إنما يكرم الكريم الكريم

اقرأ في هذا المقال


صاحبة المقولة

الحُرَقة هند بنت النعمان ابن المنذر اللَّخمِي، ملك الحيرة. وهي امرأة عربيّة شريفة شاعرة، شريفة النَّسَب، وشاعرة فصيحة، ذات جمال باهر. وُلِدَت ونشأت في بَيت المُلْك والحُكْم بالحِيرة( مدينة تاريخية قديمة تقع في جنوب وسط العراق). والدها المَلِك النُّعمان بن المُنذِر، وكان نصرانيّاً، تسلَّمَ مقاليدَ الحُكم بعد أبيه، وهو مِن أشهر مُلوك المَناذرة قبل الإسلام.وقد فرق بينها وبين بنت أخرى للنعمان عرفت بهند( الصغرى).

لمْ تكُن الحُرَقة بنت النُّعمان امرأةً عادية، فهي ابنة مَلِك، ومعروفة بالجمال، والفصاحة، والبلاغة، وقوة الشخصية، وتتمتَّع بشُهرة واسعة

غضب كِسرى على أبيها النُّعمان، وحبسه، ومات في حَبْسه. وبعد ضياع عَرْشه، وخسارة مُلْكه، ترهبَّت ابنته هند، ولبست المُسوح (الثياب السميكة الخشنة التي ترتديها الراهبات)، وأقامت في دَير بَنته بين الحِيرة والكوفة.

وقد عَمَّرت إلى ما بعد ظهور الإسلام وفتح الحيرة من قِبَل خالد بن الوليد. وقد زارها سعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، والحجَّاج. وقُدِّرت وفاتها عام 74 هـ.

طلبها كسرى من أبيها النعمان للزَّواج منها، فَأنِفَ أنْ يُزوّجها من أعجمي، فَجنَّد كسرى الجنود وفَتكَ بالنعمان, وهربت الحُرَقة مُلتجئة إلى بوادي العرب في خَفاء، وبلغَها وهي في بني سِنان أنَّ كسرى أرسل جُنداً إلى بكر بن وائل فأرسلت تُنذرهم بهذه الأبيات:

ألَا أبلِغ بني بكر رسولافقد جَدَّ النَّفير بِعَنقَفِيرِ
فليت الجيش كُلهم فِدَاكمونفسي والسَّرير وذا السَّريرِ
كأنّي حينَ جَدَّ بهم إليكممُعلَّقة الذَّوائب بالعُبورِ
فلو أنّي أطلقت لِذَاكَ دَفعاًإذاً لَدفعتهُ بدمي وزِيري


ثمَّ أرسل كسرى صَوائِح في بلاد العرب تُنادي، أنْ بَرِئت الذِّمّة مِمَّن يحمي أو يُؤوي الحُرَقة، فقالت الحُرَقة تَستَنهِض هِمَّة العرب، وتلومهُم على تخاذلهم أمام كسرى:

لمْ يبقَ في كلِّ القبائل مُطعِملي في الجِوار؛ فقتلُ نفسي أعودُ
ما كنت أحسَبٌ والحَوادث جَمَّةأنّي أموتُ ولمْ يَعدنِي العَود
حتى رأيتُ على جِرايةِ مَولديمُلكاً يزولُ وشَملهُ يَتبَدَّدُ
فَدُهيتُ بالنعمان أعظمَ دَهيَّةٍورجعتُ من بعد السُّمَيدع أطرَدُ
وغَشيتُ كلَّ العُربِ حتى لمْ أجِدذا مَرَّة حسن الحَفيظة يوجدُ
ورجعتُ في إضمارِ نفسي كي أمُتعطشاً وجوعاً حَرَّهُ يَتوقَّدُ
خاب الرجا, ذهب العَزا, قَلَّ الوفالا السَّهل سهلٌ لا نجود أنجدُ
لا يرحمون يَتيمةً مُحزَنةمَقتولَة الآباء نَضواً تُطرَدُ
أفٍّ لدهره لا يدوم سرورهولخَصبِ عيشٍ غَضّة يتَنكَّدُ

ولمّا كان المُغيرة بن شُعبة الثَّقفي والياً بالكوفة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان- وكان أحد دُهاة العرب -، أرسل إلى الحُرَقة بنت النعمان يَخطِبها، وكانت قد عَمِيَت، فَأبَت وقالت: والصَّليب ما في رَغبةٍ لِجَمال، ولا لكثرةِ مال، وأيّ رَغبةٍ لشيخٍ أعور في عجوزٍ عَمياء، ولكنْ أرَدت أنْ تَفخر بِنكاحي، فتقول: تزوجت بنت النعمان بن المنذر فقال: صدقت والله. وأنشأ يقول:
أدركتُ ما مَنَّيتُ نفسي خالياً … لله دَرُّكِ يا ابنة النُّعمانِ
فلَقد رَدَدتِ على المُغيرة ذِهنهُ … إنَّ الملوك ذَكيَّة الأذهانِ

ثمَّ قالت للمُغيرة بن شُعبة، بعدَ أنْ أحسنَ إليها:( بَرَّتْكَ يدٌ نالتها خَصَاصة بعد ثَرْوة، وأغناكَ اللهُ عن يَد نالت ثَرْوة بعد فَاقة).

قصة المقولة

كان للنعمان بن المنذر بن ماء السماء وهو النعمانُ الأصغر الذي قَتَلَهُ أبرويز كِسرى، بعدَ أنْ رفضَ النعمان تزويج كسرى من ابنتهِ الحُرَقة، وقد قتلهُ تحتَ أرجُلِ الفيلة، وقيلَ أنّهُ سجنهُ حتى مات في السجن؛ وكان ذلك قبل مبعث النبي_ صلى الله عليه وسلم_ بسنتين، ووَلَّى مكانه” إياس بن قُبَيصة”؛ كان للنُّعمانِ هذا بِنتَان قد تَرَهَّبتا، وهُنَّ: هند الصغرى، صاحبةُ دَير هند بنت النعمان بظاهر الكوفة، والحُرَقة هند الكبرى بنت النعمان.

وحين فتح خالد بن الوليد عين التَّمر في العراق، ودخلَ الحِيرَة، سأل عن الحُرَقة وزارها في الدَّيْر، وعرضَ عليها الإسلامَ، فاعتذرت بِكِبَر سِنِّها عن تغيير دِينها. وقد أمرَ لها بمعونة وكِسوة، لكنَّها اعتذرت عن قَبولهما، ودعت له. وسألها عن حالها فقالت: لقد طَلَعَتْ علينا الشمسُ وما مِن شيءٍ يَدُبُّ حولَ الخَورنق( والخورنق هو من أعظم قصور النعمان بن المنذر) إلا تحت أيدينا، ثُمَّ غَرُبَت وقد رَحِمَنا كلّ مَن يدور به، وما مِن بيتٍ دخلته حَبرة( أي فرح) إلّا دخلته عَبرة؛ وأنشأت تقول:
بَينَا نَسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا — إذا نَحنُ مِنهم سُوقَة نَتنَصَّفُ
فأُفٍ لدُنيا لا يَدومُ نَعيمها —- تُقلِّب تيارات بنا وتُصرِّف.

ولَمَّا خَرج جاءها النَّصارى، فسألوها عمَّا صَنَعَ بها، فقالت:

صانَ لي ذِمَّتي وأكرمَ وَجْهي      إنما يُكْرِم الكريمَ الكريمُ.

وهذا يدُلّ على حُسن تعامل خالد بن الوليد مع هذه المرأة المكسورة، التي كانت ذات سَطوة وسُلطة ومَجد، والجميعُ يسعى لِخَطْب وُدِّها، وقد ضاعَ كُل شيء عندما ضاعَ مُلْك أبيها. وهي الآن راهبة معزولة في دَير بعيد، وامرأة زاهدة في الدنيا. وكما قِيل: ارحموا عزيزَ قَوم ذَلَّ. وقد أحسنَ إليها خالد بن الوليد، وهو القائد صاحب السُّلطة والنُّفوذ، ولم يتطاول عليها أو يستغل ضعفها وانكسارها. كما أنّه لمْ يُجبِرها على اعتناق الإسلام، وقد تركها وشأنها.

وقِيل أنّها أتَت” سعد بن أبي وقاص” في جَوارٍ لها، فقال سَعد: قاتل الله” عَدِي بن زيد”( وهو زوجها)، كأنه ينظر إليها حيث يقول:
إنَّ لِلدَّهرِ صَرعة فاحذِرنَها — لا تَبِيتَنَّ قدْ أمِنتَ الشُّرورا
قَد يَبيتُ الفتى مُعافىً فَيُردَى — ولقد كان آمناً مسروراً
ثمّ أكرمها وأحسن جَائزتها؛ فلما قامت، قالت: أُحَييكَ تَحيَّةَ أمْلاكِنا بعضهم بعضاً( أي تحيَّة الملوكِ لبعضهم): لا جعل الله لكَ إلى لَئيمٍ حاجة، ولا نَزَعَ عَن عبدٍ صالح نِعمةً، إلّا جعلكَ سبباً لِرَدِّها عليه، فلقيها النساء بعد أنْ خَرَجت من عندهِ وقلنَ لها: ما فعل بك الأمير؟ فقالت:
حاطَ لي ذِمَّتي وأكرَمَ وجهي — إنّما يُكرِمُ الكَريمَ الكريمُ.


شارك المقالة: