تعامل بلانشوت مع الفيلسوف ليفيناس

اقرأ في هذا المقال


كان إيمانويل ليفيناس فيلسوفًا رئيسيًا في القرن العشرين حاول أن يمضي فلسفيًا إلى ما وراء الظواهر والأنطولوجيا والانخراط في دراسة فورية وغير قابلة للاختزال لطبيعة ومعنى الأشخاص الآخرين، وهو شخص متدين بشدة وكتب ليفيناس أيضًا على نطاق واسع حول الموضوعات اليهودية، كما كان هناك علاقة وثيقة بين موريس بلانشوت وليفيناس ساهمت في تطوير الفلسفة بوجه عام.

لقاء بلانشوت بليفيناس:

التقى بلانشوت وليفيناس لأول مرة في ستراسبورغ عام 1925 أثناء دراسة الفلسفة، وسرعان ما طوروا صداقة عميقة استمرت حتى وفاة ليفيناس في عام 1995، وهناك الحكايات المختلفة من صداقتهم معروفة جيدا، فنحن نعلم على سبيل المثال أنّ ليفيناس هو من قدم بلانشوت لأول مرة إلى كينونة هايدجر والزمان في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وبعد أكثر من عقد بقليل كان بلانشوت هو الذي ساعد في تأمين ملاذ آمن لزوجة ليفيناس وابنته في دير خلال الحرب.

ومع ذلك فإنّ مثل هذه الحكايات لا يمكن إلّا أن تقدم إحساسًا سطحيًا بالرابطة العميقة التي نشأت بين هذين الرجلين، والتي تختلف في خلفياتهما ومعتقداتهما واهتماماتهما، وإنّ الدين المتبادل للتأثير المشترك بينهما من شأنه أن يغير كل مسار من مساراتهما الفكرية بشكل لا رجعة فيه، ويكون بمثابة حافز لبعض أهم التطورات في تفكير بلانشوت.

نهج ليفيناس الفلسفي:

عندما يتفاعل بلانشوت طوال كتاباته مع أفكار ليفيناس (الذي اعتبره جنبًا إلى جنب مع باتايلي أقرب أصدقائه)، ولم تكن استراتيجية بلانشوت أبدًا مجرد تكرار دون تمييز مذاهب ليفيناس الفلسفية ناهيك عن ملاءمتها على أنّها عقائده الخاصة، وبدلاً من ذلك يثني بلانشوت على ليفيناس بشكل أكثر تقوى في اللحظات الدقيقة في نصوصه عندما يبرز الاختلاف والمسافة بينه وبين ليفيناس، ويقترح بلانشوت أنّ الإخلاص للصديق يتطلب قدرًا من الخيانة الزوجية الإجبارية، ومن خلال الشهادة على الاختلافات بينه وبين ليفيناس كما يشهد بلانشوت ببلاغة على عمق علاقتهما.

يظهر اسم ليفيناس لأول مرة في عمل بلانشوت المنشور في حاشية (الأدب والحق في الموت) المنشور في عام 1947، وعلى الرغم من ندرة الإشارات الصريحة إلى ليفيناس في الإنتاج النقدي الضخم لبلانشوت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إلّا أنّ وجود بعض الاستعارات الليفية لا لبس فيها خلال هذه الفترة، ومن أهم هذه الأمور التي يحاول كل من ليفيناس وبلانشوت تفسيرها على أنّها تحدٍ للأنطولوجيا الأساسية لهيدجر وكذلك لفلسفة الموت عند هيجل.

لم يكن حتى عام 1961 مع نشر كتاب ليفيناس الكلية واللانهاية (Totality and Infinity) حيث قام بلانشوت بالتعامل الواضح مع فلسفة ليفيناس، وتأخذ هذه المشاركة في البداية شكل ثلاثة فصول مكرسة لفلسفة ليفيناس في المحادثة اللانهائية عام 1969، ثم تليها أجزاء عديدة في صفحات كتابة الكارثة عام 1980 وأثر رجعي على صداقتهما (رفيقنا السري).

في حين أنّ نطاق تلميحات بلانشوت السابقة (أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين) إلى الفكر الليفيناس تقتصر في المقام الأول على النظر في كلمة يوجد (il y a) وتأثيرها على الوضع الأنطولوجي للعمل الفني (أو الأدب) وفي قلب ما بعد عام 1961، فيجد المرء تحولًا ملحوظًا في الاهتمام والتركيز نحو المجال الأخلاقي والسياسي، وهي خطوة تم تنفيذها كاستجابة مباشرة للاتجاهات الجديدة الاستفزازية التي أدخلت في فكر ليفيناس.

من الأهمية بمكان في فلسفة ليفيناس خلال هذه الفترة هو شخصية الآخر (Autrui)، فيقف ليفيناس الآخر في تناقض حاد مع مفهوم الآخر الذي كان سائدًا في جميع أنحاء التقليد الفلسفي الغربي ولا يعترف بالتخصيص أو الوساطة أو المعاملة بالمثل، وهذا الآخر غير قابل للاختزال جذريًا لأي فكرة عن نفسه أو الذات، كما إنّ الوقوف فيما يتعلق بالآخر يعني الوجود في علاقة لا نهائية مع تلك التي تحطم كل أشكال الكلية والالتزام بما يتجاوز الوجود والعدم.

علاوة على ذلك كما يؤكد ليفيناس فإنّ الآخر يثقل كاهل الذات بمسؤولية أخلاقية يستحيل التراجع عنها ويستحيل تحقيقها بشكل مرض، وهذه العلاقة الأخلاقية ليست منتقاة بل مفروضة على الذات، حيث إنّها تطالب بأن يضع الموضوع الآخر قبل كل شيء.

تعليق بلانشوت على فلسفة ليفيناس:

في سياق هذه التطورات الفلسفية يدخل بلانشوت دون قبول أي من هذا دون انتقاد أو بدون تحفظ في حوار صريح مع نصوص ليفيناس من عام 1961 فصاعدًا، ففي أوسع المصطلحات ما يهدف بلانشوت إلى القيام به عبر هذه الارتباطات المختلفة هو استكشاف الطرق التي قد تسمح لنا بها العلاقة مع التغيير المطلق التي وصفها ليفيناس بإعادة التفكير في طبيعة العلاقات الإنسانية والمجتمع.

وبهذا المعنى لا يتبنى بلانشوت فلسفة ليفيناس كفلسفة خاصة به ولا يناقضها بل يدفعها نحو حدودها، أي إلى النقطة التي تنفتح فيها فلسفة التعالي الليفيناس التي تلوح إيحاءاتها الدينية بشكل كبير على شكل جديد من الإنسانية العلمانية ترتكز على تركيز ملموس على المسؤولية الأخلاقية السياسية.

للتحرك في هذا الاتجاه يمنح بلانشوت فلسفة ليفيناس مكانًا متميزًا في نصوصه مع رفضه طوال الوقت تجنيبها النقد أو الاستجواب أو التبديل، وطوال كتاباته في الستينيات وما بعدها لم يتوقف بلانشوت عن طرح أسئلة استقصائية تجاه نصوص ليفيناس، ومن هو بالضبط هذا الآخر الذي يشير إليه ليفيناس؟ وهل من الممكن تسمية الآخر على هذا النحو دون المساومة على تغييره الجذري؟ وما معنى الأخلاق التي يشير إليها ليفيناس؟ هل هذا السلوك الأخلاقي مقصور على المؤمنين بالدين اليهودي؟ هل تعتمد على الإيمان بالله اليهودي؟

وهي أسئلة صعبة مثل هذه لا يتجنبها بلانشوت ولا يمنحها حلًا سهلًا، وبدلاً من ذلك يتم استكشافهم بكل تعقيداتهم ويسمح لهم بالتشعب ومضاعفة أنفسهم في جميع أنحاء صفحات كتابات بلانشوت.

ومع ذلك بينما يفهم ليفيناس هذه العلاقة بالآخر (المتعالي) في المقام الأول من حيث عدم التناسق النموذجي لعلاقة الإنسان مع الله، يسعى بلانشوت إلى إعادة تشكيل هذه العلاقة من حيث عدم التناسق المزدوج للعلاقة بين شخصين أو أكثر، حيث يشدد حساب ليفيناس على التسلسل الهرمي ويؤكد على عمودية علاقة الإنسان مع العلي، ويقترح بلانشوت علاقة غير هرمية بين البشر لا يمكن اختزالها للوحدة أو الثنائية.

عدم التناسق في حساب بلانشوت يعني أنّ العلاقة (من عدم العلاقة) بين الذات والآخر تتضاعف بعلاقة الآخر (من عدم العلاقة) فيما يتعلق بالذات، والأهم من ذلك أنّ هذه المضاعفة لا تؤدي في وصف بلانشوت إلى أي جدلية من المعاملة بالمثل أو الاعتراف، وليس حضور الإلهي كما في الميتافيزيقيا الأخلاقية لدى ليفيناس هو ما يثقل كاهل الذات بمسؤولية غير محدودة، وبالأحرى فإنّ وجود الجار ورفقاء الإنسان هو الذي يقدم عبئًا من المسؤولية لا يمكن إرضاؤه أو تجاهله.

بينما لا يزال بلانشوت متشككًا في اعتماد ليفيناس الشديد على معجم مفاهيمي (الله والآخر والأخلاق وما إلى ذلك) والذي يبدو أنّه يخون التغيير ذاته الذي يسعى إلى استحضاره فإنّه يستشعر في مشروع ليفيناس (وفي الفلسفة اليهودية على نطاق أوسع) ترياق استفزازي لفلسفات الكلية، وعلاوة على ذلك يستشعر بلانشوت في فلسفة ليفيناس سابقة لإعادة التفكير في معنى المسؤولية الاجتماعية والمجتمع خارج اقتصاد الوجود، وإنّ تأثير فلسفة ليفيناس على تفكير بلانشوت خاصة منذ عام 1961 فصاعدًا بعيد المدى وعميق.

المصدر: Bident C., Maurice Blanchot, partenaire invisible, Paris, Champ Vallon, 1998.Bruns G., Maurice Blanchot: The Refusal of Philosophy, Baltimore, Johns Hopkins Press, 1997.Collin F., Maurice Blanchot et la question de l’écriture, Paris, Gallimard, 1971.Fynsk C., Last Step: Maurice Blanchot’s Exilic Writings, New York, Fordham University Press, 2013.Maurice Blanchot (1907–2003)


شارك المقالة: