتجاه معين أو خط تحقيق معين، وفي الوقت نفسه فإنّ بنية الحقيقة التي بناها بالفعل لا تزال سليمة.

مدى فعالية الإجراء الاستقرائي لبيكون:

هل نظام بيكون إذن إجراء سليم وموثوق، وسلم قوي يقود من التفاصيل المرصودة بعناية إلى استنتاجات حقيقية وحتمية؟ على الرغم من أنّه هو نفسه يؤمن إيمانًا راسخًا بفائدة طريقته وتفوقها بشكل عام فإنّ العديد من المعلقين والنقاد كانت لديهم شكوك، ولسبب واحد ليس من الواضح أنّ الإجراء البيكونيان الذي يتم أخذه في حد ذاته يؤدي بشكل قاطع إلى أي افتراضات عامة، ناهيك عن المبادئ العلمية أو البيانات النظرية التي يمكننا قبولها على أنّها صحيحة عالميًا.

في أي نقطة يكون المحقق البيكوني مستعدًا لتحقيق قفزة من التفاصيل المرصودة إلى التعميمات المجردة؟ بعد اثنتي عشرة حالة؟ ألف؟ الحقيقة هي أنّ طريقة بيكون لا توفر شيئًا لإرشاد المحقق في هذا التحديد بخلاف الغريزة المطلقة أو الحكم المهني، وبالتالي فإنّ الاتجاه هو التحقيق في التفاصيل -المراقبة الثابتة وجمع البيانات- للاستمرار بشكل مستمر وفي الواقع بلا نهاية.

وهكذا يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة سيناريو يصبح فيه تراكم الأمثلة ليس فقط المرحلة الأولية في العملية ولكن جوهر العملية نفسها، وفي الواقع فإنّ البحث عن الحقائق المتحمسة لا يصبح وسيلة للمعرفة فحسب بل نشاطًا يتم متابعته بقوة من أجل حد ذاته.

ويعرف كل عالم وأكاديمي مدى إغراء تأجيل العمل الشاق للتفكير التخيلي من أجل الاستمرار في إجراء بعض أشكال البحث عن ظهر قلب، ويعرف كل محقق مدى سهولة الانغماس في البيانات مع النتيجة التعيسة المتمثلة في أنّ الصعود المقصود إلى أعلى سلم بيكونيان عالق في الأمور الدنيوية الواقعية ولا ينفصل أبدًا عن الأرض.

لا شك أنّ مثل هذه الاعتبارات هي التي دفعت الطبيب الإنجليزي والأرسطو الجديد ويليام هارفي صاحب شهرة الدورة الدموية، إلى السخرية من أنّ بيكون كتب عن الفلسفة الطبيعية مثل اللورد المستشار، أي مثل السياسي أو مشرع وليس ممارسًا، والتقييم هو فقط إلى الحد الذي يصف فيه بيكون في الأورغانون الجديد بالفعل إجراءً جديدًا صارمًا للغاية للتحقيق في الطبيعة.

بدلاً من وصف الطريقة الغريزية والارتجالية إلى حد ما، وليست تجريبية حصرية بأي حال من الأحوال التي استخدمها كبلر وجاليليو وهارفي نفسه وغيره من العلماء العاملين في الواقع.

في الواقع بخلاف تايكو براهي عالم الفلك الدنماركي الذي أشرف على فريق من المساعدين، ولاحظ بأمانة ثم سجل كميات كاملة من البيانات الفلكية في جداول مرتبة بشكل منهجي، ومن المشكوك فيه أنّ هناك شخصية رئيسية أخرى في تاريخ العلم يمكن وصفها بشكل شرعي بشخصية بيكونية حقيقية وصادقة.

صحيح أنّ داروين ادعى أنّ أصل الأنواع كان قائمًا على مبادئ بيكون، ومع ذلك فإنّ جمع الأمثلة من أجل مقارنة الأنواع وإظهار العلاقة فيما بينها شيء واحد، وإنّه أمر آخر تمامًا أن ننظّر آلية أي التطور بالطفرة والانتقاء الطبيعي، تشرح بأناقة وقوة تاريخها وتنوعها بالكامل.

وهذا يعني أنّ العلم لم يتقدم وربما لم يتقدم أبدًا وفقًا للطريقة الصارمة والتدريجية والمتثاقلة دائمًا للملاحظة والاستقراء من قبل بيكون، وإنّه يتقدم بدلاً من ذلك بشكل لا يمكن التنبؤ به، وغالبًا ما يكون بديهيًا وحتى خيالي، واستخدم كبلر بيانات تايكو التي تم جمعها بدقة لدعم اعتقاده الغامض وحتى الخفي بأنّ حركات الأجرام السماوية منتظمة ومتناسقة مما يؤلف تناغمًا حقيقيًا بين الكرات.

ألقى جاليليو أوزانًا غير متساوية من البرج المائل كمجرد إثبات علني لحقيقة على عكس أرسطو أنّهم سوف يسقطون بنفس المعدل، ولقد كان قد اقنع نفسه قبل فترة طويلة بأنّ هذا سيحدث من خلال طريقة غير شبيهة بأسلوب بيكون في التفكير الرياضي وتجربة التفكير الاستنتاجي.

عرف هارفي من خلال عملية مماثلة من التحليل الكمي والمنطق الاستنتاجي أنّ الدم يجب أن يدور، وكان فقط لتقديم دليل على هذه الحقيقة أنّه حدد لنفسه المهمة الثانوية المتمثلة في جمع الأدلة التجريبية وتأسيس الطريقة الفعلية التي تم بها ذلك.

يمكن للمرء أن يعدد بطريقة بيكونية حقيقية مجموعة من الأمثلة الأخرى، ولكن هذه النقطة قد أُثيرت بالفعل، ولم يتم تحقيق التقدم في المعرفة العلمية في الغالب عن طريق الاستقراء البيكوني، والذي يرقى إلى نوع من المسح المنهجي والشامل للطبيعة الذي يُفترض أنّه يؤدي إلى رؤى نهائية، ولكن بالأحرى من خلال تلميحات وتخمينات ذكية -كلمة بفرضيات- التي تم تأكيدها أو في مصطلح مهم لكارل بوبر تم تزويرها من خلال البحث اللاحق.

باختصار إذن يمكن القول أنّ بيكون قلل من أهمية دور الخيال والفرضية، وبالغ في تقدير قيمة الملاحظة الدقيقة وجمع البيانات الشبيهة بالنحل في إنتاج المعرفة العلمية الجديدة، وفي هذا الصدد من الصحيح أنّه كتب عن العلم مثل اللورد المستشار مُعلنًا بشكل ملكي فوائد أسلوبه الجديد، والذي يُفترض أنّه مضمون بدلاً من التعرف على الإجراءات التي تم اختبارها والموافقة عليها بالفعل وتكييفها.

من ناحية أخرى يجب إضافة أنّ بيكون لم يقدم نفسه (أو طريقته) كسلطة نهائية في التحقيق في الطبيعة، أو في هذا الصدد في أي موضوع أو مسألة أخرى تتعلق بتقدم المعرفة، وباعترافه الشخصي لم يكن سوى عازف البوق لمثل هذا التقدم الثوري، ولم يكن مؤسس أو باني نظام جديد واسع ولكن فقط رسول أو مبعوث لعالم جديد قادم.

المصدر: Francis BaconFrancis Bacon (1561—1626)• Anderson, F. H., 1948, The Philosophy of Francis Bacon, Chicago: University of Chicago Press.• Farrington, B., 1964, The Philosophy of Francis Bacon, Liverpool: Liverpool University Press. The Letters and the Life of Francis Bacon, edited by J. Spedding, 7 vols. London: Longman, Green, Longman, and Roberts.


شارك المقالة: