فلسفة أغامبين في اللغة والميتافيزيقا

اقرأ في هذا المقال


كما يشير الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين في مقدمة عام 1989 للترجمة الإنجليزية لعمله الفلسفي الطفولة والتاريخ، بإنّ السؤال الرئيسي الذي يوّحد استكشافاته المتباينة هو ما يعنيه وجود اللغة وماذا يعني: “أنا أتكلم”، وفي تناول هذا السؤال في جميع أعماله وبشكل أكثر وضوحًا في نصوص مثل الطفولة والتاريخ واللغة والموت، ومؤخرًا عمله الفتح: الإنسان والحيوان فإنّ أغامبين يعيد النظر في الأنثروبولوجيا الفلسفية من خلال التساؤل النقدي للافتراضات الميتافيزيقية التي يسترشد بها و على وجه الخصوص الادعاء بأنّ الجوهر المحدد للإنسان هو وجود اللغة.

فلسف أغامبين في اللغة:

يقترح أغامبين ضرورة وجود تجربة لغوية يكون فيها ما يتم اختباره هو اللغة نفسها، وتصبح حدود اللغة واضحة ليس في علاقة اللغة بمرجع خارجها ولكن في تجربة اللغة كمرجع ذاتي خالص.

نُشر كتاب الطفولة والتاريخ باللغة الإيطالية عام 1978، ويشكل واحد من أولى المحاولات التي قام بها أغامبين لفهم وتوضيح الآثار المترتبة على مثل هذه التجربة في اللغة بحد ذاتها، ويتألف من سلسلة مقالات مترابطة حول مفاهيم مثل التاريخ والزمانية واللعب والإيماءات، ويوفر الطفولة والتاريخ مدخلًا مهمًا لعمل أغامبين اللاحق حول السياسة والأخلاق، لا سيما في مقال مسمى من الطبعة حول مفهوم الطفولة كتجربة اللغة على هذا النحو.

في هذا يجادل أغامبين أنّ العصر المعاصر يتميز بتدمير أو فقدان الخبرة حيث لا يمكن تجربة تفاهة الحياة اليومية في حد ذاتها ولكن فقط الخضوع لها، وهي حالة ناجمة جزئيًا عن صعود العلم الحديث و الانقسام بين موضوع الخبرة والمعرفة التي تنطوي عليها، وضد هذا التدمير للتجربة والذي يمتد أيضًا في الفلسفات الحديثة للموضوع مثل كانط وهوسرل.

يجادل أغامبين بأنّ استعادة الخبرة تستلزم إعادة التفكير جذريًا في التجربة كمسألة لغة بدلاً من الوعي، حيث إنّها فقط في اللغة التي يكون للموضوع موقعها وأصلها، وإذن فالطفولة تصوّر تجربة الوجود بدون لغة، ليس بالمعنى الزمني أو التنموي الذي يسبق اكتساب اللغة في مرحلة الطفولة بل بالأحرى كشرط خبرة يسبق ويستمر في اكتساب اللغة.

فلسفة أغامبين في الميتافيزيقيا وعلاقتها باللغة:

يواصل أغامبين هذا التفكير في المرجعية الذاتية للغة كوسيلة لتحويل الرابط بين اللغة والميتافيزيقا التي تدعم الأنثروبولوجيا الفلسفية الغربية في اللغة والموت والتي نُشرت في الأصل عام 1982، بدءًا من اقتراح هايدجر بوجود علاقة أساسية بين اللغة والموت، ويجادل أغامبين بأنّ الميتافيزيقيا الغربية كانت مرتبطة بشكل أساسي بسلبية تتجلى بشكل متزايد في قلب روح الإنسانية، في حين أنّ هذا الانهيار للميتافيزيقا في الأخلاق يتجلى بشكل متزايد على أنّه العدمية، فإنّ الفكر المعاصر لم يفلت من هذا الوضع بعد.

يسعى أغامبين إلى فهم هذا الانهيار والهروب منه في نهاية المطاف من خلال فلسفة صارمة لتجربة اللغة المقترحة في الطفولة والتاريخ، وفي تحليله لهيدجر وهيجل يعزل أغامبين اعتمادهما على السلبية بل وتطرفها بالفعل، من خلال تصوير الضميرين (هناك وهذه) على أنّهما محولات نحوية تشير إلى حدوث اللغة الخالص، وهنا يعتمد أغامبين على المفهوم اللغوي لـ (deixis) -أي الوظيفة الإرشادية للكلمات في السياق- لعزل الإحالة الذاتية للغة في الضمائر أو المحولات النحوية، والتي يجادل بأنّها لا تشير إلى أي شيء غير أنفسهم ولكن فقط لفظهم.

على الرغم من ذلك فإنّ مشكلة أغامبين هي أنّ كلاً من هيجل وهايدجر يحافظان في النهاية على انقسام داخل اللغة -والذي يراه عنصرًا ثابتًا في الفكر الغربي من أرسطو إلى فيتجنشتاين- في تعريفهما على عدم قابلية الوصف، أو عدم القدرة على الوصف التي لا يمكن إدخالها في الخطاب البشري ولكن هذا هو حالتها مع ذلك، ويسمي أغامبين هذا الشرط الصامت للغة الصوت، ويخلص إلى أنّ الفلسفة التي تفكر فقط من أساس الصوت لا يمكنها تقديم حل للميتافيزيقا بأنّ العدمية التي نتحرك نحوها تتطلب.

وبدلاً من ذلك يقترح هذا ممكن فقط في مرحلة الطفولة التي لم تكن أبدًا إنّه: “موجود فقط في اللغة دون أن يتم استدعاؤه من قبل أي صوت، ويموت دون أن يُدعى بالموت”، ويمكن للإنسانية أن تعود إلى مسكنها أو روحها الصحيحة التي لم تكن لها من قبل ولم تغادر منها أبدًا.

تجدر الإشارة هنا إلى أحد الأبعاد الأخرى لانخراط أغامبين مع الميتافيزيقا الغربية ومحاولة تطوير أنطولوجيا بديلة، نظرًا لأنّها واحدة من أكثر الخيوط تماسكًا في جميع أنحاء عمله، وهذه هي مشكلة الإمكانية التي يعتبر إعادة التفكير فيها أغامبين مركزًا لمهمة التغلب على العدمية المعاصرة، ونقلاً عن اقتراح أرسطو في كتاب (Theta) من كتابه الميتافيزيقيا: “يقال إنّ الشيء محتمل عندما يتحقق الفعل الذي يقال أنّه محتمل لن يكون هناك شيء محتمل، أي سيكون هناك لا شيء يمكن ألّا يكون”.

كما يجادل أغامبين بأنّ هذا لا ينبغي أن يؤخذ على أنّه يعني ببساطة أنّ (ما ليس مستحيلًا هو ممكن)، بل يسلط الضوء على تعليق أو تنحية الإمكانية في الانتقال إلى الواقعية، وهذا التعليق مع ذلك لا يرقى إلى تدمير الإمكانية بل إلى تحقيقها، أي من خلال رجوع الإمكانية على نفسها والتي ترقى إلى إعطاء نفسها لنفسها، وتتحقق المحورية أو إمكانية عدم الوجود بشكل كامل في تعليقها الخاص بحيث تظهر الحقيقة على أنّها لا شيء سوى احتمالية عدم الوجود.

في حين أنّ هذه العلاقة مركزية لتمرير الصوت إلى الكلام أو الدلالة والوصول إلى تجربة اللغة على هذا النحو، ويزعم أغامبين أيضًا أنّ أرسطو في هذه الصيغة يورث للفلسفة الغربية نموذج السيادة، لأنّه يكشف عن التأسيس غير المحدد أو السيادي للوجود.

كما يستنتج أغامبين أنّه يكون الفعل سياديًا عندما يدرك نفسه ببساطة عن طريق إزالة إمكاناته الخاصة بأن لا يكون ويترك نفسه ويعطي نفسه لنفسه، وبهذه الطريقة إذن فإنّ علاقة الإمكانية بالواقعية التي وصفها أرسطو تتوافق تمامًا مع منطق الحظر الذي يجادل أغامبين بأنّه من سمات السلطة السيادية وبالتالي يكشف عن التكامل الأساسي للميتافيزيقا والسياسة.

مشكلة أغامبين في فلسفة اللغة والميتافيزيقيا:

هذه التأملات في الميتافيزيقيا واللغة تؤدي بالتالي إلى مشكلتين مترابطتين لأغامبين والتي تناولها في عمله اللاحق وهي:

  • يكمن أولها في المجال الواسع لعلم الجمال: حيث ينظر أغامبين في رهانات امتلاك اللغة في النثر والشعر من أجل مزيد من الاستجواب النقدي للتمييز بين الفلسفة والشعر.
  • المشكلة الثانية تكمن في مجالات السياسة والأخلاق: لأنّ مفهوم أغامبين لتدمير التجربة والإمكانات يغذي مباشرة تحليل المشهد السياسي والسيادة، وهذه تتطلب أيضًا وفقًا لأغامبين إعادة صياغة الأخلاق كروح، والتي تتطلب بدورها إعادة التفكير في المجتمع.

المصدر: Giorgio Agamben (1942– )Giorgio AgambenMeet the Philosopher Who Is Trying to Explain the PandemicAgamben, Giorgio. The Coming Community, tr. Michael Hardt, University of Minnesota Press, Minneapolis, 1993; La communità che viene, Einaudi, 1990. (CC)Agamben, Giorgio. Language and Death: The Place of Negativity, tr. Karen E. Pinkus and Michael Hardt, University of Minnesota Press, Minneapolis, 1991; Il linguaggio e la morte: Un seminario sul luogo della negatività, Giulio. Einuadi , 1982. (LD)Agamben, Giorgio. Stanzas: Word and Phantasm in Western Culture, tr. Ronald L. Martinez, University of Minnesota Press, Minneapolis, 1993; Stanze: La Parola e il fantasma nella cultura occidentale, Giulio Einuadi, Turin, 1977. (S)


شارك المقالة: