يا ليت أم عمر لم تلد عمر

اقرأ في هذا المقال


يُخاطِبُ النّبي أبا هُريرة، وبعضاً من صَحَابَتهِ، ويقول له:” يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ الْأَصْفِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ، الشَّعِثَةَ رُؤوسُهُمُ، الْمُغْبَرَّةَ وُجُوهُهُمُ، الْخَمِصَةَ بُطُونُهُمْ إِلَّا مِنْ كَسْبِ الْحَلَالِ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِنْ خَطَبُوا الْمُتَنَعِّمَاتِ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَإِنْ طَلَعُوا لَمْ يُفْرَحْ بِطَلْعَتِهِمْ، وَإِنْ مَرِضُوا لَمْ يُعَادُوا، وَإِنْ مَاتُوا لَمْ يُشْهَدُوا، قَالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لَنَا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ذَاكَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيّ.

صاحب المقولة

أبو حفص عمر بن الخطاب بن نُفَيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب النبي_ صلى الله عليه وسلم_. وأمّهُ هي حَنتمة بنت هشام المخزومية، وهي ابنة عمّ كلٍ من إمّ المؤمنين أم سَلمَة، والصحابي خالد بن الوليد، وعمرو بن هشام المعروف بلقب أبي جهل.

وهو ابن عمّ زيد بن عمرو بن نُفيل المُوّحد على دين إبراهيم_ عليه السلام_. وأخوه الصحابي زيد بن الخطاب؛ شهيد معركة اليَمَامة، والذي كان قد سَبق عمر إلى الإسلام.

نشأته

ولد بعد عام الفيل، وبعد مولد الرسول محمد_ صلى الله عليه وسلّم_ بثلاث عشرة سنة. وكان بيت عمر في الجاهليّة في أصل الجبل الذي يقال له اليوم جبل عُمر بجانب الكعبة، وكان اسم الجبل في الجاهلية العَاقِر وبه منازل بني عَديّ بن كعب.

نشأ في قريش وامتاز عن معظمهم بتعلم القراءة والكتابة. وعمل راعياً للإبل وهو صغير، وكان والده غَليظاً في مُعامَلته. وكان يرعى الأبل لوالدهِ ولخالات له من بني مخزوم. وتعلّم المُصَارعة وركوب الخيل والفروسية، والشعر. وكان يَحضُر أسواق العرب وسوق عكاظ وسوق مِجَنَّة وسوق ذِي المِجَاز، فتعلم بها التِّجارة التي ربح منها وأصبح من أغنياء مكة.

كان عمر من أشراف قريش، وإليه كانت السِفارة فهو سفير قريش، فإن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، وإنْ نَافرَهم مُنَافر أو فاخرهم مُفاخِر رَضُوا به، فبعثوه منافراً ومفاخراً. 

هو ثاني الخُلفاء الراشدين، ومن كبار أصحاب الرسول؛ وأحد أشهر الأشخاص والقادة في التّاريخ الإسلاميّ ومن أكثرهم تأثيراً ونفوذاً؛ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن علماء الصحابة وزُهّادهم. تولّى الخلافة الإسلامية بعد وفاة أبي بكر الصديق_ رضي الله عنه_، في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ١٣ هجرية. وكان قاضياً خبيراً وقد اشتُهِرَ بعدله وإنصافه الناس من المظالم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وقد لُقِّب بالفاروق لأنّه كان يُفرِّق بين الحق والباطل ولا يخاف في الله لومة لائم.

إسلامه

أسلم عمر في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة وهو ابن سبع وعشرين سنة. وذلك بعد إسلام حمزة بن عبدالمطلّب بثلاث أيام. وكان ترتيبه الأربعين في الإسلام. وكان النَّبيُّ قد قال: “اللَّهُمَّ أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام.

هو الذي وضع التّقويم الهجري، وفي عهده بلغ الإسلام مبلغاً عظيماً، وتوسع نطاق الدولة الإسلامية حتى شمل كامل بلاد العراق ومصر وليبيا؛ والشام وفارس وخراسان وشرق الأناضول، وجنوب أرمينية وسِجستَان. وهو الذي أدخل بيت المقدس، تحت حكم المسلمين لأول مرة.

وقد تجلّت عبقرية عمر بن الخطاب العسكرية في حملاته المنظمة المتعددة التي وجهها لإخضاع الفُرس الذين فاقوا المسلمين قوة، فتمكن من فتح كامل إمبراطوريتهم خلال أقل من سنتين، كما تجلّت قدرته وحنكته السياسية والإدارية عبر حفاظه على تماسك ووحدة دولة كان حجمها يتنامى يوماً بعد يوم؛ ويزداد عدد سكانها وتتنوع أعراقها.

يَتّفق المؤرخون أنّه بعد عودة عمر بن الخطاب، من مكة المكرمة بعد أنْ أدّى فريضة الحج؛ وعاد إلى المدينة المنورة؛ طعنه أبو لؤلؤة المجوسي(فيروز)، غلام المُغيرة بن شعبة؛ بخنجر ذات نصلين ست طعنات، وهو يُصلي الفجر بالناس، وكان ذلك يوم الأربعاء ٢٦ ذي الحجة سنة 23 هـ، الموافق لسنة 644 م، ثم حُمل إلى منزله والدم يسيل من جُرحه وذلك قبل طلوع الشمس. وحاول المسلمون القبض على القاتل فَطَعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فلما رأى الصحابي عبدالرحمن بن عوف ذلك، ألقى رِداءً كان معه على أبي لؤلؤة فَتعَثَّر مكانه وَشَعر أنّه مأخوذ لا محَالة؛ فَطَعن نفسه مُنتحراً. ودُفِنَ رضي الله عنه بجانب رسول الله_ صلى الله عليه وسلم _؛ وأبي بكر الصديق في حُجرَةِ عائشة أم المؤمنين، في المسجد النّبوي الشريف.

أويس بن عامر القَرَنيّ – بفتح القاف والراء وتشديد الياء-، لقب بسيد التابعين، أحد الزهاد الثمانية الذين تركوا الدنيا، ملذات الدنيا، فحفظهم الله وآتهم من فضله ورضوانه، هو من الذين قال الله فيهم: “والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا”. ولد في اليمن، بلدة قرن، من قبيلة عربية تسمى مراد، ولد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه لم يلتقي به، ولو أنه نظر إليه نظره لَعُدَ من الصحابة، لكنه من لم يلقاه بعين البصيرة كما أسلفنا ولكن إلتقاه الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالروح، فصار من التابعين.

قصة المقولة

بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ بين أصحابه، قال لهم:“ إنَّ خير التابعين رجلٌ يقال له أويَس، له والدةٌ وهو بها بَرٌّ، وكان به بياض فدَعى الله فأذهبه عنه إلا موضع الدّرهم، ثم استغفر الرسول- صلى الله عله وسلم- لإويس، ثم أكمل حديثه وقال: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ الْأَصْفِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ، الشَّعِثَةَ رُؤوسُهُمُ، الْمُغْبَرَّةَ وُجُوهُهُمُ، الْخَمِصَةَ بُطُونُهُمْ إِلَّا مِنْ كَسْبِ الْحَلَالِ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِنْ خَطَبُوا الْمُتَنَعِّمَاتِ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَإِنْ طَلَعُوا لَمْ يُفْرَحْ بِطَلْعَتِهِمْ، وَإِنْ مَرِضُوا لَمْ يُعَادُوا، وَإِنْ مَاتُوا لَمْ يُشْهَدُوا، قَالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لَنَا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ؟ (يُعنُونَ بذلك أنّهُ لا يوجد واحدٌ بينهم مِثله)، فقَالَ_ صلى الله عليه وسلم_: ذَاكَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيّ.
قالوا يا رسول الله: وما أوَيس القَرني؟
قال- عليه الصلاة والسلام-: أشْهَل ذا صَهوة، بعيد ما بين المَنكبين، معتدل القامة، آدمٌ شديد الأدمة، أسمر شديد السَّمار، ضاربٌ بِذِقنهِ إلى صدره، رامي بذِقنه إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يتلو القرآن يبكي على نفسه، مُتَّزر بإزار صوف ورداء صوف، مجهول من أهل الأرض معروف من أهل السماء، لو أقسم على الله لأبر قسمه، ألا وتحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء- أي بَرَص-، ألا وإنّه إذا كان يوم القيامة، قيل للعباد أدخلوا الجنة، ويقال لأويس قف فاشفع، فيُشفَّعهُ الله- عز وجل-، من مِثل عدد ربيعة وَمُضَر( أكبر قبيلتين في العرب)، ثمّ التفت وقال: يا عُمر ويا عليّ، إذا لَقَيتُماه، فاطلبا إليه أنْ يستغفر لكما، يغفر الله تعالى لكما.

إلتقاء أمير المؤمنين مع سيد التابعين

بعد عِدّة سنوات؛ وبعد أنْ انقطع الوحي عن أهل الأرض بانتقال رسول الله– صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، وأظلمت الدنيا برحيله، خلفه من بعده “أبي بكر الصديق”– رضي الله عنه-، وبعد وفاته– رضي الله عنه-، خَلفَ من بعده أمير المؤمنين“ عمر بن الخطاب”– رضي الله عنه-، وفي خلافته كان كُلما جاءه وفد من اليمن يسألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ وفي ذاكرته حديث النبي_ صلى الله عليه وسلم_، وتمرُّ الأيام والسِّنين ومازال صاحب رسول الله يبحث عن أويس بين وفود المسافرين الوافدين من اليمن ليُنفِّذ وصية حبيبه_ رسول الله صلى الله عليه وسلم_.

ويأتيهِ وفدٌ من اليمن بيوم من الأيام، فسأل كعادته: أفيكُم أوَيس بن عامر؟ قالوا نعم، فترك سيدنا عُمر المسجد وذهب يبحث عنه، فوجده يُنظِّف الرَّواحل، ويُطعم المسافرين.
فقال له عُمر: ما اسمك؟ قال: عبد الله. قال- رضي الله عنه-: كُلّنا عبيد لله، ما اسمك الذي سَمَّتك به أمّك؟ قال: أويس. قال عُمر: أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مُراد ثمّ من قَرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك بَرصٌ فَبَرَأك الله منه إلا موضع درهم. قال: نعم.
قال: ألك والدة؟ قال: نعم.
فقال له أمير المؤمنين: سمعت رسول الله يقول يأتي عليكم“ أويس ابن عامر” مع أمْدَاد اليمن، من مُراد ثمَّ من قَرن، كان به بَرصٌ ثمَّ بَرَأ منه إلّا موضع درهم، له والدةٌ، هو بَرٌّ بها لو أقسم على الله لأبَرّه، فإن استطعت أنْ يستغفر لك فافعل، فاستغفرلي يا أويس، فاستغْفرَ له.


وفي رواية أنَّ عليّ وعُمر– رضي الله عنهما- عندما سَمِعا بخبر وجوده في المدينة المنوّرة، خرجا إليه وسألاه عن إسمه، وطلبا أنْ يدعوَ لهما فدَعى للمسلمين، قالوا: خُصّنا بالدّعاء والإستغفار، قال: ما خَصَصتُ أحد في حياتي.

يا ليت أم عمر لم تلد عمر!

بعد أنْ فرِح أمير المؤمنين“ عمر بن الخطاب” – رضي الله عنه-، بلقاء أوَيس بعد كل هذه السِّنين، أراد أنْ يُبقيهِ بجانبه ويَأنَس بصُحبته، فخاطبَه وسأله عمَّن ترك من أهله في اليمن، فقال له: أمي، ثم سأله إلى أين تريد؟ قال: أريد الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها- واليها-. قال: أكون في غبرات الناس أَحبّ إليّ- أراد أن يبقى مع بقايا الناس_، وليس المشهورين المُقدَّمين.
ثمّ طَمِع أمير المؤمنين في أن يستغفر له مرة أخرى، فألحَّ عليه وقال له: استغفر لي، فقال سيدنا أوَيس: أوَيَستغفر مثلي لِمثلِك يا أمير المؤمنين؟ فقال له سيدنا عمر_ رضي الله عنه_: أستَحلفُك بالله أن تستغفر لي؟ قال أويس: اللهم اغفر لعمر أمير المؤمنين. فأمَّنَ أمير المؤمنين على دُعائه، وقال له: من اليوم أنت أخي لا تُفارقني، لكنَّ أويس رفض ذلك، ورغب في الرَّحيل( أراد ترك الشهرة وأراد أن يبقى مجهولاً في الأرض)، فلمّا رأى أمير المؤمنين منه ذلك؛ طلب منه أن ينتظره ليأتي إليه بنفقة وكسوة وقال له: هذا موعد بيني وبَينِك لا تُخلِفهُ،( طلب منه ألا يرحل حتى يأتي له بذلك)، لكنّ أويس قال له: لا ميعاد بيني وبينك لا تراني بعد اليوم ولا أراك، ثم قال: ما اصنع بالنفقة وماذا أصنع بالكسوة. ثم قال أويس: يا أمير المؤمنين إنَّ بين يديّ ويَديك عقبة كَئوداً( أي إنّ الطريق للآخرة صعبة للوصول)، لا يجاوزها إلا ضَامر مُخِفّ مَهزول( أي لا يصلها أحد نظيفاً خالياً صافياً إلا الضامر الضعيف المُخفّ المهزول الذي لا يحمل شيئا ليس له ولا عليه)؛ فَأخِفّ يا عمر!
وما إن سمع عمر كلامه الذي يتفطَّر منه القلب، رمَى ما بيده، ونادى بأعلى صوته: ألا ليت أم عمر لم تلدَ عُمر، يا ليتها كانت عاقراً لَم تُعالج حَمْلها، ألا من يأخذ الدنيا بما فيها ولها. فلمّا رآه أوَيس على هذا الحال هدّأ من رَوعهِ وقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، خُذ أنت من ها هنا حتى آخذ أنا مِن ها هنا.

وفي آخر زمن عمر والفتوحات الإسلامية قد وصلت إلى أذربيجان( الإتحاد السوفييتي سابقاً)، خرج أويس مع المجاهدين لفتح تلك البلاد، وفي طريق العودة بعد الفتح يقول أصحابه: مَرِض أويس فحاولنا علاجه فما استطعنا، فمات في الطريق، فنزلنا بالمكان الذي مات فيه لنرى ماذا نصنع، فوجدنا قبراً محفورً وماءً مسكوبً وكفناً وحنوطاً، وكان المكان لا يوجد فيه أحد، فالتفتنا لنرى من حفر القبر فما وجدنا أحداً، فغسّلناه ودفنَّاه، وصلّينا عليه، ثمَّ مضينا قليلاً، وقلنا لو رجعنا لَعَلمنا قَبره، فلمّا رجعوا لمْ يجدوا قبراً ولا أثراً، فعرفنا أنها كرامات.


شارك المقالة: