آيات القرآن الكريم تدعوا إلى التفكر في مخلوقاته

اقرأ في هذا المقال


قال تعالى: ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ صدق الله العظيم. [البقرة ١٦٤].


سبب النزول:

ذكر ابن جرير في سبب نزول الآية: عن عطاء أنّه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه: ﴿وإلهكم إله واحد﴾ [البقرة: ١٦٣] فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾، وأخرج البيهقي عن أبي الضحى – معضلا-: «أنّه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا، وقالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزلت».

هذا الاستدلال إنّما هو استدلال بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، ورحم الله ذلك الأعرابي الذي قيل له : بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟

فالله أرشدنا تعالى للاستدلال بهذا الخلق الغريب، والبناء العجيب، وعرفنا طريق النظر، وفيما ننظر، فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي، فقال تعالى: (إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ) صدق الله العظيم، وخلقها وإيجادها واختراعها، أو: خلقها وتركيب أجرامها، وائتلاف أجزائها، من قولهم: خلاف فلان حسن، أي خلقته وشكله؛ ثم ثنى بالعالم السفلي فقال: (وَٱلۡأَرۡضِ)؛ ثم ثلث بما بينهما، فأرشدت الآية إلى النظر في عدّة علوم :

أحدها: علم الهيئة الذي يبحث في العلويات، من حيث تشريحها وسير شموسها وأقمارها ونجومها وحركاتها، وما يتصل بذلك ممّا هو من متعلقات هذا الفن.
وثانيها: فن المواليد الثلاثة، وفن طبقات الأرض، ففي تلك الطبقات تكون المعادن بأنواعها من الجامد والسائل والمنطوق، وغير ذلك، وهذا من المواليد.

قوله تعالى: (فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا) يُشير إلى فن النبات بأنواعه، كالزراعة وخواص النبات، وما يتولد منه من الأدوية والصباغ، والفواكة والثمرات، والحبوب المغذية وغير المغذية، والزور؛ فقد شمل فن الصيدلة إذا انضم إليه المعادن؛ وفن العطارة؛ وفنون أخرى لا تخفى على الناظر.

وثالثها: فن الحيوان بأجمعه، المُشار إليه بقوله تعالى: (وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ) فقد عرف العلماء (الدابة) في الأصل كل ما يدب على الأرض، فتشمل سائر الحيوانات.
ورابعها: علم الأحوال الجوية، المُشار إليه بقوله تعالى: (وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ) صدق الله العظيم.

فهذه الفنون، وما ينضم إليها ممّا هو تتمات لها، كالهندسة، والحساب، المتعلقين، بفن الهيئة، وما يتوصل به إلى غيرها، كلها دلائل على أنّه تعالى فقال تعالى: ﴿وَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ﴾ صدق الله العظيم، ولكن ليست الدلائل إلا ( لقوم يعقلون)، فأولئك هم الذين يطرحون التعصب جانباً، ويدأبون على إدراك الحقيقة، ثم إذا جعلوا المذكورات دلائل تدلهم على الهدى والصراط المستقيم، أوصلتهم إلى النتيجة الصحيحة، وهي: أنّ الخالق لها، هو الإله الذي ( لا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ ).

وأدرج تعالى في غضون ذلك فن الاجتماع البشري، المُعبر عنه بعلم العمران، أو سياسة المدينة، أو المدنية، وذلك في قوله تعالى: (وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ) صدق الله العظيم، فأرشد تعالى إلى أنّ هذا من جملة الدلائل الدالة على وجوده، وإفراده بالوحدانية.

فقوله تعالى: (إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ) صدق الله العظيم، أي في النظر في تركيب أجرامها، وائتلاف أجزائها، وإبداعها ذلك الإبداع الغريب، قوله تعالى: (لآيَاتٍ)، فالآية تدل على أنّه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية، وأن التقليد ليس طريقاً البتة إلى تحصيل هذا الغرض، وكم في القرآن من آيات تدل على ذلك، وتشير إليه.

فالأرض والبحار والهواء وكل ما تحت السماوات، بالإضافة إلى السماوات، كقطرة في بحر، قال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)) صدق الله العظيم، ولهذا قلَّ أن تجيء سورة في االقرآن، إلّا فيها ذكر السماوات، إمّا إخباراً عن عظمتها وسعتها، وإمّا إقساماً بها، وإمّا دعاء إلى النظر فيها، وإمّا إرشاد للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها.

فكم من قسم في القرآن بها، كقوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(١)) صدق الله العظيم، وكقوله تعالى: ﴿وَٱلسَّمَاۤءِ ذَاتِ ٱلرَّجۡعِ﴾ صدق الله العظيم [الطارق ١١]، وقوله تعالى: ﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ﴾ صدق الله العظيم،[التكوير ١٥] وهي الكواكب التي تكون خُنساً عند طلوعها، جواري في مجراها، كُنّساً عند غروبها، فأقسم في أحوالها الثلاثة، ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته، أكثر ممّا أقسم بالسماء والنجوم والشمس.

المصدر: زاد المسير — ابن الجوزيجامع البيان — ابن جرير الطبريفتح البيان — صديق حسن خانروح المعاني — الآلوسي


شارك المقالة: