لَأطَأنَّ أرضَ الصِّينِ على صِحَافٍ من ذَهَب

اقرأ في هذا المقال


كان من أعظمِ الفَاتِحين في الإسلام، وصاحبِ شَخصيّة آسِرَةٍ، كانت سبباً في إسلام أُمَمٍ بأكمَلهَا من الأتْرَاك، وَصَلت أقْدَامُ فَرَسهِ إلى الشَّرقِ حتى أدخلَ الإسلام لأرضِ الصِّين النَّائيَة، ولا يُعلَم أنَّ أحداً بعدهُ قد وصلَ بِرايَاتهِ إلى ما وصلَ إليه من بلادِ كَاشغَر بالصِّين.

كان من زمنِ الدّولة الأمَويّة، أعظم دولة إسلامية ظهرت في التّاريخ الإسلامي بعد دولة الخِلافة الرَّاشدة، وعلى الرّغمِ من تَعرُّضهَا لفِتنٍ ومُؤمرات داخليَّة كثيرة إلا أنَّها كانت دولة فتحٍ وجهاد من مُبتَدَاها إلى مُنتَهاهَا، فقد ظَلَّت رَاياتُ الفتحِ الإسلاميّ خَافِقَةً طُوال عَهدهِم، فقد وصلَت خَيلهُم إلى أقصى المَغربِ في أوروبا؛ كما وصلت إلى أقصى المشرقِ في بلاد الصّين. صاحب شَخصيّة جِهاديّة سَاحِرَة بَهَرَت كُلّ من رَآه، وأسَرَتْ نَفسَ كلّ من سَمِع أخباره، أسلمَ على يديهِ الآلاف من الكَفَرَة حُبّاً فيهِ وفي جِهاده وشَجاعتهِ الذي انتَصَرَ على كُلّ أعدائِه، لَمْ يَفِرّ أو يُهزم فى معركةٍ قَطْ.

صَاحب المَقُولة

الأمير أبو حَفْص (قتيبة بن مُسلم بن عَمرو بن حُصَين بن ربيعة البَاهِليّ) من قَبيلةِ بَاهِلة العربيّة. ولد سنة 48 هجرية بأرض العراق، وكان أبوه  (مُسلم بن عمرو)  من أصحابِ( مُصعب بن الزُّبَير) والِي العراق من قِبل أخيهِ أمير المؤمنين( عبد الله بن الزُّبَير)-رضي الله عنه-، وقُتِل معه في حَربهِ ضِدَّ عبد المَلك بن مروان، تَعلَّم العِلم والفِقه والقُرآن، ثمَّ تَعلَّم الفُروسيّة وفُنون الحَرب، فظهرَ فيه النُّبُوغ وهوَ شَاب في مُقتَبلِ شَبابِه، وَقد نَشَأ  قُتيبة على ظُهورِ الخَيل رَفِيقَاً للسَّيفِ والرُّمح، مُحبّاً للجِهاد، وكانت منطقة العراق مَشهورة بكَثرةِ الفِتَنِ والثَّورات، لذلك عَملَ كُلّ وُلَاةِ العراق على شَغْلِ أهلهَا بالجهاد؛ لاستِغلَالِ طَاقَاتهِم الثَّوريّة فى خِدمةِ الإسلام ونَشرِ الدَّعوة؛ لذلك كانَت أرض العراق هي قَاعِدة الإنطِلاق للحَمْلاتِ الجِهاديَّة على الجَبهَةِ الشَّرقية للدَّولة الإسلاميّة، وقد اشترك  قتيبة  فى هذه الحملات منذ شبابه المبكر، وقَد ظَهرت مَوهبَته القِياديّة التي لفَتَتْ إليه الأنظار، وخاصة من القائد العظيم  (المُهَلّب بن أبي صُفْرَة)  وكان خبيراً في معرفةِ الأبطال ومَعادنِ الرِّجال؛ فَتَفَرّسَ فيه أنّه سيكونَ من أعظم أبطال الإسلام، فأوصى به لوالي العراق الشّهير (الحَجّاج بن يوسف الثَّقفِيّ) الذى كان يُحبُّ الأبطال والشُّجعان، فَقرّبَهُ إليه وأوكَل له بعض المَهامّ ليختَبِرهُ.

قُتيبة والِياً على خُراسَان بأمْرِ الحَجَّاج

بعد أنْ أخْضَعهُ الحَجّاج لعدّةِ اختبارات، تَيقَّن الحَجّاج -وكان من دَواهِي الزّمان_ صِحّة وجهَةِ نَظر (المُهَلّب ابن أبي صُفرة) في حِنكَةِ ومَهارةِ (قتيبة)، وأنَّه أمام رَجُلٍ من طِرازٍ خاص، وقائد من النَّوعيّةِ التي يُفضّلهَا الحَجّاج، فكانت أوّل المناصب لقُتيبة والياً على مدينة الرِّي (طهران اليوم)، فأبلى فيها بلاءً حسناً، ثُمَّ ولّاهُ (الحَجّاج) على إقليمِ خُرَاسَان، ويرجع السَّبب في ذلك؛ أنَّ ولاية خراسان الشّاسِعة (تشمل معظم أجزاء من إيران وأفغانستان اليوم) كانت المُنطَلق الرئيسي في رحلة الفتوحات، وأنَّ هذه الولايَة لم تَكنْ مُستقِرّة، ولمْ تكنْ قد دَانَت كُلّها بالسيطرة للمسلمين، وقامت بها العديد من الحَرَكات الإنفِصاليّة ، وبالتالي كانت بحاجة إلى الكثير من الجُهدِ إمّا لاستكمال الفتوحات أو تأمين المناطق التي تمَّ فَتحهَا بالفعل.

استرَاتيجِيّة الفَاتِح العَظيم

سارَ قتيبة بن مسلم على نَفسِ الخُطّة التي سار عليها (المُهلّب بن ابي صُفره)، وهي خُطّة الضَّرَبَات السَّريعة القَويّة المُتلاحِقَة على الأعداء، فلا يَترُك لهم وقت للتّجُمّع أو التَّخطيط لردِّ الهجومِ على المسلمين.

قام قتيبة بالسَّيرِ في حَملَتهِ الجِهاديّة، فَعَمِلَ في حملته الأولى على فتحِ (طَخَارستان السُّفلى) فاستعادها وَثبّت أقدام المسلمين فيها، ثمّ في حملتهِ الثانية أتمَّ فتح بُخَارى وما حولها من القرى والحصون، وكانت أهمُّ مُدن بلاد ما وراء النّهر وأكثَفهَا سُكّاناً وأمنعهَا حُصوناً. بعد ذلك وجَّهَ قتيبة حَملتهُ الثالثة إلى نشرِ الإسلام وتَثبيتهِ فى وادي نهر جِيحُون كُلّه، ثمَّ قام بإتمامِ فتحِ إقليم سَجَستَان فى إيران الآن، وإقليم خَوارِزم -يوجد الآن بين دول إيران وباكستان وأفغانستان-، ووصلت فتوحاته إلى مدينة  سَمَرقَند  فى قلبِ آسيا وضمّهَا إلى دولة الإسلامِ نهائياً.

، بعدها في حملته الرابعة أتمَّ قتيبة فتحَ حوض نهر سِيحُون بما فيه من مدن، ثمَّ دخل أرض الصين وأوغَلَ فيها ووصلَ مَدينة (كَاشغَر) وجعلها قاعدة إسلامية وكان هذا آخِر ما وصَلت إليه جُيوش الإسلام فى آسيا شَرقاً ولمْ يَصِل أحد من المسلمين أبعَدَ من ذلك قَطْ.

قُتَيبَة بن مُسلِم ومَلِك الصِّين

واستمَرّت فُتوحات (قتيبة بن مسلم البَاهلِي) في بلاد ما وراء النَّهرِ جِيحُون وسِيحُون، حتى استَقرَّ المُقَام للمسلمين هناك، ومن البلدات والمدن التي فتحها (الطَّالقَان والصَّغَانيَان وشُومَان وكَفتَان وسَمرقَند)، وقد بلغَ عِظَم فُتوحاته مُستوى جعلَ ملك الصِّين، مُهَاب الجَانب في مَنطقتهِ، يُتَوجَّسُ منه خِيفَة، ويُرسلُ إليه يَطلب إرسالَ سِفَارَة لمعرفةِ ماذا يُريدهُ قتيبة من أرضِ الصِّين.

يَنتَخِبُ قتيبة عَشرَة من خَاصّة رِجالهِ، لهُم جَمالٌ وألسُن وَبَأس وَعَقل وصَلَاح، فَأمَر لهُم بعُدَّةٍ حَسَنةٍ، ومَتَاعٍ حَسَن من الثّياب المُطَرّزة وغير ذلك، وخُيولٍ حَسَنة، وأمّرَ عليهم “هُبَيرة بن مُشَمرَج الكِلابيّ”، وقال لهم: “إذا دَخلتُم عليه فأعلِمُوه أنّي قد حَلَفت أنّي لا أنصَرِفْ، حتى أَطَأ بلادهم على صِحَافٍ من ذهَبٍ،وَأخْتمُ مُلوكهُم وأجبِي خَراجَهُم“.

يقولُ ابن الأثِير في تَاريخِه: “سَارَ الوفدُ فَلمّا قَدمُوا عليهم دَعاهُم مَلك الصّين فَلبِسُوا ثِياباً بيضاء تَحتهَا الغَلائِل، وتَطيّبُوا ولَبسُوا النِّعال والأردِيَة ودَخلوا عليه وعندهُ عُظماء قومهِ، فَجلَسُوا ولَمْ يُكلّمهُم المَلك ولا أحد ممّن عنده فَنهضُوا؛ فقال الملك لمن حضرَ عنده: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: رأينَا قَوماً ما هم إلّا نِسَاءً؛ فلمّا كان الغَد دَعاهُم فَلبِسُوا الوَشْي والعَمائم والمَطارِف وغَدُوا عليه فلمّا دخلوا قيل لهم: ارجعوا وقال لأصحابه كيفَ رأيتُم هذه الهَيئَة؟؛ قالوا هُم أشبَه بهَيئةِ الرِّجال من تلك. فلمّا كان اليوم الثَّالث دَعاهُم فَشَدُّوا سِلاحهم ولبِسُوا الخُوَذ والمَغَافر وأخذُوا السّيوف والرّماح والقِسِيّ وركِبوا. فنظر إليهم ملك الصّين فرَأى مثلَ الجَبل فلمّا دَنُوا رَكَّزُوا رِماحهم ودَفعُوا خَيلهُم كأنَّهم يَتَطَاردُون. فقال الملك لأصحابه: كيف تَرونَهم؟ قالوا مارأينا مثل هؤلاء.

فلمَّا أمسَى بعثَ إليهم أنْ ابعثُوا إليَّ زَعيمكُم، فبعثُوا إليه” هُبَيرَة” فقال له ملك الصّين: “قَدْ رأيتم عِظَم مُلكي، وأنّه ليسَ أحَد يَمنعَكم مني وأنتم في يَديّ بمنزلةِ البَيضَة في كَفّي، وإنّي سَائلكُم عن أمرٍ فإنْ لمْ تَصدُقُوني قَتلتُكُم”. قال: سَلْ ؛ قال: “لِمَ صَنعتُم بِزِيّكُم الأول في اليوم الأول، وكذلك الثاني والثالث ما صنعتم، أخبِروني”؟.

قال هُبَيرة: “أمّا زِيّنَا الأول فَلِباسنَا في أهلِنا، والثاني فَزِيّنَا إذا قابَلنَا أُمَراءَنَا، والثالث فَزِيُّنَا لعَدوّنا”. فقال: “ما أحسن ما دَبَّرتُم في دَهرِكُم، فقُولوا لصَاحِبكُم يَنصرفُ، فإنّي قَد عَرفتُ قِلّة أصحابه، وإلا بعثتُ إليكم مَن يُهلِكَكُم”. فقال له هُبَيرة:

“كيف يكونُ قليلُ الأصحابِ مَن أوّلُ خَيلهِ في بِلادك، وآخرها في منابتِ الزّيتون”؛ وأمّا تَخويفكَ إيَّانا بالقتلِ فإنَّ لنا آجَالاً إذا حَضَرت، فأكرمُهَا القتل ولسنا نَكرَههُ ولا نَخافه؛ وقد حَلفَ قتيبة ألَّا ينصرفَ حتى يَطأ أرضَكُم على صِحَافٍ من ذهب، ويَختُم مُلوكَكم ويُعطَى الجِزيَة”.

أعادت هذه المقولة ملك الصين إلى صَوابهِ فَاعتَدَلَ في كَلامهِ، وقال لهُبيرة: فَما الذي يُرضِي صَاحبكم؟ قال: إنَّه حَلف ألّا يَنصِرف حتى يَطَأ أرضكم، ويختُم مُلوككم(أي يجعلهم عبيداً عنده)، ويُعطى الجزية. قال: فإنّا نُخرجهُ من يَمينهِ ونبعثُ تُراب أرضِنَا فَيَطَأه ونبعثُ إليه ببعضِ أبنَائَنا فَيَختُمهُم ونبعث إليه بِجِزيةٍ يَرضَاها، فبعثَ إليه بِهديّة وأربعةِ غِلمان من أبناءِ مُلوكهِم ثُمّ أجَزاهُم فأحسن جَزاءهم، فقَدِموا على قُتيبة فَقبِلَ الجِزيَة وختم الغِلمان ورَدَّهم ووَطِئَ التُّراب.

أرَادَ قتيبة مُواصَلة الفتحِ الإسلاميّ في الصّين، وراح يُخَطّط لذلك؛ وجَهَّزَ الجُيوش لفتحِ الصّينِ كلِّها، إلّا أنَّ التَّغيُّراتِ السِّياسيّة التي وقعت في هذه الفترة عِقْبَ وفاة الخليفة الأموي {الوليد بن عبد الملك} في الشّام؛ وتَولّي (سُليمان بن عبد الملك) من بعده، قد أطَاحَت بـ(قتيبة) من منصبه والياً على خُراسان ومن قيادةِ الجيش؛ ليَتوقّف عندَ التُّخومِ الغَربية للإمبراطُوريّة الصِّينية، وتحديداً عند منطقة كاشغر، التي تقع في تركستان الشرقية داخل حدود الصين الحالية.

كان للأميرِ قتيبة بن مسلم؛ الفَضْلَ الأول بعد الله -عزّ وجلّ- في إدخالِ القبائل التركية في الإسلام، وكان منهم الأتراك الغُزيّة والأتراك القَراخَطاي والأتراك القُوقَاز والأتراك الأيجُور والأتراك البُلغار والأتراك المَغول، فقد سَحَرت شِخصيّتهُ الجِهاديّة الأترَاك فدخلوا فى دين الله أفواجاً حبَّاً في بطولات وشجاعة هذا القائد الجَسُور الذى رأى فيه الأتراك الرّمزَ الحَقيقي للفَضِيلة والشَّجاعة والرُّجولة، فكان من قبائل الأتراك هذه؛ أنّه خرجَ منهم فيما بعد قادة عِظام نشُروا الإسلام وفتحوا البلاد، مثل السَّلاجقة العِظام، والعُثمانيّين، والأوزبَك، والمَماليك قادة العالم، وهؤلاء أدوا خدمات جليلة لا تنسى فى خدمة الإسلام.

إذا أردّتَ أيّها القارئ أنْ تعرِف القُوّة والهيبة التي كان يَمتَلكهَا(قتيبة) في نفوس أعدائه، فقد شَهِدَ لهُ بذلك، أحد مَلوك الأتراك ويُقالُ له (الأصبهند)، عندما سُئلَ عن قتيبة بن مسلم ويزيد بن المُهلّب وهو من وَلِيَ العراق بعده؛ أيّهمَا كان أعظم عندكم وأهْيَب؟ فقال: “لوكان قتيبة بأقصى حَجَرٍ في الغَرب مُكَبّلاً، ويَزيد معنا في بلادنا والٍ علينا؛ لكان قتيبة أهْيَبَ في صُدورنا، وأعظم من يزيد “.

المصدر: الكامل في التاريخ ابن الأثير


شارك المقالة: