كامو فيلسوف الحاضر

اقرأ في هذا المقال


ولد الفيلسوف ألبير كامو لعائلة فقيرة في الجزائر الفرنسية وعلى الرغم من حرمانه من طفولته حصل على منحة دراسية في مدرسة ثانوية مرموقة في الجزائر العاصمة، وواصل دراسة الفلسفة في جامعة الجزائر، وبدأ حياته المهنية في الكتابة كصحفي في صحيفة الجزائر الجمهورية.

كامو فيلسوف العبثية:

كان ألبير كامو فيلسوفًا وروائيًا فرنسيًا تبحث أعماله في الاغتراب المتأصل في الحياة الحديثة والذي اشتهر بمفهومه الفلسفي عن العبث، استكشف هذه الأفكار في رواياته الشهيرة الغريب والشاطئ والسقوط، بالإضافة إلى مقالاته الفلسفية أسطورة سيزيف والمتمرد.

يمكن أن تتجسد فلسفته في العبثية في مقالته أسطورة سيزيف، حيث عرّف كامو العبث بأنّه عدم جدوى البحث عن معنى في عالم غير مفهوم خالي من الله أو معنى، وتنشأ العبثية من التوتر بين رغبتنا في النظام والمعنى والسعادة، ومن ناحية أخرى رفض الكون الطبيعي اللامبالاة توفير ذلك، وفي المقال طرح كامو السؤال الفلسفي الأساسي وهو: هل تستحق الحياة أن نعيشها؟ وهل الانتحار رد مشروع إذا لم يكن للحياة معنى؟ حيث قارن شوق الجنس البشري إلى النظام والمعنى بالبطل الأسطوري اليوناني سيزيف.

مثل سيزيف ما زلنا نسأل عن معنى الحياة وفقط لنجد إجاباتنا تقودنا نحو التراجع، كما يؤكد الفيلسوف أننا يجب أن نتبنى عبثية الوجود البشري ونتخذ هدف خلق القيمة والمعنى، فالجهود والمرونة -وليس الانتحار واليأس– هي الاستجابات المناسبة، وجادل كامو بأنّ سيزيف سعيد وأنّه يجب علينا محاكاة مرونته، والبطل اليوناني مثير للإعجاب لأنّه يقبل عبثية مهمته، وبدلاً من الاستسلام أو الانتحار ارتقى فوق مصيره باختياره المتعمد والكدح.

كما تنقل رواية الغريب هذا المفهوم عن عبثية الوجود الإنساني وتستكشف اغتراب الشاب المعروف باسم ميرسو، الذي قتل عربيًا وحُكم عليه بالإعدام لرفضه الامتثال لتوقعات المجتمع البرجوازي منه وليس القتل نفسه، وعندما لا يبكي في جنازة والدته أو يظهر أي مشاعر فإنّ هذا يضاعف ذنبه في نظر المجتمع والمحلف الذي يدينه.

يمكن العثور على مفهوم العبث هذا أيضًا في تحفته الأخرى الطاعون حيث يقوض الطاعون تطلعات الإنسان وسعادته، وتدور أحداث الرواية في مدينة وهران التي تغلب عليها الوباء القاتل وهي قصة رمزية للاحتلال الألماني لفرنسا، فالطاعون هو استعارة للفاشية والنظام الشمولي النازية، كما يفحص كامو ردود الفعل البشرية على الشر العشوائي والتضامن البشري في مواجهة كون غير مبال.

كامو فيلسوف السياسة:

تجد فلسفته السياسية تعبيرها في كتاب كامو المتمرد، والذي يدرس فكرة التمرد في مقابل مفهوم الثورة، وردًا على المناخ السياسي في ذلك الوقت في أوروبا قام كامو بانتقاد الشيوعية واستنكر فكرة الثورة بسبب ميلها إلى التحول إلى الشمولية والانهيار إلى الإرهاب مثل النازية والستالينية، وبصفته من دعاة السلام دعا إلى ثورة إنسانية وأخلاقية واجتماعية لتحقيق العدالة.

كان كامو متعاطفًا مع العرب في الجزائر وكتب العديد من المقالات لانتقاد الظلم المتأصل في الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي طوال حياته المهنية، وعلى الرغم من أنّه حافظ على موقف محايد خلال الثورة الجزائرية خوفًا من تأجيج المشاعر الحزبية، وقد كان أيضًا ضد عقوبة الإعدام وكان أحد القلائل الذين تحدثوا ضد إسقاط الولايات المتحدة القنبلة الذرية على هيروشيما في عام 1945.

في كتاب كامو المتمرد (The Rebel) وهو مقال معقد ومترامي الأطراف في الفلسفة، وتاريخ الأفكار والحركات الأدبية والفلسفة السياسية وحتى الجماليات، حيث يوسع كامو الأفكار التي أكدها في عمله الفلسفي الأعراس (Nuptials) وطورها في أسطورة سيزيف (The Myth of Sisyphus)، وهي حالة الإنسان محبطة بطبيعتها، ولكننا نخون أنفسنا ونلتمس الكارثة بالبحث عن حلول دينية لقيودها.

كامو فيلسوف الأخلاق:

يواجه المتمرد بعناد عالمًا محكومًا عليه بالموت والغموض الذي لا يمكن اختراقه لحالة الإنسان بمطلبه للحياة والوضوح المطلق، كما إنّه يبحث دون أن يعرف عن فلسفة أخلاقية أو دين، وبدائلنا هي قبول حقيقة أننا نعيش في عالم غير مؤمن، أو أن نصبح ثوريين مثل المؤمن الديني الملتزم بالانتصار المجرد للعدالة في المستقبل ويرفض أن يعيش في الحاضر.

بعد أن انتقد البعد الديني في كتابه الأعراس كما يستكشف كامو بوعي ذاتي نقاط البداية والمشاريع ونقاط الضعف والأوهام والإغراءات السياسية لكون ما بعد الديني، ويصف كيف فقد الدين التقليدي قوته، وكيف نشأت الأجيال الشابة وسط الفراغ المتزايد والشعور بأنّ كل شيء ممكن، كما يدعي أنّ العلمانية الحديثة تتعثر في حالة ذهنية عدمية لأنّها لا تحرر نفسها من الدين، فيوضح أنّه عندئذ يجب تأسيس المملكة الوحيدة التي تعارض ملكوت النعمة -أي مملكة العدل- ويجب لم شمل المجتمع البشري بين حطام مدينة الساقطة.

كما إنّ قتل الله وبناء كنيسة هما الهدف الدائم والمتناقض للتمرد، وحاجتنا الحديثة لإنشاء ممالك وبحثنا المستمر عن الخلاص هو طريق الكارثة، وهذا هو طريق الثائر الميتافيزيقي الذي لا يرى أنّ العصيان البشري بأشكاله السامية والمأساوية هو فقط، ولا يمكن إلّا أن يكون احتجاجًا مطولًا على الموت.

فلسفة كامو في الحداثة:

على الرغم من أنّه أكثر من ذلك بكثير يمكن اعتبار عمل كامو مقدمة لما بعد الحداثة، لم يتبنَّ ما بعد الحداثيين كامو على الإطلاق كسابقهم، ولا شك بسبب اهتمامه الميتافيزيقي المركزي بالسخافة والتمرد، وميله إلى الأحكام الشاملة والتحليلات الاختزالية، والتي تميز عمله الفلسفي المتمرد (The Rebel) عن الكتب الأقل طموحًا والأكثر وصفية مثل جدلية التنوير لأدورنو (Adorno) وهوركهايمر (Horkheimer).

ولكن من نواحٍ عديدة كان كتاب المتمرد (The Rebel) نموذجًا لـ (علم الأنساب) حيث يصف ظهور التناقضات الجوهرية للروح الحديثة، ورؤية كامو للثورة التي تحد من ذاتها هي التعبير المتبصر لسياسات ما بعد الماركسية واليسارية ما بعد الحداثة.

كما يصفها الكاتب رونالد سريجلي (Ronald Srigley) فإنّ مشروع كامو هو مشروع فلسفي معقد وعميق، وهو مشروع مهمل وسوء فهمه، فلا يسعى فقط إلى نقد الحداثة ولكن العودة إلى العالم القديم لوضع الأساس لطرق بديلة للتفكير والعيش، وهكذا في القرن الحادي والعشرين يظل كامو مناسبًا لأنّه نظر بارتياب إلى الحضارة الغربية منذ العصور الكلاسيكية وفي التقدم وفي العالم الحديث.

في قلب تحليلاته يكمن استكشافه المتناقض لما يعنيه العيش في عالم لا إله، ولكن كبح أنفسنا عن هذا الجهد هو الشعور بالحرمان من العدالة والنظام والوحدة، كما يدرك كامو أنّ الأمل والدافع الثوري هما اتجاهان أساسيان للروح الغربية ما بعد الكلاسيكية، وينبعان من عالم الثقافة والفكر والشعور.

التفوق الأخلاقي لدى فلسفة كامو:

يؤدي هذا إلى أحد الجوانب الأكثر إثارة وإرباكًا في فكر كامو من حيث تصميمه على انتقاد المواقف التي يرى أنّها طبيعية وحتمية، وأيضًا إمكانية الانتحار تطارد البشر وكذلك حقيقة أننا نسعى إلى أمر مستحيل ودوام غير قابل للتحقيق، ولم يهاجم كامو أبدًا الكتاب الوجوديين بشكل مباشر ولكنه اقتصر إلى حد كبير على وصف عدم قدرتهم على البقاء متسقة مع رؤيتهم الأولية.

وبالمثل فهو واضح في كتاب المتمرد (The Rebel) أنّ الحاجة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى إرهاب الشيوعية وجولاج (Gulag) -وهو نظام الحفاظ على المعسكرات العمل في الاتحاد السوفياتي والذي كان في وقته الكثير من الناس يموتون- عالمية، من حيث يصفها وعواقبها حتى نتمكن من مقاومتها بشكل أفضل في أنفسنا وكذلك في الآخرين.

بغض النظر عن معاداته الانعكاسية للشيوعية فإنّ التعاطف الضمني يوحد كامو مع أولئك الثوريين الذين يعارضهم، وذلك لأنّه يعترف بحرية أنّه هو وهم يتشاركون في نفس نقاط البداية والتوقعات والضغوط والإغراءات والمزالق، وعلى الرغم من أنّه لجأ في كثير من الأحيان إلى نبرة التفوق الأخلاقي في الجدل السياسي، إلّا أنّ كامو يوضح من خلال شكوكه أنّ أولئك الذين يختلف معهم ليسوا أقل ولا أكثر من مخلوقات رفقاء تستسلم لنفس الدافع الأساسي للهروب من العبثية التي نتشاركها جميعًا.

هذا الشعور بالتعقيد الأخلاقي هو الأكثر بلاغة في روايته القصيرة السقوط (The Fall)، والتي تم تعريف شخصيتها الفردية كلامانس بشكل مختلف على أنّها كل رجل وشخصية لكامو وشخصية سارتر، ومن الواضح أنّ كلامانس شرير مذنب بالوقوف متفرجًا بينما تنتحر امرأة شابة، ويسعى كامو فيه إلى وصف جيله وتوجيه الاتهام إليه بما في ذلك أعداءه ونفسه.

حياة كلامانس مليئة بالأعمال الصالحة ولكنه منافق ويعرف ذلك، حيث تمتلئ مونولوجه بتبرير الذات وكذلك اعتراف شخص مزقته ذنبه ولكنه غير قادر على الاعتراف به بشكل كامل، وبينما كان جالسًا في حانة في أمستردام نزل إلى جحيمه الشخصي داعيًا القارئ لاتباعه، وفي سرد ​​قصة كلامانس كان كامو يسعى بوضوح إلى التعاطف وكذلك الوصف والفهم والإدانة، فكلامانس وحش ولكن كلامانس مجرد إنسان آخر.

حصل كامو على جائزة نوبل في الأدب عام 1957 بعد نشر كتاب السقوط، فكما تُظهر القصة وهي تحفة أدبية قدرة فريدة في صميم كتاباته الفلسفية، والحياة ليست شيئًا واحدًا بسيطًا ولكنها سلسلة من التوترات والمعضلات، كما إنّ أكثر سمات الحياة التي تبدو واضحة ومباشرة هي في الواقع غامضة بل ومتناقضة، والتي ينصح كامو بأن نتجنب محاولة حلها.

نحن بحاجة إلى مواجهة حقيقة أنّه لا يمكننا مطلقًا تطهير أنفسنا بنجاح من الدوافع التي تهدد بإحداث فوضى في حياتنا، كما إنّ فلسفة كامو إذا كانت تحتوي على رسالة واحدة فهي أننا يجب أن نتعلم كيف نتسامح، بل ونتقبل بالفعل الإحباط والتناقض الذي لا يستطيع البشر الهروب منه.

المصدر: Albert CamusAlbert Camus (1913—1960)Bloom, Harold, ed. Albert Camus. New York: Chelsea House, 1989.Brée, Germaine. Camus. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 1961.Brée, Germaine, ed. Camus: A Collection of Critical Essays. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall, 1962.Cruickshank, John. Albert Camus and the Literature of Revolt. London: Oxford University Press, 1959.


شارك المقالة: