فلسفة بنيامين في التاريخ والصورة والثقافة

اقرأ في هذا المقال


كان الجدل حول مفهوم الفيلسوف والتر بنيامين للتاريخ لسنوات عديدة منشغلاً بمسألة ما إذا كان هو أساسًا لاهوتيًا أو ماديًا في جوهره (أو كيف يمكن أن يكون كلاهما في آن واحد)، وذلك بسبب اقتران تعريف بنيامين الذاتي مع المادية التاريخية واستخدامه المستمر لأشكال مسيانية صريحة، فكان هذا في جزء كبير منه هو الإرث الجدلي للتأثير المتنافس لثلاث صداقات -مع غيرشوم شولم وثيودور أدورنو وبيرتولت بريخت- المطبق على تفسير نص بنيامين النهائي، وأجزاء حول مفهوم التاريخ (Über den Begriff der Geschichte) المعروفة باسم (أطروحات في فلسفة التاريخ).

فلسفة بنيامين في التاريخ:

روج شولم لتفسير لاهوتي ألهم بريخت تفسيرًا ماديًا، بينما حاول أدورنو صياغة شكل من أشكال التوافق بين الاثنين، ومع ذلك يُطرح السؤال بشكل سيئ إذا تم تأطيره ضمن المفاهيم السائدة عن اللاهوت والمادية (تصبح المفارقة مكتفية ذاتيًا)، حيث كان هدف بنيامين جذريًا إعادة التفكير في معنى هذه الأفكار على أساس فلسفة جديدة للزمن التاريخي.

هذه الفلسفة الجديدة للزمن التاريخي هي الهدف النهائي لكتابات بنيامين اللاحقة، ويظهر بشكل أكثر وضوحا تحت الإنشاء في (Convolute N) من مشروع آركيدز حول نظرية المعرفة ونظرية التقدم، وتم تطبيقه على تاريخ الفن في مقال في عام 1937 إدوارد فوش جامع ومؤرخ (Eduard Fuch, Collector and Historian)، ويتجلى بشكل مكثف وسياسي إشكالي خطابي في (حول مفهوم التاريخ)، حيث إنّه مستمد من نقد مزدوج لـ (الطبيعية المبتذلة) للتاريخية، وإرجاء العمل المتضمن في المفهوم الاشتراكي الديمقراطي المرتبط بالتقدم.

كما إنّه يؤدي إلى مفهوم الفهم التاريخي القائم على (المونتاج الأدبي) كأسلوب لبناء الصور الديالكتيكية، ويبلغ ذروته في مفهوم شبه مسياني للثورة على أنّها انقطاع للتاريخ أو توقيف للحدث: “المجتمع غير الطبقي ليس الهدف النهائي للتقدم التاريخي ولكنه توقف بشكل متكرر وانقطاع في النهاية”.

اعتبر بنيامين أحد الأهداف المنهجية الرئيسية لمشروع الممرات لإثبات المادية التاريخية التي قضت في ذاتها على فكرة التقدم، معتبراً أنّ مفهومها التأسيسي ليس التقدم بل تحقيق، حيث كان لديه أسباب فلسفية وسياسية لذلك، فمن الناحية الفلسفية رأى بنيامين الفكرة التقليدية للتقدم على أنّها تصور للمستقبل مفهومًا للوقت باعتباره متجانسًا وفارغًا تجسده محاولة تاريخية رانكي لتمثيل الماضي بالطريقة التي كان عليها بالفعل، وهذا مفهوم للوقت قائم على الاستمرارية الزمنية للماضي والحاضر والمستقبل، حيث تحدث الأحداث وتُفهم على أنّها مرتبطة سببيًا.

كما إنّه طبيعي بقدر ما يعترف بعدم وجود تمييز زمني وجودي أساسي بين الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وليس له معنى للوقت كإنتاج مستمر للتمايز الزمني، ويتم تمييز الوقت فقط من خلال الاختلافات بين الأحداث التي تحدث داخله، على وجه الخصوص فشل في فهم أنّ الزمن التاريخي (زمن حياة الإنسان) يتشكل من خلال مثل هذه الفروق الجوهرية، وعبر الأنماط الوجودية للذاكرة والتوقع والعمل، وفي هذا الصدد هناك أوجه تشابه بين فلسفة بنيامين عن الوقت وفلسفة هايدجر.

والنتيجة السياسية للطبيعية الزمنية الكامنة وراء فكرة التقدم هي التقيد، فبالنسبة لبنيامين من المفارقات أنّ هذا ينطبق بشكل خاص على فهم الديمقراطيين الاشتراكيين الألمان للشيوعية كمثل بالمعنى الأخلاقي الكانطي الجديد لموضوع (المهمة اللانهائية)، فالمجتمع غير الطبقي ليس هو الهدف النهائي للتقدم التاريخي، لكنه يتعرض للإخفاق المتكرر والذي تحقق في النهاية.

بمعنى آخر مفهوم التقدم هو التسريح حيث أصيبت الماركسية بأيديولوجية التقدم، ومع ذلك بدلاً من طرح بديل وجودي بطريقة قرار هايدجر الحازم، فقد شرع بنيامين في بناء مفاهيم جديدة للوقت التاريخي والوضوح التاريخي على أساس العلاقة ليس بين الماضي والحاضر، ولكن بين (آنذاك) و(الآن) كما تم جمعهما معًا في صور الماضي، وكان يُفهم أنّ كل كلمة (الآن) محددة تاريخيًا تتوافق مع (بمعنى بودليري) أو تجعلها مقروءة في (وقت) معين.

ليس الأمر أنّ الماضي يسلط ضوءه على الحاضر أو ما هو موجود بنوره على ما هو في الماضي، بل بدلاً من ذلك فإنّ الصورة هي التي يتجمع فيها ما تم في ومضة مع الآن لتشكيل كوكبة، وبمعنى آخر الصورة ديالكتيك في طريق مسدود، وذلك لأنّه في حين أنّ علاقة الحاضر بالماضي هي علاقة مؤقتة بحتة فإنّ العلاقة بين ما كان عليه الآن هي علاقة جدلية، أي ليست مؤقتة في الطبيعة بل مجازية، والصور الديالكتيكية فقط هي صور تاريخية حقًا.

فلسفة بنيامين في التاريخ والصورة:

كان من المفترض أن تكون الطريقة التجريبية للمونتاج المستعارة من السريالية هي وسيلة إنتاج الوضوح التاريخي، علاوة على ذلك تم فهم المؤقتة الثابتة للصورة على أنّها تربط مثل هذه التجربة ذات المعنى التاريخي بشكل مباشر بمفهوم جذري أو ثوري للفعل المرتبط بفكرة الحاضر على أنّه أزمة.

إن مثل هذه اللحظات الحرجة المحفوفة بالمخاطر ملازمة لزمنية الحداثة على المستوى البنيوي (زمانية الأزمة)، وفي كل حالة على حدة عرضية ومحددة ظرفية، وفي نفوسهم يُفهم الماضي لإحضار الحاضر إلى حالة حرجة، ومع ذلك فإنّ هذه الحالة الحرجة ليست أزمة الوضع الراهن بل هي أزمة تدميره، أي اللحظة الحاسمة هي تلك التي يهدد الوضع الراهن بالحفاظ عليها.

تتصدى الصور الديالكتيكية لخطر الحفظ (التقليد) بحكم القوة المقاطعة التي يُفهم أنّها تنقلها للتجربة كنتيجة للزمانية اللحظية للوقت الحاضر، أو ما أطلق عليه بنيامين بشكل مشهور الآن (Jetztzeit) أي: “الصورة الديالكتيكية هي صورة تظهر فجأة وفي ومضة”، وإنّها صورة الصورة على أنّها (وميض) (ein aufblitzendes)، والصورة المقابلة للتجربة التاريخية كإطلاق لقوة متفجرة -القوة المتفجرة في الوقت الحاضر التي تفتح استمرارية التاريخ- والتي من أجلها من المحتمل أن يكون بنيامين أكثر شهرة.

فلسفة بنيامين في التاريخ والثقافة:

إنّ فلسفة الزمن التاريخي التي لخصها في هذه الصور قد صاغها في سياقين رئيسيين وهما:

1- تطوير مفهوم جديد للتاريخ الثقافي.

2- التشخيص السياسي للأزمة التاريخية لأوروبا في بداية الحرب العالمية الثانية.

لم يكن بنيامين يرى أنّ الثقافة تهددها البربرية بقدر ما هي متورطة فيها، حيث أنّها تكمن في مفهوم الثقافة ذاته كمفهوم صندوق القيم الذي لا يعتبر، وفي الواقع مستقلاً عن عملية الإنتاج التي نشأت فيها هذه القيم ولكن عن تلك التي تعيش فيها، وبهذه الطريقة يخدمون تأليه الأخير بربريًا كما قد يكون.

كان مفهوم الثقافة كقيم للتراث بالنسبة لبنيامين فتشية أي تبدو الثقافة موحَّدة، وفقط فهم الأهمية الحاسمة للاستقبال بحيث يمكننا من تصحيح عملية إعادة التجسيد التي تحدث في عمل فني، ولكن بالنسبة لبنيامين لم يكن استقبال العمل -أو ما أسماه الحياة الآخرة (Nachleben) للعمل- وذلك لمجرد شيء حدث للعمل خارجيًا، فلقد كان من العناصر المكونة للعمل نفسه مثل الحياة السابقة (Vorleben) أو ظروف الإنتاج، والتي أصبحت نفسها غير مرئية من خلال فكرة الثقافة كقيمة وهي نفسها، ومنخرطة في عملية تغيير مستمرة مثل العمل نفسه يتغير.

من شأن التاريخ الثقافي المادي أن يعيد إلى تجربة الأعمال الإحساس بكل من هاتين المجموعتين المتغيرين من الظروف (قبل وبعد)، والصراعات بينهما في ارتباط أصلي لكل حاضر لأنّ هو الحاضر الذي يستقطب الحدث في التاريخ السابق واللاحق، وهنا في إعادة التفكير الأنطولوجي للاستقبال تكمن الأهمية الفلسفية لاهتمام بنيامين بتقنيات التكاثر، ومن خلال مفاهيم الحياة الآخرة أسس بنيامين إشكالية جديدة للدراسة الثقافية.

كان بنيامين مهتمًا بالثقافة ليس كمجال مستقل للقيم (القيم المستقلة للإنجازات الجمالية والعلمية والأخلاقية وحتى الإنجازات الدينية)، ولكن على العكس من ذلك مثل عالم الاجتماع جورج سيميل الذي كانت فلسفته المالية هي المدن، وفي هذا الصدد باعتبارها عناصر في تطور الطبيعة البشرية، كما أنّه تقع الدراسة الثقافية في مجال الفلسفة المادية للتاريخ، ووفلسفة التاريخ تصر على مفهوم التاريخ ككل، فإنّه هنا مما يواجهنا الهيكل المسيحاني لمفهوم بنيامين للتاريخ باعتباره أمرًا لا مفر منه.

على الرغم من أنّه ليس بالضرورة لاهوتيًا نظرًا لأنّه انتقال بنية مفاهيمية من سياق فلسفي إلى آخر هو موضوع النقاش (طريقة السريالية المفضلة لبنيامين في إزالة السياق  وعدم التآلف)، وليس معناها في سياقها اللاهوتي الأصلي كما، ففي بحثه عن مفهوم غير هيغلي وغير تنموي للتاريخ ككل، وفي (حول مفهوم التاريخ) برز بنيامين الآن بشكل شبه مسياني بدلاً من ذلك على أنّه (نموذج) للوقت المسياني و(لقطة) من خلال شظايا الزمن المسياني.

في سياق تشخيص الأزمة الأوروبية للأعوام من 1939 إلى عام 1940 كأزمة تاريخية عالمية جاءت الحالة الحرجة للحاضر في هذا النص لتكتسب فحوى لاهوتية – سياسية، حيث تُقارن فرصة ثورية في النضال من أجل الماضي المضطهد بعلامة توقيف مسياني على الحدوث، وكان بنيامين مدركًا أنّ هذا الخطاب سيؤدي إلى سوء الفهم، ولكن الجمع بين الإلحاح السياسي والعزلة أجبره على توسيع مفهومه للتاريخ إلى ما وراء حالة بحثه الفلسفي تجريبيًا إلى بيان نهائي واضح.

يبدو الأمر كما لو أنّ بنيامين كان يأمل في التغلب على انحراف الفعل داخل فلسفته التأويلية التي لا تزال أساسًا (Osborne 1995) من خلال قوة اللغة وحدها، ومن الناحية الرسمية يجب قراءة (حول مفهوم التاريخ) كسلسلة من الأجزاء بالمعنى الرومانسي المبكر، فعلى هذا النحو فإنّه لا يزال سلبيًا بشكل قاطع -وبالتالي جزئيًا بشكل مهم- في استحضاره للكل التاريخي الذي يُعترف بأنّه غير قابل للتمثيل.

في هذا الصدد يشير النص النهائي لبنيامين إلى أقدم منشوراته الرئيسية أطروحة عام 1919 (مفهوم النقد الفني في الرومانسية الألمانية): كبادرة تجاه فلسفة التاريخ اللازمة لإكمال نسخة معدلة ومحدثة من المشروع الرومانسي المبكر.

المصدر: Benjamin, A. and Osborne, P. (eds.), 1994/2000, Walter Benjamin’s Philosophy: Destruction and Experience, London & New York: Routledge/Manchester: Clinamen Press.Brodersen, M., 1996, Walter Benjamin: A Biography, London & New York: Verso.Eiland, H. and Jennings, M. W., Walter Benjamin: A Critical Life, Cambridge, MA. & London: Harvard University Press, 2014.Walter Benjamin


شارك المقالة: