فلسفة الاستقلالية العلائقية ومفاهيم الذات

اقرأ في هذا المقال


ترتبط الاستقلالية وفلسفتها بالتأكيد بشكل نموذجي بالأفراد، وهي ليست في هذا الاستخدام ملكًا لجنماعات أو شعوب، ولذا فإنّ الاستقلالية التي تؤسس للحقوق الأساسية والتي ترتبط بالمسؤولية الأخلاقية، كما يُعتقد أنّ هذا المفهوم يتم تخصيصها للأشخاص دون الرجوع بشكل أساسي إلى الأشخاص الآخرين أو المؤسسات أو التقاليد التي قد يعيشون ويعملون فيها.

فلسفة الهوية ومفاهيم الذات وعلاقتها بالاستقلالية:

يدّعي النقاد أنّ الاستقلالية بارتباطها بالأفراد بشكل نموذجي تتعارض مع الطريقة التي يعرف بها معظمنا (أو جميعنا بطريقة ما) أنفسنا، وبالتالي نختلف بشكل إشكالي عن جوانب الهوية التي تحفز الفعل وتؤسس الالتزامات الأخلاقية، وعن طريق التي يصوغها الناس خطط الحياة.

ويُقال إنّ الاستقلالية تعني القدرة على:

1- التفكير كليًا في الذات.

2- قبول أو رفض قيم المرء.

3- اتصالات المرء وميزاته الذاتية التعريف.

4- تغيير مثل هذه العناصر في حياة المرء حسب الرغبة.

لكننا جميعًا لسنا متورطين بعمق في العلاقات الاجتماعية والأنماط الثقافية فحسب بل إننا نتعرف أيضًا على مثل هذه العلاقات كما يزعم البعض، على سبيل المثال نستخدم اللغة للانخراط في التفكير ولكن اللغة نفسها هي نتاج اجتماعي وترتبط ارتباطًا وثيقًا بأشكال ثقافية مختلفة.

في أي عدد من الطرق يتم تشكيلها من خلال عوامل خارجة عن سيطرتنا الانعكاسية ولكنها مع ذلك تبني قيمنا وأفكارنا ودوافعنا، وإنّ القول بأننا مستقلون (وبالتالي مسؤولون أخلاقيًا ونتحمل الحقوق الأخلاقية) فقط عندما نتمكن من التراجع عن كل هذه الروابط وتقييمها بشكل نقدي وربما تغييرها، فهذا يعد بمثابة ذبابة في مواجهة هذه الحقائق النفسية والميتافيزيقية.

بطريقة مختلفة ادّعى النقاد أنّ المفهوم الليبرالي للشخص المنعكس في النماذج القياسية للاستقلالية، يؤكد بشكل أقل على الروابط العميقة التي تشكل الهوية التي لدينا مع الجنس والعرق والثقافة والدين من بين أشياء أخرى، وإنّ مثل هذه الهويات السميكة ليست مركزية لفهم الشخص الذي يتمتع بالحكم الذاتي، والذي وفقًا للنماذج الليبرالية القياسية قادر تمامًا على التجريد من هذه العناصر من مفهومها الذاتي وإما أن يتماهى معها أو يرفضها.

لكن مثل هذا المثل الأعلى يثمن بشكل ضيق للغاية حياة الإنسان العالمي، المسافر حول العالم الذي يختار بحرية إما الاستقرار في هذا المجتمع أو ذاك، والتعاطف مع هذه المجموعة أو تلك وما إلى ذلك.

ركزت هذه التحديات أيضًا على علاقة الذات بثقافتها، وما هو موضوع الخلاف من منظور السياسة هو أنّ التركيز على الحكم الذاتي للفرد، مع المنظور العالمي الذي يستلزمه هذا، يجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل إرساء الحقوق للحماية والحكم الذاتي الداخلي للثقافات التقليدية نفسها، وهذا يمثل إشكالية لأنّه يستبعد من الحماية المباشرة للسياسات الليبرالية الأفراد والجماعات التي تتكون مفاهيمها الذاتية والتزاماتها القيمية بعمق من العوامل الثقافية.

أو على العكس من ذلك فإنّ الافتراض القائل بأنّ الشخص المستقل قادر على فصل نفسه عن جميع الالتزامات الثقافية يحبط التحركات لتوفير حماية الدولة للأشكال الثقافية نفسها، وبقدر ما تستند سياسات الدولة هذه إلى قيمة الاستقلالية، وكانت هناك ردود كثيرة على هذه الاتهامات نيابة عن نظرة ليبرالية، والرد الأقوى هو أنّ الاستقلالية لا تتطلب أن يكون الناس في وضع يسمح لهم بالابتعاد عن كل صلاتهم وقيمهم وتقييمها بشكل نقدي، وكل ما هو مطلوب هو مجرد انعكاس مجزأ.

ومع ذلك هناك حاجة إلى توضيح في هذا التبادل، وبقدر ما يزعم المدافعون عن المبادئ الليبرالية (القائمة على قيمة الاستقلالية) أنّ جميع جوانب مفهوم الذات للفرد تخضع للتغيير من أجل إظهار الاستقلال الذاتي، فإنّهم يبالغون دون داع في التزامات الموقف الليبرالي، لأنّ مثل هذه النظرة منفتحة على الاتهام بأنّ المفاهيم الليبرالية تفشل في أخذ الجوانب الدائمة وغير القابلة للتغيير للذات وموقعها الاجتماعي على محمل الجد.

ما يجب أن يطالب به المدافع عن الليبرالية القائمة على الاستقلال الذاتي هو أنّ القدرة المعنية هي تغيير تلك الجوانب من الذات التي يكون المرء بعيدًا عنها بشدة أو التي لا يتماثل معها المرء، لأنّه في تلك الحالات عند التفكير يختبر المرء جسده أو ثقافته أو عرقه أو جنسه باعتباره عبئًا خارجيًا يقيد الطبيعة الأكثر استقرارًا وصدقًا، ولا يزال المرء لا يستطيع تغيير هذا العامل عندئذٍ يفتقر المرء إلى الاستقلالية المتعلقة به، ولكن إذا شعر المرء بأنّه في وطنه تمامًا ضمن تلك المعايير غير القابلة للتغيير، فلن يفتقر المرء إلى الاستقلالية بسبب عدم قابلية التغيير.

فلسفة الاستقلالية العلائقية:

زعم العديد من الكتّاب أنّ التفسيرات الإجرائية للاستقلالية ستنسب بشكل خاطئ الاستقلالية إلى أولئك الذين يضغط عليهم التنشئة الاجتماعية المحدودة، وظروف الحياة السافرة لإدخالهم في القيم والمعايير القمعية، لذلك فقط إذا تضمن الاستقلالية مطلبًا بأن يكون المرء قادرًا على التعرف على ادعاءات القيمة الأساسية، فسيكون هذا المفهوم مفيدًا في وصف الظروف القمعية للمجتمع الأبوي.

أدت هذه الاعتبارات وما يتصل بها من اعتبارات إلى قيام البعض بتطوير مفهوم بديل للاستقلالية يهدف إلى استبدال المفاهيم الفردية المفرطة المزعومة، وهذا الاستبدال يسمى (الاستقلالية العلائقية)، وبدافع من الانتقادات النسوية للمفاهيم التقليدية للاستقلالية والحقوق، تؤكد المفاهيم العلائقية للاستقلالية على الدور الذي لا يمكن إنقاصه الذي تلعبه الترابط في المفاهيم الذاتية لكل من الأشخاص، بالنسبة إلى الاستقلالية التي يجب تحديدها وديناميكيات التداول والتفكير.

تقدم هذه الآراء بديلاً استفزازيًا للنماذج التقليدية للفرد المستقل، ولكن يجب توضيح الموقف الذي يتم اتخاذه بشأن هذه القضية، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبار الحسابات العلائقية على أنّها تستند إلى مفهوم غير فردي للشخص، ومن ثم الادعاء بأنّه بقدر ما يكون الاستقلال الذاتي حكمًا للذات وأنّ الذات تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين فإن الاستقلالية هي علاقة.

أو يمكن فهم هذه الحسابات على أنّها ادعاء أنّه مهما كانت الذات فإنّ الاستقلالية تنطوي بشكل أساسي على العلاقات الاجتماعية بدلاً من السمات الفردية، وتتنازل بعض هذه الآراء أيضًا بين الادعاء بأنّ العلاقات الاجتماعية والشخصية تلعب دورًا سببيًا حاسمًا في تطوير والتمتع بالاستقلال الذاتي والادعاء بأنّ مثل هذه العلاقات تشكل استقلالية.

هناك عنصر علاقي آخر للاستقلالية تم تطويره يربط الدعم الاجتماعي والاعتراف بحالة الشخص بقدراته على الثقة بالنفس واحترام الذات، والحجة الأساسية في هذه المناهج هي أنّ الاستقلالية تتطلب القدرة على التصرف بفعالية وفقًا لقيم الفرد (إما كفرد أو كعضو في مجموعة اجتماعية)، لكن تلك الظروف الاجتماعية القمعية بمختلف أنواعها تهدد تلك القدرات عن طريق إزالة إحساس الفرد بالثقة بالنفس المطلوب للوكالة الفعالة، وإنّ الاعتراف الاجتماعي أو الدعم لحالة الثقة بالنفس هذه مطلوبان للتمتع الكامل بهذه القدرات.

غالبًا ما تكون هذه الادعاءات مصحوبة برفض للحسابات الإجرائية المحايدة القيمة المزعومة للاستقلالية، حتى تلك التي تحاول استيعاب مفهوم اجتماعي كامل للذات، وسؤال واحد ينشأ مع وجهات النظر العلائقية المرتبطة بالثقة بالنفس بهذه الطريقة، وهو لماذا بالضبط يُنظر إلى هذه العلاقات على أنّها تشكل مفاهيمياً للاستقلالية بدلاً من أن تساهم فيها وتطورها؟ حيث الثقة بالنفس هو موضع تساؤل وهو العنصر الأساسي الذي تعتبر فيه هذه الأنواع من العلاقات الاجتماعية مساهماً هامًا.

ينشأ سؤال آخر يجب مراعاته من تلك الحالات التي يتم فيها تأسيس الثقة بالنفس على الرغم من عدم الاعتراف الاجتماعي، كما هو الحال عندما يتمكن العبيد الهاربون من المضي قدمًا في سعيهم من أجل الحرية، بينما يواجهون الإنكار العنيف من الآخرين المحيطين والهياكل الاجتماعية المحيطة، بأنّ التمتع بوضع الإنسان الكامل القادر على اتخاذ القرار الحقيقي.

ومع ذلك فقد حولت هذه الأساليب الاهتمام الفلسفي المتعلق بالاستقلالية إلى الديناميكيات الاجتماعية والشخصية التي تشكل التمتع بها، وربط الأفكار حول الاستقلالية بقضايا أوسع تتعلق بالعدالة الاجتماعية والاعتراف والممارسات الاجتماعية، وهذا يعيدنا إذن إلى اعتبارات المشروع الليبرالي وقيوده المحتملة حيث يظل الاستقلالية مركزية.

المصدر: Autonomy in Moral and Political PhilosophyAutonomyThe nature of autonomyThe Place of Autonomy Within LiberalismAlcoff, Linda Martin, 2006. Visible Identities: Race, Gender and the Self, Oxford: Oxford University PressAppiah, Kwame Anthony, 2005. The Ethics of Identity, Princeton: Princeton University Press.Arneson, Richard, 1991. “Autonomy and Preference Formation,” in Jules Coleman and Allen Buchanan (eds.), In Harm’s Way: Essays in Honor of Joel Feinberg, Cambridge: Cambridge University Press.


شارك المقالة: