معاداة الأفلاطونية الرياضية في فلسفة الرياضيات

اقرأ في هذا المقال


كثير من الفلاسفة لا يستطيعون إقناع أنفسهم بالأشياء المجردة، ومع ذلك لا يوجد العديد من البدائل الممكنة للأفلاطونية الرياضية، ويتمثل أحد الخيارات في التأكيد على وجود أشياء مثل الأرقام والمجموعات (وأنّ النظريات الرياضية تقدم وصفًا حقيقيًا لهذه الأشياء) مع إنكار أنّ هذه الأشياء هي أشياء مجردة.

مناهضة الأفلاطونية – الواقعية والاسمية:

يمكن تسمية وجهات النظر من هذا النوع بإصدارات واقعية لمناهضة الأفلاطونية مثل الأفلاطونية، ولا يزالون نسخًا من الواقعية الرياضية لأنّهم يؤكدون أنّ النظريات الرياضية توفر أوصافًا حقيقية لجزء من العالم.

على عكس النسخ الواقعية لمناهضة الأفلاطونية، هناك أيضًا وجهة نظر مضادة للواقعية تُعرف باسم الاسمية الرياضية، ويرفض هذا الرأي الاعتقاد في وجود الأعداد والمجموعات وما إلى ذلك، كما يرفض الاعتقاد بأنّ النظريات الرياضية تقدم أوصافًا صحيحة لجزء من العالم، البديلان الرئيسيان للأفلاطونية إذن هما معاداة الأفلاطونية الواقعية والاسمية.

واقعية معاداة الأفلاطونية:

هناك نسختان مختلفتان من مناهضة الأفلاطونية الواقعية وهما علم النفس والمادية، فعلم النفس هو الرأي القائل بأنّ النظريات الرياضية تدور حول أشياء عقلية ملموسة من نوع ما، ومن وجهة النظر هذه توجد الأرقام والدوائر وما إلى ذلك، لكنها لا توجد بشكل مستقل عن الناس، وبدلاً من ذلك فهي أشياء عقلية ملموسة، وعلى وجه الخصوص الأفكار في رؤوس الناس.

مناهضة الأفلاطونية الواقعية -علم النفس:

وكما سيتضح الأفلاطونية الرياضية: مع وضد فإنّ علم النفس يعاني من مشاكل خطيرة ولم يعد يؤيده العديد من الفلاسفة، ومع ذلك فقد كان شائعًا خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكان من أبرز المؤيدين الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل وعلماء الرياضياتالهولنديون بروير Brouwer وأريند هيتينج Arend Heyting.

مناهضة الأفلاطونية الواقعية -المادية:

ومن ناحية أخرى فإنّ المادية هي وجهة النظر القائلة بأنّ الرياضيات تدور حول أشياء مادية ملموسة من نوع ما، ويتفق المدافعون عن هذا الرأي مع الأفلاطونيين على وجود أشياء مثل الأرقام والمجموعات، وعلى عكس أتباع علم النفس يتفقون أيضًا على أنّ هذه الأشياء توجد بشكل مستقل عن الأشخاص وأفكارهم.

ويختلف الفيزيائيون عن الأفلاطونيين في اعتقادهم أنّ الرياضيات تدور حول الأشياء المادية العادية، وهناك إصدارات مختلفة قليلة من هذا الرأي، على سبيل المثال قد يرى المرء أنّ الأشياء الهندسية مثل الدوائر هي مناطق من الفضاء المادي الفعلي.

وبالمثل قد يُزعم أنّ المجموعات هي أكوام من الأشياء المادية الفعلية، بالانتقال إلى الأرقام تتمثل إحدى الاستراتيجيات في اعتبارها خصائص فيزيائية من نوع ما، على سبيل المثال خصائص أكوام من الأشياء المادية بحيث على سبيل المثال قد يكون الرقم 3 خاصية كومة من ثلاث بيضات.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ العديد من الناس قد أيدوا وجهة نظر أفلاطونية للممتلكات، على وجه الخصوص اعتقد أفلاطون أنّه بالإضافة إلى كل الأشياء الحمراء التي لاحظها في العالم، توجد خاصية مستقلة للاحمرار وأنّ هذه الخاصية هي كائن مجرد، ومن ناحية أخرى اعتقد أرسطو أنّ الخصائص موجودة في العالم المادي، وهكذا في نظره يوجد الاحمرار في أشياء معينة مثل البيوت الحمراء والتفاح الأحمر وليس ككائن مجرد خارج المكان والزمان.

لذلك من أجل تحفيز وجهة نظر فيزيائية للرياضيات من خلال الادعاء بأنّ الأرقام هي خصائص، إذن يجب على المرء أيضًا أن يجادل في وجهة نظر أرسطية أو مادية للخصائص، وأحد الأشخاص الذي طور وجهة نظر من هذا النوع منذ أرسطو هو الفيلسوف الأسترالي ديفيد أرمسترونج.

هناك استراتيجية أخرى لتفسير الحديث عن الأعداد على أنّها تتعلق بالعالم المادي وهي تفسيرها على أنّها حديث عن أكوام فعلية من الأشياء المادية بدلاً من خصائص هذه الأكوام، على سبيل المثال قد يؤكد المرء أنّ الجملة “2 + 3 = 5” لا تتعلق حقًا بكيانات محددة (الأرقام 2 و 3 و 5)، وبدلاً من ذلك تقول أنّه عندما يتم دفع كومة من عنصرين معًا مع كومة من ثلاثة أشياء، تكون النتيجة كومة من خمسة أشياء، وقد تم تطوير منظر من هذا النوع بواسطة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر.

اسمية المعاداة الأفلاطونية:

الاسمية هي وجهة النظر القائلة بأنّ الأشياء الرياضية مثل الأرقام والمجموعات والدوائر غير موجودة بالفعل، ويعترف أنصار الاسمية بأنّ هناك أشياء مثل أكوام من ثلاث بيضات وأفكار للرقم 3 في رؤوس الناس، لكنهم لا يعتقدون أنّ أيًا من هذه الأشياء هو الرقم 3، وبالطبع عندما ينكر أنصار الاسمية أنّ الرقم 3 هو جسديًا أو عقليًا فهم متفقون مع الأفلاطونيين.

ويعترفون أنّه إذا كان هناك أي شيء مثل الرقم 3 فسيكون كائنًا مجردًا، لكنهم على عكس الأفلاطونيين الرياضيين لا يؤمنون بالأشياء المجردة، ولذا فهم لا يؤمنون بالأرقام، وهناك ثلاثة إصدارات مختلفة من الاسمية الرياضية وهي: إعادة صياغة الاسمية والخيالية وما يمكن أن نطلق عليه النيو مينونغية Neo-Meinongianism.

إصدار إعادة صياغة الاسمية الرياضية:

يمكن توضيح وجهة النظر المعاد صياغتها الإسمية من خلال العودة إلى الجملة “4 زوجي”، ويتفق أنصار إعادة الصياغة مع الأفلاطونيين على أنّه إذا تم تفسير هذه الجملة بالقيمة الاسمية أي القول بأنّ الكائن 4 له خاصية كونه متساويًا، فإنّه يقدم ادعاءًا مباشرًا حول كائن مجرد.

ومع ذلك لا يعتقد أنصار الاسمية المعاد صياغتها أنّ الجمل الرياضية العادية مثل “4 زوجي” يجب أن تُفسر بالقيمة الإسمية، ويعتقدون أنّ ما تقوله هذه الجمل يختلف حقًا عما يبدو أنّهم يقولون على السطح، وبشكل أكثر تحديدًا يعتقد أنصار إعادة الصياغة أنّ هذه الجمل لا تقدم ادعاءات مباشرة حول الأشياء.

إعادة الصياغة الاسمية الشرطية -الاستنتاجية:

هناك العديد من الإصدارات المختلفة لإعادة الصياغة الاسمية وأشهرها “الشرطية” أو الاستنتاجية، ووفقًا لهذا الرأي يمكن إعادة صياغة الجملة “4 زوجي” بجملة “إذا كانت هناك أشياء مثل الأرقام فإنّ 4 ستكون زوجية”، وفي هذا الرأي حتى لو لم تكن هناك أشياء مثل الأرقام فإنّ الجملة “4 زوجي” لا تزال صحيحة، لأنّه بالطبع حتى لو لم يكن هناك شيء مثل الرقم 4 فلا يزال من الصحيح أنّه إذا كان هناك شيء من هذا القبيل فسيكون كذلك.

تعود جذور الاستنتاجية إلى فكر ديفيد هيلبرت عالم الرياضيات الألماني اللامع من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولكن تم تطويرها بشكل كامل من قبل الفلاسفة الأمريكيين هيلاري بوتنام وجيفري هيلمان، تم تطوير إصدارات أخرى من إعادة الصياغة الاسمية من قبل الفلاسفة الأمريكيين هاسكل كاري وتشارلز شيهارا.

إصدار الخيال من الاسمية الرياضية:

يتفق علماء الخيال الرياضي مع إعادة صياغة الاسميين على أنّه لا توجد أشياء مثل الأشياء المجردة، وبالتالي لا توجد أشياء مثل الأرقام، وإنّهم يعتقدون أنّ إعادة صياغة الاسميين مخطئون، مع ذلك في مزاعمهم حول ما تعنيه الجمل الرياضية مثل “حتى 4″، يعتقد الخياليون أنّ الأفلاطونيين على حق في أنّ هذه الجمل يجب أن تُقرأ في ظاهرها.

كما ويعتقدون أنّ “4 زوجي” يجب أن يؤخذ على أنّه مجرد قول ما يبدو أنّه يقول أي أنّ الرقم 4 له خاصية كونه زوجي، وعلاوة على ذلك يتفق الخياليون أيضًا مع الأفلاطونيين على أنّه إذا كان هناك بالفعل شيء مثل الرقم 4 فسيكون كائنًا مجردًا.

لكن مرة أخرى لا يؤمن الروائيون بوجود شيء مثل الرقم 4 ولذلك فهم يؤكدون أنّ جمل مثل “4 زوجي” ليست صحيحة حرفيًا، ويعتقد الخياليون أنّ جمل مثل “4 متساوٍ” تشبه بطريقة معينة جمل مثل “يعيش سانتا كلوز في القطب الشمالي“، وإنّها ليست وصفًا حقيقيًا للعالم لكنها صحيحة في قصة معينة معروفة.

وهكذا وفقًا للخيالية الحساب هو شيء مثل القصة وهو يتضمن نوعًا من الخيال أو التظاهر، مما يعني أنّ هناك أشياء مثل الأرقام، بوالنظر إلى هذا التظاهر تقول النظرية ما هي الأرقام أو كيف ستكون إذا كانت موجودة، ثم يجادل الروائيون بأنّه ليس بالأمر السيئ أنّ الجمل الرياضية ليست صحيحة حرفيًا.

وليس من المفترض أن تكون الرياضيات صحيحة بالمعنى الحرفي للكلمة كما يقول الروائيون، ولديهم تفسير طويل لماذا الرياضيات مفيدة عمليًا ومثيرة للإهتمام من الناحية الفكرية على الرغم من حقيقة أنّها ليست صحيحة حرفيًا، وكان الفيلسوف الأمريكي هارتري فيلد أول من اقترح الخيال الخيالي، ثم تم تطويره بطريقة مختلفة نوعًا ما بواسطة Balaguer والفيلسوف الأمريكي Gideon Rosen والفيلسوف الكندي Stephen Yablo.

إصدار الاسمية الرياضية النيو مينونغية Neo-Meinongianism:

النسخة الأخيرة من الاسمية هي النيو مينونغية وهي المشتقة من أليكسيوس مينونغ الفيلسوف النمساوي في أواخر القرن التاسع عشر، وقد أيّد مينونج وجهة نظر كان من المفترض أن تكون مختلفة عن الأفلاطونية، لكن معظم الفلاسفة يتفقون الآن على أنّها في الواقع معادلة للأفلاطونية، على وجه الخصوص اعتقد مينونغ Meinong أنّ هناك أشياء مثل الأشياء المجردة ولكن هذه الأشياء ليس لها وجود كامل.

استجاب الفلاسفة لادعاءات مينونغ من خلال وضع زوج من النقاط ذات الصلة:

  • أولاً بما أنّ مينونج كان يعتقد أنّ هناك أشياء مثل الأرقام، وبما أنّه كان يعتقد أنّ هذه الأشياء ليست زمانية أو زمانية فإنّ ذلك يعني أنّه كان أفلاطونيًا.
  • ثانيًا استخدم مينونغ ببساطة كلمة موجود بطريقة غير قياسية، ووفقًا للغة الإنجليزية العادية فإنّ أي شيء موجود، وبالتالي فمن التناقض القول إنّ الأرقام موجودة ولكنها غير موجودة.

ويتفق دعاة المينونغية الجديدة مع الأفلاطونيين والخياليين على أنّ الجملة “4 زوجي” يجب أن تُفسر في ظاهرها على أنّها تقدم (أو تدعي تقديم) ادعاءً مباشرًا حول موضوع معين، أي الرقم 4، وعلاوة على ذلك توافق أيضًا على أنّه إذا كان هناك أي شيء مثل الرقم 4 فسيكون كائنًا مجردًا.

أخيرًا يتفقون مع الروائيين على أنّه لا توجد أشياء مثل الأشياء المجردة، على الرغم من ذلك يزعم أتباع نيو مينونجيون أنّ “4 زوجي” صحيح حرفيًا، لأنّهم يؤكدون أنّ جملة من النموذج “الكائن O له الخاصية P” ويمكن أن تكون صحيحة حرفيًا حتى لو لم يكن هناك شيء مثل الكائن O.

وهكذا تتكون النيو مينونغية من ثلاث ادعاءات:

  1. يجب قراءة الجمل الرياضية في ظاهرها على أنّها تدعي تقديم ادعاءات حول أشياء رياضية مثل الأرقام
  2. لا توجد أشياء مثل الأشياء الرياضية.
  3. ومع ذلك الجمل الرياضية لا تزال صحيحة حرفيًا.

قدم الفيلسوف النيوزيلندي ريتشارد سيلفان النيو مينونغية Neo-Meinongianism، بالشكل الموصوف هنا لأول مرة، لكن الآراء ذات الصلة تم تبنيها قبل ذلك بكثير من قبل الفلاسفة الألمان رودولف كارناب وكارل جوستاف همبل والفيلسوف البريطاني السير ألفريد، ووجهات النظر على هذا المنوال أيدها غراهام كاهن من إنجلترا وجودي عزوني من الولايات المتحدة وأوتافيو بوينو من البرازيل.

باختصار إذن هناك خمسة بدائل للأفلاطونية، فإذا كان المرء لا يريد الادعاء بأنّ الرياضيات تدور حول أشياء غير مادية أو غير ذهنية أو غير زمنية، فيجب على المرء أن يدعي إما:

  1. أنّ الرياضيات تدور حول أشياء عقلية ملموسة في رؤوس الناس (علم النفس).
  2. أو أنه يتعلق بأشياء مادية ملموسة (المادية).
  3. أو أنّ الجمل الرياضية على عكس المظاهر الأولى لا تقدم ادعاءات حول الأشياء على الإطلاق (إعادة صياغة الاسمية).
  4. أو أنّه في حين أنّ الرياضيات تدعي أنّها تدور حول أشياء مجردة، فلا توجد في الواقع مثل هذه الأشياء، وبالتالي فإنّ الرياضيات ليست صحيحة حرفيًا (الخيال).
  5. أو أنّ الجمل الرياضية تدعي أنّها تدور حول أشياء مجردة ولا توجد أشياء مثل الأشياء المجردة، ومع ذلك فإنّ هذه الجمل لا تزال صحيحة حرفيًا (النيو مينونجيانزم).

المصدر: الرياضيات بنظرة فلسفية، د.زبيدة بن ميسي، الطبعة الأولى 2017، الفا للوثائق.المنطق وتاريخه من أرسطو إلى راسل، روبير بلانشي، ترجمة محمود يعقوبي، دار الكتاب الحديث، القاهرة، 2004.ِالمنطق والرياضيات، ياسين خليل، المجمع العلمي العراقي، بغداد 1964.أصول الرياضيات، براترند راسل، ترجمة محمد مرسي أحمد وفؤاد الأهواني، ج1، ج2،ج3، ط2(د.ت). إصلاح العقل في الفلسفة العربية، د.أبو يعرب المرزوقي، الطبعة الأولى 1994.ِPhilosophy of mathematics


شارك المقالة: