الاتجاهات الفكرية في الرعاية الاجتماعية

اقرأ في هذا المقال


تأثرت الرعاية الاجتماعية بالاتجاهات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسية، في توجيهها، وفي تصنيفها، بل في تحديد الاتجاهات الحكومية الداعمة لها، وعلى هذا يمكن أن نجد عبر تاريخ هذه الاتجاهات الفكريّة آراء مُعارِضة للرعاية الاجتماعيّة، ومن ثُمَّ تدعو الحكومات لِعدم الأخذ بها. ويُقابلها آراء أخرى مُغايرة تدعو للتدخُّل الحكومي لتنظيم هذه الرعاية كمسؤوليّة أساسيّة للحكومات.

الآراء المعارضة للرعاية الاجتماعية

تبنَّت الآراء المُعارضة للرعاية الاجتماعيّة بمفهومها المُنظّم الحديث، عدم التدخّل الحكومي في الرعاية الاجتماعيّة وتَركِ أمر هذه الرعاية عشوائية، ويمتلك أفراد المجتمع حريّة التصرّف في تقديمها. ولقد نبعت هذه الآراء من أفكار سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة.

الآراء السياسية المعارضة للرعاية الاجتماعية

نبعت هذه الآراءُ من الفكر السياسي الأمريكي، فمن أهمِّ السِمات الرئيسة للمنهج الأمريكي الفلسفي هو تحاشيهم أن تستبعدهم النُّظم والعادات وقواعد الأسرة وبديهيتها، أو أن تساعدهم آراء الطبقات وضروب التعصب القومي إلى حدٍّ ما، وكذلك عدم الأخذ بالتقاليد والعُرف. إلّا من حيث إنّها وسائل لتحصيل المعارف والبحث عن أسباب الأشياء لأنفسهم، والنفاذ من الصورة إلى الجوهر، فتلك هي سِمات منهج الأمريكيين الفلسفي، والذي تحوّل الآن لِما يُسمى بالبرجماتيّة.

وأكبر مِيزة امتاز بها الأمريكيون، أنهم وصلوا إلى حالة الديمقراطيّة من غير الحاجة إلى الاكتواء بنار حرب الديمقراطيّة وأنهم ولدوا متساويين من غير الحاجة إلى أن يعملوا على أن يصيروا لذلك.

ولقد ناضل الأمريكيون ضِدّ نزعة المُساواة إلى عزل الناس لتفريق بعضهم عن بعض، بل أنشأوا المؤسّسات الحرَّة، ونجحوا في قهر النزعة. ولم يكن المُشَرِّعون الأمريكيون يعتقدون أن تمثيل الأمة كلها تمثيلاً عاماً يكفي أن يدفع عن المجتمع داءً يَعدُّونَهُ مُستوطِناً في كيان الجماعة الديمقراطي.

بل رأوا من الخير أن يلعبوا روح الحياة السياسيّة في كلِّ جزءٍ من أجزاء الدولة حتى يستكثروا من فرص العمل الجماعي لكلِّ أعضاء الجماعة، ممَّا يُشعِرهم باستمرار اعتماد بعضهم على بعض. ولقد كانت فكرة حكيمة بالفعل وذلك بوضع هذه الأعمال في محوَّر اهتمام كل مواطِني المُجتمع وليس السياسيون فقط.

ويتبنّى المجتمع الأمريكي نظاماً رأسمالياً يُؤثّر على توجُّهات مواطِنيه، ومن أهمِّ معالم هذا النظام:

  • من حيث الدافع الاقتصادي: يُسيطر عليه السعي إلى الربح والتنافس، وتَجمع نَفْسِيّة الرأسمالي بين المخاطرة من ناحية والحذر والحساب من ناحيةٍ أخرى.
  • من حيث التنظيم الاجتماعي: ينتشر في الرأسماليّة مشروعات خاصّة يقوم نشاطها على أساس المُبادلات السوقيّة، وتجمع بين أصحاب وسائل الإنتاج والعمل عن طريق السوق والتعاقُد، وتسود الحريّة الاقتصاديّة والمُنافسة بين مشروعات هَمُّها الأول تصريف إنتاجها.
  • من حيث الفن الإنتاجي السائد: فالمجتمع قد تعدّى في هذه المرحلة الاعتماد الأساسي على الطبيعة، وصار مُسيطراً عليها مُكيّفاً لها، ويتطوّر الفن الإنتاجي في الرأسماليّة تطوّراً سريعاً نتيجةً للبحث العلمي المُنظّم، وتغلب فيه الآلية على اليدوية.

ويتحكّم في المُمارسة السياسيّة داخل هذا المجتمع الأحزاب السياسية، التي تأخذ بالآراء العامّة لا بالحالات الحزبيّة الخاصّة، وتأخذ بالآراء لا بالأشخاص. وتستخدم هذه الأحزاب سلاحين رئيسيين لإدراك ما تنشرهُ من نجاح؛ حريّة الصحافة وحريّة الاجتماع.

وفي ضوء هذه الاتجاهات السياسيّة نمت الليبراليّة السياسيّة التي تدعو لِعدم التّدخل في خصوصيات أفراد المجتمع من جانب، ومن جانب آخر ترك أمور رعاية باقي أفراد المجتمع المُتَخلّفين عن النظام السياسي للمُجتمع للخيرين من أفراد المجتمع، يقدّمون لهم ألوان الرعاية في صورة خدمات الإحسان لأنهم لا يستحقّون أكثر من ذلك لأنهم مُتَخلفين عن رَكْبِ التقدم في المجتمع، فهم بالنسبة لهم سواقِط المجتمع.

الآراء الاجتماعية المعارضة للرعاية الاجتماعية

تُعتبر المدرسة الداروينيّة الاجتماعيّة أقرب الآراء المُفسّرة للاعتراض على نظام الرعاية الاجتماعيّة. وبالرغم من أن (دارون) هو صاحب هذه النظرية، إلّا أنَّ تلاميذه(سبنسر، سمنر) هما اللذان طوَّرا هذه النظرية؛ ليصنعوا منها الداروينيّة الاجتماعيّة، حيث يقولان أّن حركة التغيير في المجتمع متروكة لِقوى لا يمكن تغييرها أو تعديلها وهي قوى طبيعيّة لا مجال للإنسان للسيطرة عليها، وأن محاولات التدخل في تنظيم الرعاية هي محاولات ستُنتِج تخلخل في التوازن الاجتماعي القائم في المُجتمع لذلك لا جدوى من الحركات الإصلاحيّة والاشتراكيّة، لذلك فالتنافس هو قانون الحياة، ولا يوجد علاج للفقر إلّا بالجهود الذاتيّة الفرديّة، وعلى الفقراء أن يدفعوا ثمن فقرهم ضدّ الطبيعة، والعمل على تَحمُّل مخاطرها أو الهلاك.

و بالتالي فالأفكار الاجتماعيّة تدعو للتعامل مع الطبيعة على عِلاتِها، دون تدخل لتنظيم العلاقات بين الأفراد حتى لو كانت في صورة الإحسان؛ لأن ذلك سيُفسِد الطبيعة نفسها. بل أنهم يَرونَ أن تغيير حال الفقراء في المجتمع سيُحَوّل المجتمع نفسهُ إلى مجتمع للكسالى والمُفسدين، حيثُ يزداد أعداد الفقراء وتزداد شرورهم خطراً على المجتمع، والحلّ الأمثل من وجهة نظرهم هو تركهم للطبيعة فهي التي ستقضي على الضعفاء.

الآراء الاقتصادية المعارضة للرعاية الاجتماعية

تبنى الليبراليون الاقتصاديون دعاوى عدم التدخُّل في الرعاية الاجتماعيّة، حيث يفسرون أن تدخل الدولة يتعارض مع الحريّة الفرديّة، كما أن وظيفة إضافية لها تفرض عليها أعباء مُثقَلة بالواجبات، وبالتالي تُقدَّم الخدمات بصورة سيئة، وأنّهُ لو تُرِكَت الأعمال للأفراد ستُقدَّم بصورة أفضل نتيجة للحافز الفردي والمُنافسة.

ولقد ساعدت هذه الآراء الليبراليّة على إفساد الوسط الاجتماعي للإنسان وتمزيق للوَحَدات الاجتماعية وزوال النظم الاجتماعيّة وتخريب بيئة الإنسان الطبيعيّة، حيث يُحدثنا(باسكون) عن ذلك موضحاً إفساد النمو الليبرالي الاقتصادي للوسط الاجتماعي للإنسان.

تفترض التنميّة الليبراليّة الإقرار بالإنجازات وحريّة مُمارسة مُختَلف أشكال الاستقلال الذاتي الفردي. ويقول (برتران دوجوفيل) إنَّ إنسان الحاضرة الإنتاجيّة ينبغي أن يكون دائم الترحال، يبادر إلى حيث تستدعيهِ غايتهِ في إبلاغ المنتج أعلى حِدة. والنتيجة أنها تمزيق مؤلم غالباً للوَحَدات الاجتماعيّة التقليديّة، ويتبع ذلك اضمحلال النظام العائلي الوسيع، وزوال النُّظُم الاجتماعيّة القائمة على العُرف وإحلال نُظُماً مُؤَسّسية على العقد وتكافؤ الفرص، وبتراخي الروابط العشائريّة وتتقلّص الحقوق المُعترف بها للفئات الاجتماعيّة.

كما يساعد هذا النمو الليبرالي على تخريب بيئة الإنسان الطبيعيّة ويتمثّل ذلك في التلوّث والازدحام. حيث يساعد التلوث في الإفساد غير المرغوب للصفات الفيزيائيّة أو الكيميائيّة أو البيولوجيّة للهواء والتربة والماء، والذي من شأنه أن يهدّد فعليّاً حياة الإنسان أو أجناس أخرى. أمّا الازدحام فيظهر عندما يكون للأفراد المستعملين لوسائل ذاتيّة لإنجاز أغراضهم الخاصّة، فيضايقون بعضهم بعضاً لدرجة أن هذه المُضايقة تُسبب انخفاضاً شديداً جداً في مردود وسائطهم الذاتيّة (ازدحام الطرقات، زيادة النفقات، ارتفاع نفقات الأمن، اختراعات لبدائل باهظة التكاليف للتعامل مع حوادث الطرق، نقصان قيمة استعمال الممتلكات الخاصة).

الأوضاع المجتمعية الناشئة والمحصلة من المعارضة للرعاية الاجتماعية

  • تُرِكَت مجالات الرعاية الاجتماعيّة للمُبادرات الفرديّة والإحسان الفردي.
  • أصبحت الرعاية الاجتماعيّة قاصرة على الجهود الأهليّة التطوعيّة، فوُصِفَت بأنها شكل من أشكال الإحسان.
  • عدم تحمُّل الجمعيات التطوعيّة للمُسؤوليّة القانونيّة لتوفير الرعاية الاجتماعيّة، وارتباط أعمالها بالعشوائيّة المُلزِمَة.
  • أصبحت الرعاية الاجتماعيّة مِنحة وليست حقاً للمستفيدين منها.

شارك المقالة: