لم أر كاليوم قط... ولا يوم دارة جلجل

اقرأ في هذا المقال


صاحب المقولة


الفرزدقُ هو هَمّام بن غالب بن صَعصَعة؛ المَولود في البصرة في السنة العشرين للهجرة. أمّا أمّه فهيَ” ليلى بنت حابس” أخت” الأقرع بن حابس”، وهو صحابيّ جليل كان من أشراف العرب في العصر الجاهليّ.

ويُشار إلى أنّ الفرزدق في مرحلة الشباب كان يُكنّى بأبي مَكيّة؛ تيمُّناً باسم ابنة له، أمّا الفرزدق فهو لقبٌ أٌطلق عليه لخشونة ملامح وجهه.

اشتُهِر الفرزدق بنسبه الرَّفيع؛ فهو من قبيلة بدويّة كان لها مكانة مرموقة وشأنٌ عظيم في الجاهلية تُدعى( دَارِم)، والتي عُرِفت بسَطوتها بين القبائل.

أمّا والده فقد اشتُهِر بالعزّة والكرم، وكان جدّه صعصعة سيّداً في قومه؛ سلك طريقاً كريماً كان سبباً في شُهرتهِ؛ وذلك حين اشترى أكثر من أربعمائة مَوؤودَة وأنقذهنّ من الموت، وقد تأثّر الفرزدق بجدّه، وورث عنه حبّ النَّجدة التي ذكرها، وعظّمها كثيراً في شِعره.

ويُذكَر أنّ الفرزدق اكتسب من نشأته في البادية خِصال أهلها؛ فكان حادّاً في طَبعهِ، قويّاً في جِداله، يملك لغةً صحراويةً صعبةً، الأمر الذي أكسبه طِباعاً لم تتغيّر.

لمْ يكُن الفرزدق على قَدرٍ عالٍ من حُسن الصورة والمظهر، إلّا أنّه كان مُعتَزّاً بنفسه مُعجَباً بها رغم ذلك، وكان شديد العناية بهِندامهِ ولباسه المصنوع من الدِّيباج والخَزّ، كما عُرِف عنه حِرصه على لبس المجوهرات الفاخرة، وتَخضيب لحيتهِ وشَعر رأسه. أمّا أخلاقه فقد اكتسبها من البادية؛ فكان فصيحاً ذكياً سريع الجواب والبديهة، وكان كثير الزَّهوِ والإفتخار بنفسه، وبقومه.

كان الفرزدق ينتمي إلى العصر الإسلاميّ الذي قسّمه المُؤرِّخون إلى فترتَين، هما: فترة بداية الإسلام وعهد الرسول الكريم والخلافة الراشدية، والفترة التي شهدت الخلافة الأموية التي بدأت بخلافة معاوية بن أبي سفيان، وانتهت بمعركة الزَّاب.

وقد عاش الفرزدق عُمراً طويلاً، فظهرت له خفايا الحياة بحُلوها، ومُرّها، وأقبل بدوره عليها يتزوّد من مسرّاتها. وقد تزوَّجَ الفرزدق أكثر من واحدة؛ ولكنَّ أشهر زوجاته؛ هي” النوّار بنت مُجَاشع”: وهي ابنة عمّ الفرزدق، وأكثر زيجاته شُهرة، وذُكِر أنّ أبناء الفرزدق جميعهم أنجبتهم النوَّار، وكان قد رثى أربعةً منهم في شِعره، وقِيل إنّه حين طلّقها ندم ندماً شديداً، نَظمَ على إثرِهِ قصيدة يقول فيها:

ندمت ندامة الكُسعيّ لمّا غدت مني مطلقَّةً نوّار

وكانت جنّتي فخرجتُ منها كآدم حين أخرجه الضرار

وكنتُ كفاقئ عينيه عمداً فأصبح ما يُضيءُ له نهار

ولا يوفي بحبّ نوار عندي ولا كلفي بها إلّا انتحار.

شعر الفرزدق

أمضى الفرزدق حياته مُتنقِّلاً بين الخلفاء والوُلَاة، يمدحهم تارةً، ويهجوهم تارةً أخرى، وقد عُرِف عنه حبّه وولاؤه لآل البيت؛ فكان يُجاهر بهذا الحبّ في شِعره مادحاً إيّاهم، ومدافعاً عنهم لا يخشى في ذلك لومة لائم، ولعلّ مدحهُ” لزين العابدين عليّ”، بقصيدته المشهورة (الميميّة) خير دليلٍ على هذا الولاء. والتي يقول فيها:

هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُوَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ،هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُبِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِهالعُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
كِلْتا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفعُهُمَايُسْتَوْكَفانِ، وَلا يَعرُوهُما عَدَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُيَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ
حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ، إذا افتُدِحُواحُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ
ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ،لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
عَمَّ البَرِيّةَ بالإحسانِ، فانْقَشَعَتْعَنْها الغَياهِبُ والإمْلاقُ والعَدَمُ
إذا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُهاإلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى من مَهابَتِهفَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ

ورغم هذا الحبّ لآل البيت إلّا أنّ ذلك لم يمنع الفرزدق من التقرُّب إلى الأمويّين مادحاً إيّاهم طالباً وُدّهم، لا سيّما في زمن الخليفة” عبدالملك بن مروان” وأبنائه. وعندما أصبح الحَجّاج حاكماً على العراق، تَقرّب إليه الفرزدق ومدحهُ، وقد عاصرَ الفرزدق في حياته الكثير من الشُّعراء الذين كان من أشهرهم:[ الأخطل، وجرير، وكعب بن جُعَيل، والأحوَص، وكُثيِّر عَزَّة]. ويُذكَر أنّ الهجاء بينه وبين جرير دام أربعة عقود، انقسم الناس خلالها إلى فريقَين مُتخاصمَين؛ جريريّاً، وفَرزدقيّاً. وقد كان من فُحولِ الشعراء في عصرهِ.

وترك الفرزدق في الشِّعر إرثاً عظيماً؛ تَمثّل بديوانٍ زَخرَ بفنونٍ شعريّة عدّة كان أعظمها في المديح، فيما تنوّع باقيها بين فخر، وهجاء، وغزل. ومن الجدير بالذِّكر أنّ أشعار الغزل المعروفة عن الفرزدق كانت قليلة إذا ما قُورِنت بما تركه جرير منها، إلّا أنّه في الفخر كان له الباع الأطول، كما عُرِف عن الفرزدق مَيله إلى نَظم قِصار القصائد أكثر من طوالها؛ نظراً لكونها أسهل للحفظ، وأكثر شيوعاً وتداوُلاً في المجالس حسب رأيه.

وفاة الفرزدق

أصاب الفرزدق قبل وفاته ما يُسمّى بالدَّبِيلة( وهو تجمُّع قيحيّ في الجوف)، فذهب إلى البصرة للعلاج منه، إلّا أنّه تُوفّي بعد ذلك، وكان قد تجاوز المئة عام، علماً أنّ وفاته كانت في خلافة” هشام بن عبدالملك”، ومن الجدير بالذكر أنّه تُوفِّي قبل جَرير بفترة قصيرة. وقد ذكر المُؤرِّخون روايات مُتقاربة في تحديد السنة التي تُوفِّي فيها الفرزدق؛ ولكنَّ أرجح الروايات تذكر أنّ وفاته كانت عام 110 للهجرة.

قصة المقولة

يقول الفرزدق: أصابنا بالبصرة مطرٌ جودٌ ليلاً، فلما أصبحت ركبت بغلةً لي حتى انتهيت إلى المَربد، وإذا آثار دوابٍ قد خَرجنَ، فظننت أنهم قد خرجوا يَتنزَّهون، وخَليقٌ أنْ يكون معهم طعامٌ وشرابٌ، فاتَّبعت آثارهم حتى أتيت إلى بِغالٍ عليها رِحالٌ جَنب الغدير؛ فأسرعتُ السَّير، فإذا في الغدير نِسوةٌ مُستَنقِعات، فقلت: لم أرَ كاليوم قَطْ.. ولا يوم دارة جُلجُل. قال: ثمَّ انصرفت فنَادَينَنِي: يا صاحب البَغلة إرجع نَسألُك. فأقبلتُ إليهنّ، فَقَعدنَ في الماء إلى حُلوقِهنّ، وقُلنَ: بالله إلّا ما حدَّثتَنا بيوم دَارةِ جُلجُل، فقلت:

حدَّثنِي جَدّي، وهو شيخٌ وأنا غلامٌ يومئذٍ حافظٌ لِمَا أسمع: أنَّ” امرَأَ القيس” كان مُولَعاً بابنة عمٍ له، يقال لها فاطمة، وأنّه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وذلك أنَّ الحيّ احتَملُوا وقَدَّموا الرجال، وخلَّفُوا النِّساء والخَدم والعَسفاء والثِّقل.

فلما رأى ذلك” امرؤ القيس” تخَلَّف عن قومه في غَيَابَةٍ من الأرض، حتى مَرَّت به النساء. وإذا فتياتٌ وفيهنَّ إبنة عمه” فاطمة”، فلمَّا وَرَدنَ الغدير قُلنَ: لو نزْلنَا فاغتسلنا وذهبَ عنَّا بعض ما نَجِد من الكَلال. فقالت إحداهنَّ: نعم؛ فَنزلنَ فَنَحَّينَ ثِيابهنّ، ثمَّ تَجَرَّدنَ فدخلنَ الغدير. قال: فَأتاهنَّ امرؤ القيس مُخاتلاً، فأخذَ ثيابهنّ، ثمَّ جَمعها وقعد عليها وقال: والله لا أعطِي واحدةً مِنكنَّ ثوبها، حتى تخرج كما هي، فتكونُ هي التي تأخذه.

فَأبَينَ ذلك عليه، حتى ارتفعَ النَّهار وتَذَامرنَ بينهنّ، وخَشينَ أنْ يَقصُرنَ دون المنزل الذي يُرِدنَ، فخرجت إحداهنَّ فوضع لها ثيابها ناحيةً، فمَشَت إليها حتى لَبِستهَا، ثمَّ تَتَابعنَ على ذلك، حتى بَقِيت إبنة عمه، فنَاشَدتهُ الله أنْ يَطرح إليها ثيابها، فقال: لا والله أو تَخرُجي، فخرجت فنظر إليها مُقبلةً ومُدبرةً، فوضع لها ثيابها ناحية، فلبِستهَا،

ثمَّ أقبَلنَ عليه فقُلنَ: فَضَحتنَا وحَبستَنا وأجَعْتَنا. قال: فإنْ نَحرتُ لكنَّ ناقتي أتأكُلنَ منها؟ قلن: نعم! فاختَرطَ سيفه فَعَقرهَا ونَحرهَا وكَشطَها، وجمعَ الخَدم حَطباً وأجَّجُوا ناراً عظيمة، فجعل يقطع من سَنامها وكَبدهَا وأطَايبهَا ويرمي به في الجَمر، وهُنَّ يأكلنَ ويأكل معهنّ، ويشرَبُ من فَضلةِ خَمر كانت معهنّ، ويُغَنّيهنَّ ويَنبذُ إلى الخَدم من ذلك الكَباب حتى شبعوا.

فلما رأى ذلك، وأراد الرحيل، قالت إحداهنّ: أنا أحمل طُنفُستهُ، وقالت الأخرى: أنا أحمل رَحلهُ. فتَقسَّمنَ متاع رَاحِلته. وبقيت إبنة عمّه لمْ تحمِل شيئاً، فَحملتهُ على غَارِب بعيرها، وكان يَجنحُ إليها فيُدخِل رأسه في حِجرِها ويُقبّلهَا، فإذا امتنعت عليه أمالَ هَودجَها، فتقول: يا امرأ القيس عَقرتَ بعيري فَانزِل. قال: فما زال كذلك، حتّى جَنَّ عليه الليل، ثم راحَ إلى أهله، ففي ذلك يقول:

ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِـي

فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـلِ

فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَـا

وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّـلِ

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ

فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي

تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً

عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ

ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ


شارك المقالة: