فلسفة التكرار والوقت لدى دولوز

اقرأ في هذا المقال


يشرح كتاب الاختلاف والتكرار للفيلسوف جيل دولوز كيف أنّ فلسفة الاختلاف قد تمكن الاختلاف من أنّ يصبح مفهومًا إيجابيًا، حيث يقول دولوز إنّ الاختلاف ليس مجرد نفي للتماثل، وقد يكون للاختلاف معنى مستقل عن التماثل وقد يكون التكرار مستقلاً عن تشابه أي أحداث أو أفعال معينة، وقد يكون الاختلاف داخليًا في طبيعة كل فكرة وقد تحتوي كل فكرة على عناصر مختلفة تختلف عن بعضها البعض، وقد لا يعتمد الاختلاف الخالص على علاقة التشابه بين المفاهيم أو التمثيلات وقد يؤكد على حقيقة الفكرة الأفلاطونية أو الليبنيزية أو الكانطية.

فلسفة دولوز في علاقة التكرار مع الوقت:

بالنسبة لدولوز فإنّ الحصة المركزية في التفكير في التكرار هي الوقت، كما هو الحال مع الاختلاف خضع التكرار لقانون المطابقة ولكن أيضًا لنموذج زمني سابق، وتكرار جملة يعني تقليديًا قول نفس الشيء مرتين وفي لحظات مختلفة، ويجب أن تكون هذه اللحظات المختلفة في حد ذاتها متساوية وغير منحازة، كما لو كان الزمن فضاءًا مسطحًا وخاليًا من الملامح.

لذا فقد تم اعتبار التكرار بشكل أساسي على أنّه الفكرة التقليدية للاختلاف بمرور الوقت والتي يتم فهمها بطريقة الفطرة السليمة وعلى أنّها سلسلة من اللحظات، حيث يسأل دولوز عما إذا كنا قادرين على إعادة النظر في التكرار أيضًا في ضوء فهم متجدد للاختلاف على أنّه في حد ذاته، ولكن هناك أيضًا ضرورة هنا لأنّه إذا أردنا النظر في الاختلاف في ذاته بمرور الوقت، واستنادًا إلى منطق التكرار التقليدي فإننا نصل مرة أخرى إلى نقطة الهوية، وعلى هذا النحو فإنّ نقد دولوز للهوية يجب أن يعيد تقييم مسألة الوقت، وتمتد حجة دولوز من خلال ثلاثة نماذج للوقت وتربط مفهوم التكرار بكل منها.

الحجة الأولى:

الحجة الأولى هو الوقت كدائرة، فالوقت الدائري هو وقت أسطوري وموسمي، وتكرار نفس الوقت بعد مرور الوقت عبر نقاطه الأساسية، وقد تكون هذه النقاط عبارة عن تكرارات طبيعية بسيطة مثل شروق الشمس يوميًا، أو حركة الصيف إلى الربيع أو عناصر المأساة التي يقترح دولوز أنّها تعمل بشكل دوري، وهناك شعور بالقدر واللاهوت في مفهوم الوقت كدائرة كسلسلة لحظات يحكمها قانون خارجي.

يجادل دولوز أنّه عندما يتم النظر إلى الوقت بهذه الطريقة فإنّ التكرار معني بالعادة فقط، ويختبر الموضوع مرور اللحظات بشكل دوري (ستشرق الشمس كل صباح)، ويتعاقد مع العادات التي تجعل الوقت حاضرًا مستمرًا، وبالتالي فإنّ العادة هي التوليف السلبي للحظات التي تخلق موضوعًا.

الحجة الثانية:

يرتبط دولوز بالنموذج الثاني للوقت بالفيلسوف إيمانويل كانط، ويشكل أحد الانقسامات المركزية التي تخلقها الفلسفة الكانطية في الفكر، فبالنسبة لدولوز فهذا هو الوقت كخط مستقيم، وفي نقد العقل الخالص يحرر كانط الوقت من النموذج الدائري باقتراحه كشكل مفروض على التجربة الحسية، وبالنسبة لدولوز فإنّ هذا يعكس الموقف السابق من خلال وضع الأحداث في الوقت المناسب (كخط)، بدلاً من رؤية سلسلة الأحداث التي تشكل الوقت بمرور اللحظات الحالية.

وهكذا لم يعد للعادة أي قوة لأنّه في هذا النموذج من الزمن لا شيء يعود، ومن أجل فهم ما حدث يجب أن تكون هناك عملية تجميع نشطة والتي تجعل من الأمثلة الماضية ذات معنى، ويسمي دولوز هذه الذاكرة التوليفية الثانية، وعلى عكس العادة لا تتعلق الذاكرة بحاضر بل بماضٍ لم يكن موجودًا أبدًا، حيث إنّها تصنع من لحظات عابرة شكلاً في حد ذاته لأشياء لم يكن موجودًا قبل العملية، وتعتبر روايات مارسيل بروست بالنسبة لدولوز التطور الأكثر عمقًا للذاكرة مثل الماضي الخالص أو وفقًا لمصطلحات بروست مع عودة الزمن.

في هذا النموذج الثاني من الزمن يكون للتكرار إحساس نشط يتماشى مع التركيب لأنّه يكرر شيئًا في الذاكرة والذي لم يكن موجودًا من قبل، ومع ذلك فإنّ هذا لا ينقذه من كونه عملية هوية، ومع ذلك هاتان اللحظتان التكوين النشط لماض خالص والتجربة المتباينة لحاضر لم يتم تجميعه بعد ينتج عنهما نتيجة أخرى لدولوز، وكما في كانط انقسام جذري للموضوع إلى عنصرين الأول للذاكرة والذي ليست سوى عملية توليف، وذات تجربة وأنا تخضع للتجربة.

يصر دولوز على أنّ كلا النموذجين من الوقت يضغطان على التكرار لخدمة نفس الشيء، ويجعلانه عملية ثانوية فيما يتعلق بالوقت، فالنموذج الأخير للوقت الذي يقترحه دولوز محاولات لجعل التكرار نفسه شكل الزمن.

من أجل القيام بذلك ربط دولوز مفاهيم الاختلاف والتكرار ببعضهما البعض، وإذا كان الاختلاف هو جوهر ما هو موجود وتشكيل الكائنات على أنّها متباينة فلا أحد من النموذجين الأولين للوقت ينصفهم، ويصرون كما يفعلون على إمكانية بل وضرورة تجميع الاختلافات في الهويات، وفقط عندما تتكرر الكائنات كشيء آخر يتم الكشف عن تباينها، وبالتالي لا يمكن فهم التكرار على أنّه تكرار لنفسه ويتحرر من القهر في ظل متطلبات الفلسفة التقليدية.

الحجة الثالثة:

لإعطاء الجسد لمفهوم التكرار باعتباره الشكل الخالص للزمن يلجأ دولوز إلى مفهوم الفيلسوف فريدريك فيلهيلم نيتشه عن العودة الأبدية، والذي دائمًا ما يُمنح دولوز هذا المفهوم الصعب تأهيلًا قويًا ودقيقًا كلما كتب عنه، كما أنّه لا يجب اعتباره حركة دورة كعودة متطابقة، وكشكل من أشكال الزمن فإنّ العائد الأبدي ليس دائرة العادة حتى على المستوى الكوني، وسيسمح هذا فقط بعودة شيء كان موجودًا بالفعل من نفس الشيء، وسيؤدي مرة أخرى إلى قمع الاختلاف من خلال مفهوم غير ملائم للتكرار.

بينما عادت العادة إلى نفس الشيء في كل حالة وتعاملت الذاكرة مع خلق الهوية من أجل السماح بتذكر التجربة، فإنّ العائد الأبدي بالنسبة لدولوز هو مجرد تكرار لما يختلف عن نفسه أو في نيتشه، والمصطلحات فقط تكرار تلك الكائنات التي يتحول كيانها إلى: “موضوع العود الأبدي ليس هو نفسه ولكنه مختلف، وليس متشابهًا ولكن غير متشابه وليس الواحد بل الكثير”.

على هذا النحو يخبرنا دولوز التكرار باعتباره المعنى الثالث للوقت يأخذ شكل العودة الأبدية، وكل ما هو موجود كوحدة لن يعود وفقط ما يختلف عن نفسه (الاختلاف يسكن التكرار)، ولذلك بينما كانت العادة وقت الحاضر والذاكرة هي وجود الماضي فإنّ التكرار كعود أبدي هو وقت المستقبل.

تفوق هذا الفهم الثالث للتكرار مع الزمن له دافعين رئيسيين في حجة دولوز، حيث الأول هو أنّه من الواضح أنّه يحافظ على الاختلاف كما هو في حركته المتمثلة في الاختلاف عن نفسه، والثاني مهم بنفس القدر إذا كان لأسباب مختلفة، وإذا عاد ما يختلف فقط فعندئذ يعمل العائد الأبدي بشكل انتقائي، وهذا الاختيار هو تأكيد للاختلاف وليس نشاط تمثيل وتوحيد قائم على السلبي كما في هيجل.

المصدر: Gilles DeleuzeGilles Deleuze (1925–1995)Ansell-Pearson ed., Deleuze and Philosophy: the difference engineer (1997: Routledge, New York) – chapters 2-5, 6, 7 and 13 especially.Alliez, Eric (ed.), 1998, Gilles Deleuze: une vie philosophique, Paris: Synthélabo, 2001, “Différence et repetition de Gabriel Tarde,” Multitudes.Alloa, Emmanuel and Michalet, Judith, 2017, “Differences in Becoming: Gilbert Simondon and Gilles Deleuze on Individuation,” Philosophy Today.


شارك المقالة: