فلسفة بوبر في ما هو الإنسان؟

اقرأ في هذا المقال


احتل الفيلسوف مارتن بوبر مكانة بارزة في الحياة الفكريةالألمانية في السنوات الأولى من القرن العشرين، وعندما كان لا يزال في أوائل العشرينات من عمره، وانتشرت شهرته ونفوذه في جميع أنحاء أوروبا الغربية وفلسطين، ففي محاضرات بوبر حول الأنثروبولوجيا الفلسفية كمشكلة الكائن البشري، وهي مورد حاسم لفهم العلاقة بين فلسفة الحوار عند بوبر وكتاباته عن اليهودية، فقد أظهر أنّ نقد بوبر للجماعية والفردية في النظرية الاجتماعية والسياسية وفلسفة الثقافة هو جزء من مشروعه الأوسع للجدل بأنّ الفكر الغربي ولا سيما الفلسفة الألمانية قد تجاهل التعاليم الروحية لليهودية على حسابه.

المسافة والعلاقة:

يناقش مارتن بوبر في أنا وأنت (I and Thou) الأساس المسبق للعلاقة مقدمًا لقاء أنا أنت باعتباره اللقاء الأكثر بدائية سواء في حياة البشر كما هو الحال عندما يتعامل الرضيع مع أمه، وفي حياة ثقافة كما يبدو في العلاقات في الثقافات البدائية.

ومع ذلك في مقال عام 1951 بعنوان المسافة والعلاقة والذي كتب في خضم الصراعات الفلسطينية يوضح أنّه في حين أنّ هذا قد يكون صحيحًا من منظور أنثروبولوجي، فمن منظور وجودي يجب القول أنّ المسافة (Urdistanz) هي الشرط المسبق لظهور العلاقة (Beziehung) سواء أنا وأنت (I-Thou) أو أنا وهو (I-It)، تُنشئ المسافة الأولية إمكانية هذين الزوجين الأساسيين من الكلمات ويخرج بينهما (Zwischen)، فيجد البشر أنفسهم بعيدين عن بعضهم البعض ومتميزين، وإنّه خيارنا بعد ذلك لتقليل المسافة أو تكثيفها عن طريق الدخول في علاقة أنا-أنت مع الآخر أو الانسحاب إلى نمط الوجود أنا وهو.

يجادل بوبر بأنّ الإنسان وحده هو المسافة حقًا ومن ثم فإنّ الإنسان وحده هو الذي يمتلك العالم، فالإنسان هو الكائن الذي من خلال وجوده يصبح ما هو معترفًا به لنفسه، وتستجيب الحيوانات للآخر فقط باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من تجربتها الخاصة ولكن حتى عند مواجهة عدو يكون الإنسان قادرًا على رؤية عدوه ككائن له نفس المشاعر والدوافع، حتى لو كانت هذه غير معروفة فنحن قادرون على إدراك أنّ هذه الصفات المجهولة للآخر حقيقية بينما تخيلاتنا عن الآخر ليست كذلك، وبالتالي فإنّ تحديد المسافة ليس نتيجة لموقف هو التأملي بل هو الشرط المسبق لجميع المواجهات البشرية مع العالم بما في ذلك التفكير.

يجادل بوبر بأنّ كل مرحلة من مراحل الروح مهما كانت بدائية ترغب في تكوين نفسها والتعبير عنها، ويفترض النموذج التواصل مع المحاور الذي سيتعرف على النموذج الذي صنعه المرء ويشاركه، وتتوافق المسافة والعلاقة بشكل متبادل لأنّه لكي يتم استيعاب العالم ككل من قبل شخص يجب أن يكون بعيدًا ومستقلًا عنه ومع ذلك يشمله أيضًا وموقفه وتصوره وعلاقته به، وبالتالي لا يمكن للمرء أن يكون له حقًا عالم ما لم يتلق تأكيدًا لهويته الجوهرية والمستقلة في علاقات المرء مع الآخرين.

تفترض العلاقة مسافة ولكن يمكن أن تحدث المسافة بدون علاقة حقيقية، فيوضح بوبر أنّ المسافة هي الوضع الشامل لوجودنا، حيث العلاقة هي أن تصبح شخصية في الموقف، وتفترض العلاقة وجودًا آخر حقيقيًا والإنسان وحده يرى الآخر على أنّه الآخر، وهذا الآخر يقاوم ويؤكد الذات وبالتالي يلبي غريزة العلاقة البدائية لدينا، ومثلما لدينا غريزة لتسمية وتمييز وجعل عالمًا مستقلاً ودائمًا لدينا أيضًا غريزة الارتباط بما جعلناه مستقلاً، فالإنسان فقط هو من يرتبط حقًا وعندما نبتعد عن العلاقة نتخلى عن وضعنا الإنساني على وجه التحديد.

خير و شر:

يجيب مارتن بوبر عام 1952 عن السؤال (ما هو الإنسان؟) في كتابه الخير والشر: تفسيران (Good and Evil: Two Interpretations) بطريقة مختلفة قليلاً عن المقالات في بين الإنسان والإنسان ومعرفة الإنسان، وبدلاً من التركيز على العلاقة يؤكد الخير والشر: تفسيران على خبرة الإنسان في الاحتمال والنضال من أجل تحقيقه.

بتأطير نقاشه حول تحليل المزامير والأساطير الزرادشتية والتوراتية يفسر بوبر لغة الخطيئة والدينونة والتكفير بمصطلحات وجودية بحتة تتأثر باليهودية الحسيدية، وتحليل كانط للنزوة أو تعسف (Willkür) والإرادة المركزة (Wille) ومناقشة كيركيغارد للقلق.

يجادل بوبر بأنّ الخير والشر ليسا قطبين من نفس السلسلة المتواصلة بل هما اتجاهان (Richtung) وغياب الاتجاه أو الدوامة (Wirbel)، فالشر هو دوامة الاحتمالية الفوضوية عديمة الشكل، وفي حياة الإنسان يُنظر إليه على أنّه احتمال لا نهاية له يسحب في جميع الاتجاهات، والخير هو الذي يشكل ويحدد هذا الاحتمال ويقصره في اتجاه معين، ونظهر الخير إلى الحد الذي نصبح فيه كائنًا فريدًا ذو اتجاه واحد.

يوضح بوبر أنّ الخيال هو مصدر كل من الخير والشر، (الدافع الشرير) في الخيال يولد احتمالات لا نهاية لها، وهذا أمر أساسي وضروري ويصبح شرًا فقط عندما ينفصل تمامًا عن الاتجاه، ولا تتمثل مهمة الإنسان في القضاء على دافع الشر ولكن لم شمله بالخير ويصبح كائنًا كاملًا.

فالمرحلة الأولى من الشر هي الخطيئة عَرَضِيَّةُ اللامبالاة، ويمكن أن تكون الاحتمالية اللانهائية ساحقة مما يؤدي بالإنسان إلى فهم أي شيء وتشتيت انتباهه وانشغاله، حتى لا يضطر إلى اتخاذ خيار حقيقي وملتزم، أما المرحلة الثانية من الشر هي الشر عندما يتم تبني النزوة كبديل مشوه للإرادة الحقيقية وتصبح مميزة، وإذا كانت النزوة العرضية خطيئة والنزوة التي يتم تبنيها هي شر فإنّ القوة الإبداعية جنبًا إلى جنب مع الإرادة هي الكمال.

(الدافع الجيد) في الخيال يحد من الإمكانية بقول لا لتعدد الاحتمالات وتوجيه العاطفة من أجل تحقيق الإمكانات بشكل حاسم، وبفعلها ذلك تعوض الشر عن طريق تحويله من احتمال قلق إلى إبداع، وبسبب إغراء الاحتمال فإنّ المرء ليس كاملاً أو صالحًا إلى الأبد بل إنّه إنجاز يجب تحقيقه باستمرار.

يفسر بوبر الادعاء القائل بأنّ الخير في النهاية يكافأ وأنّ السيئ يُعاقب على أنّه تجربة السيئ في التفتت وعدم الجوهر وعدم الوجود، ويجادل بوبر بأنّ الشر لا يمكن أن يحدث مع الكائن كله ولكن فقط من خلال التناقض الداخلي يقول بوبر أنّ الكذب أو الروح المنقسمة هي الشر المحدد الذي أدخله الإنسان إلى الطبيعة، وهنا تشير الكذبة إلى الذات التي تتهرب من نفسها كما يتجلى ليس فقط في الفجوة بين الإرادة والعمل، ولكن بشكل أساسي بين الإرادة والإرادة.

وبالمثل فإنّ الحقيقة لا تُملك بل تُعاش في الشخص الذي يؤكد ذاته عن طريق اختيار الاتجاه، ويجادل بوبر بأنّ هذه العملية تسترشد بالحاضر المزروع في كل واحد منا من المفترض أن نصبح.

المصدر: Martin Buber (1878—1965)Martin BuberBraiterman, Zachary, 2007, The Shape of Revelation: Aesthetics and Modern Jewish Thought, Stanford: Stanford University Press.Brody, Samuel H., 2018, Martin Buber’s Theopolitics, Bloomington: Indiana University Press.Friedman, Maurice, 1981, Martin Buber’s Life and Work: The Early Years, 1878–1923, New York: Dutton.


شارك المقالة: