أعجزتم أن تكونوا كعجوز بني إسرائيل

اقرأ في هذا المقال


سمو وعلو الهمة

إنه مَثَلٍ نَبويٍّ شَريفٍ، تكَلَّمَ به النَّبي _ صلى الله عليه وسلم _ أمامَ أصحابه لِيُبيّنَ لهمُ الطَّريق نحوَ القِمَّة ونحوَ المَعالِي .

يَروي الصَّحابي الجليل أبو مُوسى الأشعري رضي الله عنه قال: ” أَتَى النَّبيُّ _ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم _أعرابيًّاً في البَاديةِ فأكرَمَهُ، أي أكرم النبي فقال له عليهِ الصَّلاة والسلام: ( ائتِنَا )، فأتاهُ فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:( سَلْ حاجتَكَ )،
قالَ الأعرابِيّ: ناقةٌ نركَبُها وأعنُزٌ يَحلُبُهَا أهلي، فَكرَّرَ النّبي عليه أن يَطلُبَ حَاجتَهُ، فأعادَ نفْسَ الطَّلبِ عليه.

عِندهَا تكَلَّمَ النّبيّ للحَاضِرينَ معهُ منَ الصَّحابةِ الكرام، ومَعهُم الأَعرابيّ وقال:( أعجَزْتُم أنْ تكونوا مِثْلَ عجوزِ بني إسرائيلَ)؟ قالوا : يا رسولَ اللهِ وما عجوزُ بني إسرائيلَ؟ قال: ( إنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا سارَ ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ، أي عندَما هربوا من بطْشِ فرعونَ وجُنودِهِ، ضلُّوا الطَّريقَ، أي أضاعوها فقال: ما هذا؟ فقال عُلَماؤُهم: إنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا حضَرهُ الموتُ أخَذَ علينا مَوثقًا مِن اللهِ ألَّا نَخرُجَ مِن مِصْرَ حتَّى نَنقُلَ عِظامَه معنا، ويوسف عليه السلام كان نبيَّاً ورسولاً لبني إسرائيل قبل موسى، فقال: فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه؟ قالوا: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ. فبعَث إليها فأتَتْه فقال: دُلِّينِي على قبرِ يوسُفَ قالت: حتَّى تُعطيَني حُكْمي، اشْتَرَطَت شَرطاً على موسى عليه السلام حتى تَدُلَّهُ على قبرِ يوسف عليه السَّلام قال: وما حُكْمُكِ؟

قالت: أن أكونَ معكَ في الجنَّةِ. فكرِه أنْ يُعطيَها ذلكَ, فأوحى اللهُ إليه: أنْ أعطِها حُكْمَها. وكان سيدنا موسى كليم الله تعالى فانطلَقَتْ بهم إلى بُحيرةٍ.. في موضِعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالت: أنضِبوا، أي أخرجوا هذا الماءَ فأنضَبوه، أي أخرجوه فقالتِ: احتَفِروا فاحتَفَروا فاستخرَجوا عِظامَ يوسُفَ, فلمَّا أقلُّوها أي أخرجوا جسد النبي يوسف إلى الأرضِ وإذا الطَّريقُ مِثْلُ ضوءِ النَّهارِ، اي اهتدوا إلى طريقهم الصَّحيح ”.

يضعُ النبي _ صلى الله عليه وسلم _ بينَ أيدِينَا مِنهَاجاً يُوصِلُنَا إلى سُمُوِّ وعُلوِّ الهِمَّة, وأنْ لا نَرضَى بِسَفَاسِفِ الأمورِ وأقَلّها وأنْ لا نَرضَى من أمور الآخرة بالقليل.

الهمة العالية

فَعُلوِّ الهِمَّة: هو اسْتصغَارُ ما دونَ النِّهايةِ من معالي الأمورِ، وطَلَبُ المراتبِ السَّاميَةِ، والاستِخفَاف بأوساطِ الأمور، وطَلب الغَاياتِ.

  يتَفاوتُ النَّاسُ في هِمَمِهِم، فمنهم من تَسمُو هِمَّتَهُ، ومنهم من تَدْنُو همَّته، كُنْ من الذين لهم مطالب سَامِيَةً، وكن من الذينَ لديهِم القُدرة على عَظائِمِ الأُمورِ، ولا تَبْخَسْ نفْسكَ فَتضع هِمَّتكَ في سَفاسِفِ الأمورِ وصَغائِرهَا.

استمعْ لوصيَّةِ عمر بن الخطاب حيث يقول: «لا تَصْغُرَنَّ هِمّتكُم؛ فإنِّي لمْ أرَ أقعدَ عن المَكرُمَاتِ من صَغيرِ الهِمَم».


إذا أرَدّتَ أنْ تَطلُب شيئاً من هذهِ الدّثنيا، تَذكَّر أنَّ كُلَّ نَعيمِها ومَحاسِنهَا سيمشي معك إلى قبركِ ثُمَّ يترُكَكْ، لذلكَ اطلب المعالِي، واطلب العُلوّ والسُّموّ نحو القِممِ ولا تنتبه لفُتاتِ الدّنيا الزّائل، متاعٌ قليلٌ، وإنْ كانَ به زِينة الحياةِ الدنيا، ” المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدّنيا والباقياتُ الصّالحاتُ خيرٌ عند رَبّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً “.

إذا أردّتَ أنْ تعرفَ مَعالي الأمور التي تُريد وتُحب أنْ تحصلَ عليها وتنالهَا في حياتِك، فاعلمْ بأنَّ ما يُوصِلُكَ إلى جنّاتِ ربّك، هي معالي الأمور، لذلك علَّمنا النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن ندعو الله ونسأله أن يدخلنا جنَّة الفِردوس، فهي أعلى درجاتِ ومراتبِ الجنَّة.

أرجعُ بِكم لصاحِبِنا الأعرابيّ الذي أرادَ ورضيَ ما يتَقوّى به على قُوتِ يومهِ له ولِعيالِهِ بأعنُزٍ يَحلُبهَا، ورضيَ بناقةٍ تُقِلّهُ من مكان إلى آخر في فَيافي الصّحراء العربية، ولكن في المقابل نرى صَاحِبتنَا العجوزُ الإسرائيلية التي اشترطَت على سيّدنا موسى أن يَحجِزَ لها مقعداً مؤكَّداً معه في الجنَّة، أرادَت معالي الأمور وأشرَافهَا فَنَالتهَا، والأعرابي رضيَ بِسَفاسفِ الدُّنيا فأخذهَا.

فالله سبحانه وتعالى، يحبُّ لنا معالي الأمور ويكره لنا سَفاسفَهَا، كما ورد في حديث النبي _صلى الله عليه وسلم _ الذي يقول فيه: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا».
هذا الوزير الأمَويّ _رَجاءُ بن حَيَوة ــ وزير عمر بن عبدالعزيز ــ رحمه الله تعالى، يقول:” كنتُ مع عمر بن عبدالعزيز لمَّا كان والياً على المدينة المنوّرة، فأرسلني لأشتريَ له ثوباً، فاشْترَيتهُ له بِخَمسمئةِ درهم، فلمَّا نظر فيه قال: هو جيّد لولا أنَّه رخيصُ الثّمن!

فلمَّا صار خليفةً للمسلمين، بعَثَني لأشتري له ثوبًا فاشتَريتُهُ له بخمسةِ دراهم! فلمّا نظر فيه قال: هو جيّد لولا أنَّه غالِ الثمن!
يقول رَجاء: فلمّا سمعت كلامه بكيت؛ فقال لي عمر: ما يُبكيك يا رجاء؟ قلت: تذكّرتُ ثوبكَ قبل سنوات وما قلت عنه – فكشف عمر لرجاء سِرَّ هذا الموقف – وقال: (يا رجاء .. إنّ لي نَفْس توّاقَة، وما حقَّقَتْ شيئا إلا تَاقَت لما هو أعلى منه, تاقت نفسي إلى الزّواجِ من ابنةِ عمّي فاطمة بنت عبدالملك فَتَزوجتُهَا، ثمَّ تاقت نفسي إلى الإمارة فَوُلّيتُهَا، وتاقت نفسي إلى الخِلافة فنِلتُها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنَّة، فأرجو أن أكون من أهلها).

ولله درُّ الشاعر أحمد شوقي حينما قال:

ومَا نَيْلَ المَطالبِ بالتَّمنيّ *** ولكِن تُؤخَذُ الدُّنيا غِلابَا
وما اسْتعصَى على قَومٍ مَنالٌ *** إذا الإقْدَامُ كان لَهُم رِكَابَا.

جعلنا الله وإيّاكُم من أصحابِ الهِمَمِ العاليةِ، والقِمَمِ السّامِقَةِ، وأبعَدَنا عن سفاسِفِ الأمور وصَغائرها.


شارك المقالة: