فلسفة الشك البيروني لدى الفيلسوف انيسيديموس

اقرأ في هذا المقال


لا تتوفر الكثير من المعلومات العملية عن انيسيديموس إلّا أنّه عاش في وقت ما في القرن الأول قبل الميلاد، وأنّه كرس أحد أعماله المكتوبة إلى لوسيوس توبيرو وهو صديق لشيشرون الذي كان أيضًا عضوًا في الأكاديمية، وقد دفع هذا معظم العلماء إلى افتراض أنّ انيسيديموس كان عضوًا في الأكاديمية وربما خلال فترة قيادة فيلو، وأنّ إحياءه للشك البيروني ربما كان رد فعل على ميل فيلو نحو الخطأ، على الرغم من أنّ هذا أمر معقول إلّا أنّه يجعل حقيقة أنّ شيشرون لم يذكره أبدًا محيرة تمامًا.

إحياء البيرونية:

لم تنجو الخطابات البيرونية لأينيسيديموس مثل بقية أعماله، لكن لخصها بطريرك بيزنطي في القرن التاسع فوتيوس الذي كان متميزًا في حد ذاته، وفي مكتبة (Bibliothêkê) لخص 280 كتابًا بما في ذلك البيرونية على ما يبدو من الذاكرة، ويتضح من ملخصه أنّه لا يفكر إلّا قليلاً في عمل أينيسيديموس، ويرجع ذلك إلى رأيه القائل بأنّ شكوك أينيسيديموس لا يقدم أي مساهمة في العقيدة المسيحية ويخرج من أذهاننا المبادئ الغريزية للإيمان.

ومع ذلك فإنّ مقارنة ملخصاته بالنصوص الأصلية الباقية تكشف أنّ فوتيوس مصدر موثوق بشكل عام، لذلك على الرغم من تقييمه لشكوك أينيسيديموس فإنّ الإجماع هو أنّه يقدم ملخصًا دقيقًا عن البيرونية، والتفسير الصحيح لذلك الملخص مع ذلك موضع خلاف.

كان أينيسيديموس عضوًا في أكاديمية أفلاطون على ما يبدو خلال فترة قيادة فيلو وتزايد عدم رضاه عما اعتبره دوغماتية الأكاديمية، وسعى إلى تنشيط الشكوك من خلال العودة إلى شكل أنقى مستوحى من بيرو، وكانت شكواه المحددة ضد الأكاديميين المعاصرين أنّهم يؤكدون بثقة بعض الأشياء حتى المعتقدات الرواقية وينكرون أشياء أخرى بشكل لا لبس فيه، وبعبارة أخرى لم يكن الأكاديميون من وجهة نظر أينيسيديموس متأثرين بشكل كافٍ بقيودنا المعرفية.

كان بديله هو (عدم تحديد أي شيء) ولا حتى الادعاء بأنّه لا يقرر شيئًا، وبدلاً من ذلك يقول البيروني أنّ الأشياء ليست أكثر من طريقة أخرى، وهذا الشكل من الكلام غامض (بالمعنى الإيجابي من منظور أينيسيديموس) لأنّه لا ينكر أو يؤكد أي شيء دون قيد أو شرط، وبعبارة أخرى سيؤكد البيروني فقط أنّ بعض الخصائص تنتمي إلى كائن ما بالنسبة إلى مراقب ما أو متعلق بمجموعة معينة من الظروف.

وبالتالي فإنّه سيؤكد بعض الأشياء بشكل مشروط لكنه سينكر تمامًا أنّ أي ملكية تنتمي إلى أي شيء في كل الظروف الممكنة، ويبدو أنّ هذا هو ما قصده أينيسيديموس بعبارة (عدم تحديد أي شيء)، لأنّ تأكيداته النسبية لا تقول شيئًا محددًا عن طبيعة الشيء المعني.

نمط الأوضاع العشرة:

يمكن رؤية أنواع الاستنتاجات التي اعتبرها أينيسيديموس باعتباره مؤيدًا للبيرونيين بشكل أكثر وضوحًا من خلال النظر في أنواع الحجج التي قدمها للوصول إليها، ومن الواضح أنّه أنتج مجموعة من أشكال الحجج المتشككة أو الأنماط لغرض دحض الادعاءات العقائدية فيما يتعلق بطبيعة الأشياء، حيث يناقش سكستوس إمبيريكوس إحدى هذه المجموعات وهي الأوضاع العشرة ببعض التفصيل.

1- تم تصميم الوضع الأول لإظهار أنّه ليس من المعقول افتراض أنّ الطريقة التي يظهر بها العالم لنا نحن البشر أكثر دقة من الطرق غير المتوافقة التي يظهر بها للحيوانات الأخرى.

2- أما النمط الثاني يستهدف الخلافات اللامتناهية بين العقائديين، ولكن مرة أخرى لن نجد أي أساس منطقي لتفضيل وجهة نظرنا الخاصة للأمور، لأنّه إذا جعل الطرف المعني نفسه يحكم يجب أن نشك في الحكم الذي يتوصل إليه ولا نقبله.

3- النمط الثالث يواصل خط التفكير الذي تم تطويره في الأولين، فمثلما يظهر العالم بطرق غير متوافقة لأشخاص مختلفين فإنّه يبدو أيضًا غير متوافق مع الحواس المختلفة للشخص نفسه.

4- يوضح الوضع الرابع أنّ الاختلافات في الحالة العاطفية أو الجسدية للمدرك تؤثر على تصوره للعالم، وكونه واقعًا في الحب والهدوء والدفء سيختبر المرء الرياح الباردة التي تأتي مع حبيبته بشكل مختلف تمامًا عما لو كان غاضبًا وباردًا.

نحن غير قادرين على الفصل بين هذه التجارب غير المتوافقة للرياح الباردة لأنّه ليس لدينا أسس منطقية نفضل على أساسها تجربتنا في مجموعة من الظروف على تجربتنا في مجموعة أخرى، ويمكن للمرء أن يقول إننا يجب أن نعطي الأفضلية لتجارب أولئك الذين يتمتعون بالصحة والعقل والهدوء لأنّ هذه هي حالتنا الطبيعية،لوكن رداً على ذلك قد نستخدم الطريقة الثانية لتحدي فكرة حالة صحية واحدة قابلة للتطبيق عالميًا.

5- يوضح الوضع الخامس أنّ الاختلافات في موقع وموضع الكائن المرصود بالنسبة إلى المراقب ستؤثر بشكل كبير على طريقة ظهور الكائن، ولكن على غرار الأربعة الأولى في كل حالة تُترك دون أي أسس منطقية نفضل على أساسها موقعًا معينًا أو موقعًا معينًا على آخر.

6- يدّعي الوضع السادس أنّه لا يمكن تجربة أي شيء في نقاوته البسيطة ولكن يتم اختباره دائمًا على أنّه مختلط مع أشياء أخرى إما داخليًا في تكوينه أو خارجيًا في الوسط الذي يُدرك فيه، وفي هذه الحالة نحن غير قادرين على تجربة طبيعة الأشياء وبالتالي لا يمكننا تحديد ماهية تلك الطبيعة.

7- يستدعي الوضع السابع الطريقة التي يتم بها إنتاج التأثيرات المختلفة عن طريق تغيير كمية ونسب الأشياء.

8- النمط الثامن من النسبية هو نموذج لمجموعة كاملة من الأنماط، حيث إنّه يسعى لإظهار بشكل عام أنّ شيئًا ما يبدو أنّه يمتلك الخاصية (F) فقط فيما يتعلق بسمات معينة للموضوع المدرك أو بالنسبة إلى سمات معينة للكائن، ومرة أخرى طالما أننا غير قادرين على تفضيل مجموعة من الظروف على أخرى فيما يتعلق بطبيعة الموضوع يجب علينا تعليق الحكم على تلك الطبيعة.

9- تشير الأوضاع التاسعة إلى أنّ تكرار مواجهة شيء ما يؤثر على الطريقة التي يظهر بها هذا الشيء لنا، وإذا رأينا شيئًا نعتقد أنّه نادر سيبدو أكثر قيمة، وعندما نواجه شيئًا جميلًا لأول مرة سيبدو أكثر جمالًا وإبهارًا مما يبدو بعد أن نتعرف عليه.

10- النمط العاشر الذي يتعلق بالأخلاق ينادي بالاختلافات في العادات والقانون، وبشكل عام للاختلافات في الطرق التي نقيم بها العالم، ومرة أخرى نظرًا لأننا غير قادرين على تفضيل مجموعة من القيم على مجموعة أخرى فقد تم توجيهنا إلى الاستنتاج بأنّه يجب علينا تعليق الحكم وهذه المرة فيما يتعلق بالقيمة الجوهرية للأشياء.

في كل من هذه الأنماط يبدو أنّ أينيسيديموس يطور نوعًا من النسبية، وبالتالي فإنّ شكوكه موجهة حصريًا إلى نسخة من الجوهرية، وهناك سؤال آخر هو ما إذا كان أينيسيديموس ينوي هجومه على الجوهرية ليكون وجوديًا أو معرفيًا، وإذا كان الأمر معرفيًا فهو يدعي أننا ببساطة لا نستطيع معرفة طبيعة أو جوهر شيء ما أو حتى ما إذا كان له واحد.

يبدو أنّ هذا كان على الأرجح موقف أينيسيديموس منذ أن بدأ ملخص فوتيوس بملاحظة أنّ الهدف العام من البيرونية هو إظهار أنّه لا يوجد أساس ثابت للإدراك، وبالمثل يبدو أنّ الأساليب المعرفية حصريًا بقدر ما تجبرنا على تعليق الحكم، ومن الواضح أنّها مصممة لفرض الاعتراف بأنّه لا يمكن تفضيل منظور عقلاني على أي منظور آخر فيما يتعلق بالطبيعة أو الجواهر الحقيقية، وعلى النقيض من ذلك فإنّ النظرة الأنطولوجية القائلة بعدم وجود جوهر لا تتوافق مع تعليق الحكم على السؤال.

الهدوء والطمأنينة:

ليس لدينا أدلة كافية لتحديد سبب إلهام أينيسيديموس في بيرو بدقة، ومع ذلك فإنّ إحدى النقاط المهمة هي أنّ كلاهما يعزز العلاقة بين الهدوء وقبول قيودنا المعرفية، ويعزو ديوجين وجهة النظر إلى كل من أينيسيديموس وأتباع تيمون أنّه نتيجة لتعليق الحكم فإنّ التحرر من الاضطراب (ataraxia) سيتبع كظل، وبالمثل يذكر فوتيوس وجهة نظر أنيسيديموس بأنّ أولئك الذين يتبعون فلسفة بيرو سيكونون سعداء، بينما على النقيض من ذلك فإنّ الدوغمائيين سوف يرهقون أنفسهم في تنظير عديم الجدوى ومتواصل.

على الرغم من أنّه يبدو أنّ هناك اختلافات مهمة في ما فهمه بيرو وأينيسيديموس من خلال قيودنا المعرفية، إلّا أنّ كلاهما روج للهدوء باعتباره الهدف أو على الأقل المنتج النهائي، وبشكل عام الفكرة واضحة بما فيه الكفاية، أي الطريق إلى وجود سعيد وهادئ هو العيش وفقًا لما تبدو عليه الأشياء بما في ذلك بشكل خاص انطباعاتنا التقييمية عن العالم، وبدلاً من محاولة الكشف عن بعض الحقيقة المخفية يجب أن نقبل قيودنا، وأن نعمل وفقًا للعرف والعادات وألّا ننزعج مما لا يمكننا معرفته.

المصدر: Ancient Greek SkepticismAncient SkepticismSkepticismAnnas, J., (1996), “Scepticism, Old and New,” in M. Frede and G. Striker, eds., Rationality in Greek Thought, (Oxford: Clarendon).Barnes, J. (1990), The Toils of Scepticism, (Cambridge: Cambridge University Press).


شارك المقالة: