كلما عظمت الأهداف ... طال الطريق

اقرأ في هذا المقال


كُلّ المُحاولات الأولى للنَّاجحين والذين صَدَحتْ أسمائُهم في التاريخ، فَشِلوا في أوّلِ خُطواتِهم، والآن صُنِّفوا أعلَاماً لا تُنَكَّس.

فَمِن رَحِمِ الفَشلِ يُخلَق النَّجاح دائماً، لا تُحبِط نَفسك لِكَونِك حاولت وسقَطتّ، فَمِن سُقوطِكَ لا تنسى أنّك تعلَّمتَ، وَسَتَتفادَى كُلّ عَثرةٍ مرَرتَ بِها.

صاحب المقولة

مصطفى كمال محمود حسين آل مَحفوظ، وُلِد في 27 ديسمبر 1921م. من الأشراف وينتهي نَسبهُ إلى علي زِين العَابدِين، وتُوفّي والده عام 1939م، بعد سنوات من الشَّلل.

درس الطِّبّ وتخرج عام 1952م، وتخصَّص في الأمراض الصّدريّة، ولكنّه تفرَّغ للكتابة والبَحث عام 1960م.

تزوج عام 1961م، وانتهى الزواج بالطَّلاق عام 1973م. ورُزِقَ بولدين هما” أمل” و” أدهم”. ثمَّ تزوَّج ثانيَةً عام 1983م، من السيدة” زينب حمدي”، وانتهى هذا الزواج أيضاً بالطّلاق عام 1987م.

أعمال مصطفى محمود

ألَّفَ مصطفى محمود 89 كتاباً؛ منها الكتب العِلميّة، والدِّينيّة، والفَلسَفيّة، والاجتماعية، والسِّياسيّة؛ إضافةً إلى الحكايات والمَسرَحيّات، وقصص الرِّحلات، ويتميَّز أسلوبه بالجَاذبيّة، مع العُمقِ والبساطة.

ومن أبرز وأشهر كُتبهِ:

{رحلتي من الشّك إلى الإيمان؛ حوار مع صديقي المُلحد؛ اينشتاين والنِّسبية؛ الرُّوح والجسد؛ الأفيون؛ لغز الموت؛ الإسلام ما هو؟؛ لغزالحياة؛ الشيطان يَحكم؛ رجل تحت الصفر}.

وقدَّم الدكتور مصطفى محمود؛ أكثر من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير( العِلم والإيمان)، وأنشأ عام 1979م، مسجده في القاهرة، المعروف بـاسم” مسجد مصطفى محمود”. ويَتبَع له ثلاثة مراكز طبية؛ تهتَمّ بعلاج ذَوي الدَّخل المَحدود، ويقصدها الكثير من أبناء مصر، نَظَراً لسُمعَتها الطِّبّيَّة. وشَكَّلَ قوافل للرَّحمة، من سِتَّة عشر طبيباً، ويَضمُّ المركز أربعة مَراصد فَلكية، ومُتحفاً للجُيولوجيا، يقوم عليه أسَاتِذة مُتخصِّصون. ويضم المُتحَف مجموعة من الصخور الجرَانيتيَّة، والفراشات المُحنَّطة، بأشكالها المُتنوّعة، وبعض الكائنات البحريّة.

تاريخه الفِكري

في أوائل القَرن الفَائت، كان يتناول عدد من الشخصيات الفِكرية مسألة الإلحَاد، تلك الفترة التي ظهر فيها مقال” لماذا أنا مُلحِد”؟ لإسماعيل أدهم؛ وأصدر طه حُسين كتابه” في الشعر الجاهلي”، وخاض” نجيب محفوظ” أولى تَجارب المُعاناة الدّينية والظمأ الرُّوحي.

لقد كان” مصطفى محمود” وقتها بعيداً عن الأضواء، لكنّه لمْ يَكُن بعيداً عن المَوجةِ السَّائدة في وقته، تلك المَوجة التي أدَّت به إلى أن يدخل في مُرَاهَنة عُمره التي لا تزال تثير الجدل حتى الآن.

بداياته

بدأ حياته مُتفوّقاً في الدِّراسة، حتى ضَربهُ مُدرِّس اللّفى العربيّة؛ فغَضِب وانقطع عن الدراسة مدة ثلاث سنوات إلى أنْ انتقل هذا المدرس إلى مدرسة أخرى، فعاد مصطفى محمود لمتابعة الدراسة. وفي منزل والده أنشأ مَعملاً صغيراً يَصنعُ فيه الصّابون، والمُبيدات الحشريّة، ليَقتُل بها الحَشرات، ثمّ يَقوم بِتَشرِيحها، وحين التحقَ بِكُليّة الطِّبّ، اشتُهر بـ”المَشرَحجِي”، نظراً لوقوفه طُوال اليوم أمام أجساد الموتى، طارحَاً التَّساؤلات حول سِرِّ الحياةِ والموت، وما بعدهما.

لقد اتُّهِمَ مصطفى محمود كثيراً بأنَّ أفكاره وآراءه السِّياسية مُتَضاربة إلى حَدِّ التَّناقُض؛ إلّا أنّه لا يرى ذلك، ويُؤكد أنّه ليس في موضع اتهام، وأنّ اعترافه بأنّه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو دَربٌ من دُروبِ الشجاعة والقُدرَة على نَقدِ الذَّات، وهذا شيء يَفَتِقر إليه الكثيرون، مِمَّن يُصَابون بالجُحود والغُرور، مِمّا يَصل بهم إلى عدم القُدرة على الإعتراف بأخطائهم.

وقد قال عن نفسهِ:” احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النَّفس، وتَقلِيب الفِكرِ على كل وجهٍ لأقطعَ الطُّرق الشَّائكة، من الله والإنسان؛ إلى لُغزِ الحياة والموت، إلى ما أكتبُ اليوم على درب اليقين”.

ثلاثون عاماً أنهَاها بأروعِ كُتبهِ وأعمَقهَا( حوار مع صديقي المُلحِد)، ( رحلتي من الشَّكّ إلى الإيمان)، ( التَّوراة)، ( لُغز الموت)، ( لُغز الحياة)، وغيرها من الكتب شديدة العمق في هذه المنطقة الشائكة..المراهنة الكبرى التي خاضها ألقت بآثارها عليه.

العلم والإيمان

يَروى” مصطفى محمود”، أنّه عندما عَرَض على التِّلفاز مشروع برنامج” العِلم والإيمان”، وافق التلفاز راصداً 30 جنيه للحلقة الواحدة!، وبذلك فَشل المشروع منذ بِدايته، إلّا أنَّ أحد رجال الأعمال عَلِم بالموضوع فأنتجَ البرنامج على نَفقتِهِ الخَاصّة، ليُصبِح من أشهر البرامج التِّلفزيونيّة، وأوسعها انتشاراً على الإطلاق.

إلّا أنّه كَكُلِّ الأشياء الجميلة كان لا بُدَّ من نهاية، فقد صَدَرَ قرارٌ، بِرَفع البرنامج من خريطة البرامج التّلفازيّة. وقال ابنه” ادهم مصطفى محمود” بعد ذلك؛ أنَّ القرار بوَقفِ البرنامج صدر من الرّئاسة المصريّة، إلى وزير الإعلام آنذاك؛ صَفوَت الشَّريف.

الأزَمَات التي مرَّ بها مصطفى محمود

تعرَّضَ لأزَمَات فِكريّة كثيرة؛ كان أوّلهَا عندما قُدِّم للمُحاكَمةِ، بسبب كتابه( الله والإنسان)، وطلب” جمال عبدالنّاصر”، بنفسهِ تَقدِيمه للمُحاكَمة؛ بناءً على طلب الأزهر باعتبارها قضيّة كُفر!، إلّا أنَّ المَحكَمة اكتَفَت بمُصَادرة الكتاب، بعد ذلك أبلغه الرئيس أنور السَّادات، أنّه مُعجَبٌ بالكتاب، وقرَّرَ طبعهُ مرة أخرى.

كان صديقاً شخصياً للرئيس السَّادات، وعندما عَرضَ السَّادات الوزارة عليه رفض قائلاً:” أنا فَشلِت في إدارةِ أصغر مؤسسة وهي الأسرة، فأنا مُطَلِّق؛ فكيف بي أنْ أُدِير وزارة كاملة”.

أزمتهُ مع كتاب الشَّفاعة

كانت لمصطفى محمود أزمَة شهيرة، مع كتابِ الشَّفاعة( أي شفاعة رسول الإسلام محمد_ صلى الله عليه وسلم_، في إخراج العُصَاة من المسلمين من النار وإدخالهم الجنة)؛ وعندما قال إنّ الشفاعة الحقيقية غيرَ التي يُروِّج لها علماء الحديث، وأنّ الشفاعة بمفهومها المعروف، أشبَه بنَوعٍ من الوَاسِطة والإتَّكَاليّة على شفاعة النبيّ محمد_ صلى الله عليه وسلم_، وعدم العمل والإجتهاد، أو أنّها تُعني تَغييراً لحُكمِ الله في هؤلاء المُذنِبين؛ وأنَّ الله الأَرحَم بِعَبيدهِ، والأَعلَم بِما يَستَحقُّونه. وقتها هُوجِمَ الرَّجل بألسِنةٍ حَادَّة، وصدر 14 كتاباً للردِّ عليه، وعلى رأسها كتاب الدكتور” محمد فؤاد شاكر”، أستاذ الشريعة الإسلامية؛ فكان ردَّاً قاسياً للغاية دون أيّ مُبرِّر. واتَّهمُوه بأنّه مُجرّد طبيب لا علاقة له بالعِلمِ الدينيّ؛ وفي لحظةٍ حوّلُوه إلى مَارقٍ خارجٍ عن القَطيع.

حاول أنْ يَنتَصر لِفكْرِه ويَصمد أمام التَّيّار الذي يُريد رأسه، إلّا أنّه هُزِم في النِّهاية. وتقريباً لم يتعامل مع الموضوع بِحِياديّة، إلا فضيلة الدكتور ” نصر فريد”، عندما قال:” الدكتور مصطفى محمود رجلُ عِلم وفَضلٍ، ومشهودٌ له بالفَصاحة والفَهم وسِعَة الإطّلّاع والغِيرَة على الإسلام، فما أكثر المواقف التي أشهرَ قَلمهُ فيها للدِّفاع عن الإسلام والمسلمين، والذَّودِ عن حِياض الدِّين، وكم عَمِل على تَنقِيَة الشَّريعة الإسلاميّة من الشوائب التي علِقت بها، وشَهِدت له المَحافل التي صَال فيها وَجَال دفاعاً عن الدين”.

إنَّ مصطفى محمود لم يُنكِر الشَّفاعة أصلاً؛ ولكنَّ رَأيهُ يَتلَخَّص في: أنَّ الشَّفاعة مُقيَّدة أو غَيبية إلى أقصى حَدٍّ؛ وأنَّ الإعتماد على الشفاعة لنْ يؤدي إلّا إلى التَّكاسل عن نُصرة الدِّين، والتَّحلِّي بالعزيمة والإرادة في الفوز بدخول الجنة والإتِّكال على الشفاعة؛ وهو ما يجب الحذر منه، والأكثر إثارة للدَّهشة أنّه اعتمدَ على آراء علماء كبار على رأسهم الإمام” محمد عبده”، لكنهم حمّلوه الخطيئة.

اعتزاله

بعد هذه المِحَن الشديدة؛ اعتزلَ الكتابة إلّا قليلاً، وانقطع عن الناس. وفي عام 2003م؛ أصبح يعيش مُنعَزِلاً وحيداً. قال عنه الشاعر الراحل” كامل الشّنّاوي”:” إذا كان مصطفى محمود قَد ألحَد، فهو يُلحِد على سجّادة الصَّلاة، كان يَتصوَّر أنَّ العِلم يُمكِن أنْ يُجِيب على كل شيء، وعندما خاب ظَنّه مع العلم أخذَ يَبحث في الأديان بدءاً بالديانَات السَّماوية، وانتهاء بالأديان الأرضيّة؛ ولمْ يَجِد في النهاية سوى القرآن الكريم“.

وفاته

توفي الدكتور مصطفى محمود في الساعة السابعة والنصف من صباح السبت 31 أكتوبر 2009م، بعد رحلة علاج استَمرَّت عِدَّة شهور، عن عمر ناهز 88 عاماً، وقد تم تشييع الجِنازة من مسجده بحيّ بالمهندسين، ولم يَزُرهُ أيّ من المشاهير أو المسؤولين، ولم تتحدّث عنه وسائل الإعلام إلا قليلاً، مِمّا أدّى إلى إحباط أسرَته.


شارك المقالة: