فلسفة برادلي في الأخلاق الاجتماعية

اقرأ في هذا المقال


إنّ الجاذبية الدائمة لتفسير فرانسيس هربرت برادليللأخلاق على أنّها تحقيق للذات تكمن في تفسيرها غير المختزل للذات الأخلاقية، وحقيقة أنّها حيلة في التفكير معًا في الأخلاق الشخصية والاجتماعية (أخلاق الفرد الذاتية، وأخلاق الفرد كعضو في المجتمع).

والأهم من ذلك أنّه من المفيد أن يكون برادلي أول من يعترف بأنّ نظريته عن الأخلاق المثالية غير كافية في النهاية، على الرغم من أنّها تفوق ديالكتيكيًا على سابقاتها، ومع ذلك في حين أنّ أخلاقياته وميتافيزيقيا قد تفشل، فمن المؤكد أنّها ليست نوع من الشك التفكيكي الذي هو مخزون في تجارة الفلسفة المعاصرة، لأنّ فشل أخلاق برادلي والميتافيزيقيا يفتح الأخلاق والفلسفة على الواقع المطلق.

فلسفة برادلي حول اللغة بين الأفراد في المجتمع:

دعا داروين لوجهة نظر وهي أنّ البشر كانوا دائمًا اجتماعيين بعد أن تطوروا من الحيوانات الاجتماعية، وهذه الفكرة أظهرت لدى برادلي حجة أكثر إثارة للاهتمام حول الشمولية والتي تدخل في اللغة بحيث يجب أن تكون اللغة التي يتحدث بها المجتمع عامة حقًا وذات معاني مفهومة ومقبولة لمصطلحاتها المركزية، مع الحرص على الانتهاء دون أن يفهم أحد ما يتحدث عنه أي شخص آخر، وجاءت هذه الحجج نتيجة تعارضه مع فكرة الفردانية التي تعتمد على أساس أنّه لم يكن هناك  مجتمعات بل أفراد فقط.

تحتوي اللغة أيضًا على قيم ومعتقدات المجتمع الذي يتحدث بها كما كانت، ومن خلال نقل لغته إلى الأطفال يقوم المجتمع بتمرير قيمه وفهمه لمؤسساته وما إلى ذلك، وكما يقول برادلي بالنسبة لكل طفل فإنّ تعلم التحدث باللغة: “يحمل في ذهنه أفكار ومشاعر العرق ويختمها بشكل لا يمحى، وهذا الطفل أيضًا يلاحظ ويأتي للمشاركة في ممارسات المجتمع حيث إنّه ينمو في جو من القدوة والعادات العامة”.

للشمولية (وهي النظرية القائلة بأنّ أجزاء من الكل هي في ترابط وثيق بحيث لا يمكن أن توجد بشكل مستقل عن الكل أو لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى الكل، والذي يعتبر بالتالي أكبر من مجموع أجزائه، وغالبًا ما يتم تطبيق الشمولية على الحالات العقلية واللغة والبيئة) تداعيات على نظرية تحقيق الذات، لأنّه إذا كانت العلاقات الاجتماعية للفرد مكونة لما هو عليه فعندئذٍ تتحقق الذات فقط عندما تعترف وتؤيد واجباتها كعضو في مجتمع، أسرة أو دولة أو ما إلى ذلك من مكونات.

ففي هذه المرحلة ينتقل منظور الذات من المشاعر والأهداف الذاتية للفرد إلى فكرة الالتزامات الأخلاقية الموضوعية من حيث أنّها تحملها للجميع في المجتمع، وموضوعية أيضًا في أنّ المرء يمتلكها بغض النظر عن الرغبات الشخصية التي قد تكون لدى المرء، وبالطبع مع الاعتراف بأنّ الفرد هو عضو في المجتمع لن يتم تفسير الوضع على أنّه: “هم يجبرونني على التصرف بطريقة معينة” ولكنها ستؤدي إلى النية الجماعية الحقيقية ومن ثم إلى النظر إلى الأشياء من منظور ما نؤمن به ونقدره.

أحد الأشياء الرئيسية التي تحدث في هذه المرحلة هو أنّ فكرة إدراك الذات تُعطى الآن محتوى محددًا، ومن الملاحظ في الدراسات السابقة أنّ الفاعل الأخلاقي والذات الأخلاقية من حيث البنية الشكلية للفعل الإرادي، ولكن هنا نرى ذاتًا لها محتوى محدد مرتبط بإدراكها أو إتقانها لذاتها لأنّ الأخلاق الجماعية تشير إلى ما هو متوقع من شخص ما إذا كانوا يرغبون في اعتبارهم عضوًا فاضلاً في ذلك المجتمع الأخلاقي.

علاوة على ذلك يقدم المجتمع التجانس والخصوصية التي يتطلبها التطور الأخلاقي حيث لا توفر الحياة الاجتماعية درجة أكبر من التجانس فقط، كما إنّها تزيل ثنائية الذات والآخرين ولكنها توفر توسعًا للذات من خلال التنوع الأكبر (الخصوصية) توجد في العيش مع الآخرين، لأنّ تلك الحياة الجماعية توسع خبرة المرء إلى ما هو أبعد مما هو متاح لها كمجرد فرد منعزل، ومرة أخرى لدينا حركة في اتجاه كوننا وحدة لا نهائية لأنّ العلاقات التي كان يعتقد سابقًا أنّها خارجية بالنسبة للفرد -وبالتالي العوامل المقيدة- يُنظر إليها الآن على أنّها داخلية للذات.

وبشكل عابر من المثير للاهتمام التفكير في سبب موافقة برادلي على اتباع مشاعر فرونيموس -الشخص صاحب الحكمة العملية- عندما لا يؤمن بأحكام قضاة جون ستيوارت ميل الأكفاء الذين يقال إنّهم قادرون على تصنيف الملذات وعدم الثقة في تقويم ميل الأخلاقي، فالاختلاف هو أنّ خبراء ميل يقومون ببساطة بالإبلاغ عن مشاعرهم الشخصية -وهي ليست موثوقة لأنّ أي شخص آخر يمكن أن يختلف ولا يوجد اختبار متاح لتحديد من هو على حق- والتقويم الأخلاقي هو مجرد مجموعة من هذه الأنواع من التجارب.

بينما على النقيض من ذلك فإن الفرونيموس من خلال خبرة طويلة داخل مجتمعه أصبحوا يتعرفون على قيم ذلك المجتمع، وبالتالي فإنّ أحكامه وخياراته تعكس هذه القيم، وأصبحت الأعراف الاجتماعية جزءًا من شخصيته لدرجة أنّه لا يحتاج إلى التفكير فيما يجب فعله ولكن لديه إحساس حدسي بما تتطلبه الأخلاق، وإذا كان هذا صحيحًا فيبدو أنّ الفرونيموس لم يعد يشعر بأي تعارض بين الذات المعينة التي هو عليها والذات التي يجب أن يكون عليها كعضو في المجتمع.

أشار برادلي إلى توجيهات يوهان جوته: “كن كليًا أو انضم إلى كل” والتي عدلها إلى: “لا يمكنك أن تكون كليًا ما لم تنضم إلى الكل” وهذا ما فعله الفرونيموس، وبذلك حول علاقاته الخارجية مع الآخرين في المجتمع إلى علاقات داخلية مميزة لأجزاء من الوحدة العضوية، وما إذا كان هذا يعني أنّ الفرونيموس بالتالي غير قادر على أن يكون مصدر إلهام أو حافز لبدء التغيير الاجتماعي، أو أنّه غير قادر على الارتقاء إلى مستوى الأخلاق المثالية.

فهذا سؤال لم يتطرق إليه برادلي، ولكن يجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للفرونيموس فهو لم يعد يحتفظ بدرجة الفردية المتبقية التي يتطلبها المستوى التالي من الأخلاق والأخلاق المثالية.

تحفظات برادلي حول أخلاق المجتمع:

برادلي لديه تحفظان حول أخلاق المجتمع:

1- هناك بعض الطرق لإدراك الذات أو إتقانها والتي يبدو أنّها لا علاقة لها بالأخلاق المناسبة أو بالمجتمع:

مما يثير سؤالًا حول حدود الأخلاق، وحول ما إذا كانت مطالب تحقيق الذات تتجاوز الالتزام الأخلاقي إلى الكمال نفسه كعضو في المجتمع، وهل الفنانة ملزمة بإتقان مواهبها؟ إذا كان الأمر كذلك فهل هذا التزام أخلاقي؟

يلاحظ برادلي أنّه يبدو من المعقول أن نقول إننا لن ندرك أنفسنا إذا فشلنا في تطوير مواهبنا وقدراتنا وحتى أنّه يشعر ببعض الإغراء لتسمية هذا التزامًا أخلاقيًا أو على الأقل التزامًا من نوع ما، بينما في نفس الوقت الاعتراف بأنّ هناك مجالات نشاط خالية من الالتزامات أو يجب أن تكون خالية من الالتزام حيث نترك لأجهزتنا الخاصة.

بقوله هذا فهو يعترف بأنّ الفردية ليست خاطئة تمامًا حتى أنّ أعضاء المجتمع يظلون أفرادًا يسعون وراء خططهم ومشاريعهم المنفصلة، وإن كان ذلك في إطار المؤسسات الاجتماعية والسياسية للمجتمع وفهمه والتزاماته المعيارية.

2- أنّ الفرد التأملي قد يشعر بأنّ مجتمعه مخطئ من بعض النواحي أو أنّه في ما يسميه برادلي حالة فاسدة:

ففي حين أنّه قد لا يكون من الواضح ما الذي يعنيه مصطلح فاسد أو كيف يمكن للمرء أن يقرر ما إذا كان المجتمع في هذه الحالة أم لا، فمن الواضح أنّه يمكن حث التغيير إذا اكتشفنا تناقضًا في الآراء الأخلاقية لمجتمعنا، على سبيل المثال إذا ادّعى الدستور أنّ الجميع متساوون أمام القانون لكن هناك قوانين محددة تحرم مجموعة معينة من الفوائد أو الوصول إلى مؤسسات الدولة فعندئذ يكون لدينا تناقض.

هل الأخلاق الاجتماعية مطلقة أم نسبية في نظر برادلي؟

إنّ النظر إلى الاحتمال من حرمان الأفراد بعضًا من حقوقهم بحيث أنّه يجب أن يكون هناك مجال لمراجعة القواعد الاجتماعية والمؤسسات السياسية، مما يعني أنّ المرء قد يعارض القيم الأخلاقية للمجتمع، وفي القيام بذلك فإنّ معارضة الذات إلى حد ما في منظور ذلك الفرد الأخلاقي قد ورثت من أعضاء ذلك المجتمع من الأجداد، وفي هذه الحالة تندلع التعارض بين الذات الشخصية والذات الأخلاقية الفائقة المتعارف عليها مع المجتمع مرة أخرى والتي تصبح بعد ذلك دافعًا لتغيير القيم الأخلاقية.

يوضح هذا ملاحظة برادلي بأنّ الأخلاق الاجتماعية مطلقة ونسبية، حيث إنّ أخلاق المجتمع لديها مطالبة ظاهرة للعيان على الأعضاء الأفراد، وبالتالي فهي مطلقة بمعنى أنّه لا يوجد أحد حر لمجرد السير في طريقه، ومع ذلك قد تتغير الأخلاق الاجتماعية لنفس الأسباب التي قد يتغير بها منظور الفرد، على سبيل المثال بسبب اكتشاف حقائق جديدة أو مع الكشف عن تناقض يفرض إعادة التفكير في القيم الحالية- وبالتالي فهي ليست سوى نسبيا. وهكذا في حين أنّ على الفرد التزامًا بديهيًا ليكون جيدًا مثل مجتمعه فإنّه ملزم أيضًا بالتأمل في الأخلاق الاجتماعية وتحديد ما إذا كانت تتطلب تعديلًا.

المصدر: BRADLEY’S ACCOUNT OF IDEAL MORALITY: SELF- REALIZATION AND ITS EQUIVOCATIONS ESSAYS ON F.H. BRADLEY¶S ETHICAL IDEALISMBradley’s monist idealism, phil 43904, Jeff Speaks, August 29, 2007. THE PRINCIPLES OF LOGIC, Francis Herbert Bradley, Elibron Classics, LONDON KEGAN PAUL, TRENCH, & CO., I, PATERNOSTER SQUARE 1883.FRANCIS HERBERT BRADLEY APPEARANCE AND REALITY A METAPHYSICAL ESSAYm F. H. BRADLEYm Second Edition (Revised), with an Appendix 1897. "F.H. Bradley’s Objections to the Ontological Proof"


شارك المقالة: