لا تراهن على الصعبة.. ولا تنشد القريض

اقرأ في هذا المقال


صاحب المقولة

أبو مُلَيْكة جَرول بن أوس بن مالك العبسيّ؛ المشهور بـ” الحطيئة”. شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم في زمن أبي بكر الصّدّيق. وُلِد لدى بني عَبس من أَمَةٍ اسمها( الضَّرّاء) دعِيًاً لا يُعرفُ له نَسَب، فَشبَّ محروماً مظلوماً لا يَجِد مَدَداً من أهلهِ ولا سَنداً من قومه، فَاضطَرَّ إلى قَرضِ الشِّعر يَجلِبُ به القُوت، ويَدفع به العُدوان، ويَنقُمُ به لنفسه من بيئةٍ ظَلَمتهُ، ولعلَّ هذا هو السَّبب في أنّه اشتَدَّ في هجاء الناس، ولم يَكُن يَسلَم أحدٌ من لسانه؛ فقد هجا أمَّهُ وأبَاه، حتى إنّه هجا نفسه.

اختُلف في سببِ تَسمية الحُطَيئة بهذا الإسم، وقد قيل إنّه لقّب بذلك لِقِصرِ قَامتهِ وقُربه من الأرض؛ فقد جاء في معجم لسان العرب أنّ الحُطيئة هي تصغير حَُطأة، وهي الضَّرب بالأرض أو الرّجل القصير، وقيل سمي بذلك لدَمَامتهِ، والدَّمامة تعني قُبح المَنظر وصِغرِ الجسم.

هِجاء الحُطيئة

وقد حُبِسَ الحُطيئة، وكان سبب حَبسهِ أنَّ” الزّبرقان بن بدر التميمي”، سيد قومه؛ عَمِل للنَبي_ صلى الله عليه وسلم_، وأبي بكر وعمر، وكان يجمع زكاة قومه ويُؤدّيها لهم. وقد أشتكى لعمر لمَّا هَجاهُ الحُطيئة بِشعرهِ. فقال له عمر: وما قال لك؟ فقال الزّبرقان: قال لي:

دعِ المكارمَ لا تَرحلْ لِبُغيتهاواقعـدْ فإنّك أنـت الطَّاعمُ الكاسي

فقال عمر: ما أسمعُ هِجاءً؛ ولكنها مُعاتبة. فقال الزبرقان: أو لا تَبلُغ مُروءَتي إلّا أنْ آكل وألبس! والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيتٍ قَطْ أشدّ عليَّ منه. فدعا عُمر” حسّان بن ثابت” شاعر الرسول؛ وسأله: أتراه هجاه؟ قال حسان: نَعم، وسَلحَ عليه. فَحبسَ عُمر الحُطيئة، فجعل الحُطيئة يَستَعطِفهُ ويُرسل إليه الأبيات، فَمِن ذلك قوله:

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرخٍزُغبُ الحَواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ

فلم يلتفت إليه عمر، حتى أرسل إليه الحطيئة:

ألقيتَ كاسبَهم في قَعرِ مُظلمةفاغفر، عليك سلامُ الله يا عُمرُ
أنت الإمامُ الذي من بعد صاحبهألقى إليك مقاليدَ النُّهى البشرُ
لم يُؤثِروكَ بها إذ قَدّموكَ لهالكنْ لأنفسهم كانت بكَ الأثرُ
فامنُنْ على صِبيةٍ بالرَّمْلِ مَسكنُهمبينَ الأبَاطِحِ يَغشاهم بها القدرُ
نفسي فِداؤك كم بيني وبينَهُمُمن عَرْضِ واديةٍ يعمى بها الخبرُ

فبكى سيدنا عمر_ رضي الله عنه_ لَمَّا سمع الأبيات؛ ورَحِم الحطيئة وأولاده ورَقَّ لحالهم، وكان الصحابة رضوان الله عنهم يتَعجَّبون من رحمةِ عمر للحُطيئة ورِقّة قلبهِ له.

فقال له سيدنا عمر : فإيَّاك والمُقذِع من القول. فقال الحطيئة: وما المُقذِع؟ قال عمر: أنْ تُخاير بين الناس؛ فتقول: فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان؛ قال الحطيئة: فأنت والله أهجى منّي. ثمَّ قال له عمر: والله لولا أنْ تكون سُنّة لقطعتُ لسانك. فاشترى عمر منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه عهداً ألَّا يهجُو أحداً؛ فقال الخطيئة: لك عَهدُ الله يا أمير المؤمنين. فقال عمر: لَكأنّي بفتىً من قريش قد نَصَبَ لك نَمرَقَة، فاتَّكأتَ عليها، وأقبلتَ تُنشِدهُ في أعراضِ المسلمين؛ قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.

فأطلقه الخليفة واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، فتوقَّف عن الهِّجاء، فقال بعض الرُّواة: فوالله لقد رأيته( أي الحُطيئة)، عند” عبيدالله بن زياد” على الحال التي ذَكرَ عمر_ رضي الله عنه_، فقلت له: لَكأنَّ أمير المؤمنين عُمر كان حاضراً لك اليوم، فَتَأوّه، وقال: رَحِم الله ذلك المَرء، فما أصدق فَراسَته.

وقد هَجا أُمّهُ؛ فقال عنها:

تَنَحِّي فاقعدي مني بعيداًأراحَ الله منكِ العالمينا
ألَمْ أوضح لك البغضاءَ منّيولكنْ لا أخَالُكِ تَعقِلينا
أغربَالاً إذا استُودِعتِ سِرّاًوكانوناً على المُتَحدِّثينا
جزاكِ الله شَرَّاً من عجوزٍولقاكِ العُقوق من البَنِينا
حياتكِ ما علمت حياةُ سُوءوموتُكِ قد يـسرُّ الصالحينا

وقال عن أبيه :

فَنِعمَ الشَّيخ أنتَ لَدى المَخازيوبِئسَ الشيخ أنت لدى المعالي
جمعتَ اللُّؤمَ لا حيَّاكَ ربِّيوأبوابَ السَّفاهة والضَّلالِ

وقال يهجوا نفسه:

أبَتْ شَفتايَ اليوم إلا تَكلُّماًبهجوٍ فما أدري لِمنْ أنا قائله

فرأى وجهه في الماء فقال:

أرى اليوم لي وجهاً فَلِلّهِ خلقهُفَقُبِّحَ من وجهٍ، وقُبِّحَ حَامله

وعندما مات أوصى أنْ يُعلَّق هذا على كَفَنه:

لا أحدٌ ألأم من حُطيئةهَجا البَنِين؛ وهَجا المَرِيئة

دخل الحطيئة الإسلام، إلّا أنّ إسلامه كان متقلّباً ضعيفاً؛ فكان يخرجُ عن حدود الدّين والأخلاق أحياناً، ويتّبعها أحياناً أخرى، وبعد وفاة الرسول_ صلّى الله عليه وسلّم_ بفترة وجيزة، ثار الحطيئة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وقال:

أطعنا رسول الله إذا كان حاضراً .. فَيَا لَهفَتِي، ما بَال دين أبي بكر. أيُورثهَا بَكراً إذا مـات بعـده … فتلك وبيت الله قاصمة الظهر.

وقيل أنّه ارتدّ عن الإسلام.

قصة المقولة

قِيل أنَّ الحُطيئة لَمَّا حَضَرَته الوَفَاة اكْتَنَفَهُ أهلُهُ وبنو عمه، فقالوا له:
يا حُطَيئة أوصِ؛ قَال: وبِمَ أوصِي؟ مالي بينَ بَنِيَّ.
قَالوا : قد علمنا أنَّ مَالكَ بين بَنِيك، فأوْصِ.
فقال: وَيْلٌ للشِّعْر من رَاوية السُّوء. فَقَالوا: أوْصِ.
فَقَال: أخبِرُوا أهلَ ضَابِئ بن الحارث أنّه كان شاعراً، حيث يقول:

لكُلِّ جَدِيدٍ لَذَةٌ غيرَ أنَّنِي ..
وَجَدْتُ جَدِيدَ المَوْتِ غيرَ لذيذِ

ثم قَال: لا تُرَاهِن على الصَّعبة ولا تُنشِد القَريض؛ فصارت مَثلاً يُضرَب في التَّحذير.

وفي بعض الروايات، أنّه قِيل له: يا أبا مُلَيْكَةَ أوْصِ. قَال: مالي للذّكور دون الإناث، قَالوا: إنَّ الله لمْ يأمر بهذا، قَال: فإنّي آمر. ثمّ قَالوا له: أوْصِ؛ قَال: أخبروا آل الشّمَاخ بن ذبيان أنَّ أخاهم،” الشّماخ بن ضرار الذبياني” أشْعَرُ العرب .. حيث يقول:

إذَا أنْبَضَ الرَّامُونَ عَنْهَا تَرَنَّمَتْ ..
تَرَنُّمَ ثَكْلَى أَوْجَعَتْهَا الجَنَائِزُ

وظلَّتْ بأعرافٍ صِياماً كأنَّهَا ..
رمَاحٌ نَحَاهَا وجهة الريح رَاكِزُ

ثمَّ قَالوا له: أوْصِ يا حُطيئة؛ فإنَّ هذا لا يُغْنِى عنك شيئاً. قَال: أبلِغُوا كِنْدَة( ويقصد بذلك إمرأ القيس) أنَّ أخاهم أشْعَرُ العرب؛ حيث يقول:

فَيَالَكَ مِنْ لَيْلٍ كأنَّ نُجُومَهُ ..
بأمْرَاسِ كتَّان إلى صُمِّ جَنْدَلِ.
قَالوا: أوْصِ، فإنَّ هذا لا يُغني عنك شيئاً؛ قَال: أخْبِرُوا الأنصارَ أنَّ أخاهم أمْدَحُ العرب، حيث يقول:
يُغْشُونَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلاَبُهُمْ …
لاَ يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ المُقْبِلِ

قَالوا: أوصِ، فإنَّ هذا لا يُغني عنك شيئاً؛ قَال: أوصِيكم بالشِّعر خيراً؛ ثمَّ أنشأ يقول:

الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ…
إذا ارْتَقَى إلى الَّذي لاَ يَعْلَمُه

زَلَّتْ بِهِ إلَى الحَضِيضِ قَدَمُهْ…
وَالشِّعْرُ لاَ يُطيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ

يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ…
وِلَمْ يَزَلْ مِنْ حَيْثُ يأتي يَخْرِمُهْ

مَنْ يَسِمِ الأعْدَاء يبقى مِيسَمُهُ.

قَالوا: أوْصِ؛ فإنَّ هذا لا يُغني عنك شيئاً؛ قَال:

قَد كُنْتُ أحْيَانَاً شَدِيدَ المُعْتَمَدْ…
وَكُنْتُ أحياناً عَلَى خَصْمِى ألَدْ

قَدْ وَرَدَتْ نَفْسِى وَمَا كَادَتْ تَرِد.

فقَالوا له: أوْصِ، فإنَّ هذا لا يُغني عنك شيئاً، قَال: واجَزَعَاهُ على المديح الجيّد يُمْدَح به من ليس من أهله.
قَالوا : أوْصِ، فإنَّ هذا لا يُغني عنك شيئاً.. فبكى!
قَالوا: وما يُبكِيكَ؟ قَال: أبكي الشعرَ الجيدَ من رَاوية السُّوء.
قَالوا: أوصِ للمَساكين بشَيء، قَال: أوصِيهم بالمسألة، وأوصِ الناسَ أنْ لا يُعْطُوهم، فقَالوا له: أعتِقْ غُلامكَ يَساراً، فإنّه قد رَعَى عليك ثلاثين سنة، فقَال: هو عَبدٌ ما بقيَ على الأرض عَبْسيّ( إشارة أنّه عبد ما دام حيّاً).

ثمَّ قَال: احملوني على حماري ودُورُوا بي حول هذا التَّل، فإنه لَم يَمُتْ على الحمار كريم، فعسى ربِّي أنْ يَرحَمني.

فَحملهُ ابناهُ وأخذا بِضبْعَيْهِ، ثم جَعَلاَ يَسوقان الحمار حول التَّل، وهو يقول:

قَدْ عَجَّلَ الدَّهْرُ والأحْدَاثُ يُتْمَكُمَا ..
فَاسْتَغْنَيَا بِوشَيِكٍ إنَّني عَانِ

وَدَلِّيَانِيَ في غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ ..
كَمَا تُدَلَّى دِلاءٌ بَيْنَ أشْطَانِ .؟

قَالوا: يا أبا مُلَيكَة، مَنْ أشْعَرُ العرب؟
قَال: هذا الجُحَير، إذا طَمِع بخير، وأشار بيده إلى فِيهِ( أي فَمهِ).
وكان آخر كلامه، فمات وكان له عشرون ومائة سنة، منها سبعون في الجاهلية، وخمسون في الإسلام.

ويُروى أنّه أراد سَفَراً؛ فلما قَدَّم راحلته، فقَالت له امرأته: متى تَرجع؟
فَقَال:

عُدِّى السِّنِينَ لَغِيَبَتِي وَتَصَبَّرِي….
وَدَعى الشُّهورً فَإنَّهُنَّ قِصَارُ

فَقَالت له:

اذْكُرْ صَبَابَتَنَا إلَيْكَ وَشَوْقَنَا ..
وَارْحَمْ بَنَاتِكَ إنَّهُنَّ صِغَارُ .!

قَالوا: وما مَدح قوماً إلا رفَعهم، وما هَجا قوماً إلا وضَعهم.
وقال يهجو نفسه وقد نظر في المِرآة، وكان دَميماً( أي قبيحاً):

أبَتْ شَفَتَاي اليَوْمَ إلاَّ تَكَلُّماً ..
بِسُوءٍ، فَمَا أدْرِى لِمَنْ أنَا قَائِلُهْ

أرَى ليَ وَجْهاً شَوَّهَ الله خَلْقَهُ ..
فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهْ!


شارك المقالة: