أيسر محفوظاته كتاب الأغاني

اقرأ في هذا المقال


صاحب المقولة

أبو مروان عبدالملك بن زُهر بن عبدالملك بن مروان؛ المعروف بابن زُهر الإشبيليّ. طبيبٌ عربي معروف في الأندلس من أهل إشبيلية، من أسرةٍ عريقة في العِلم، اشتغلَ أبناؤها بالطِّبِّ والفقه وتَولَّوا الزراعة. وابن زُهر هو أستاذ الفيلسوف ابن رُشد. وكان لأعمالهِ أثرٌ كبير في تطوّر الطِّب في أوروبا فيما بعد.

وُلدَ أبو مروان عبدالملك بن زُهر الإشبيلي سنة 465هجرية في إشبيلية لأسةٍ عريقةٍ في العِلمِ اشتغلَ أبناؤها بالطّبّ والفقهِ، فحَفظَ العالم المُسلم ابن زُهر القرآن، وسَمعَ الحديث، واشتغلَ بعلمِ الأدبِ واللّغة العربية، ولمْ يكُن في زمانهِ أعلمَ منه في اللّغة، ولهُ موشّحات يُغنّى بها، وهي من أجودِ ما قِيلَ في معنَاهَا.

عاصرَ ابن زُهر دولتي المُرابطين والمُوحّدين في الأندلس، فكان رفيع المكانة عندهم. وعاشَ في إشبيلية إلى أن توفّي فيها في سنة 557 هجرية.

قصة المقولة

يقول ابن زُهر الإشبيلي: بَينَما أنا قاعدٌ في دِهليزِ دارِنَا، وعندي رجُلٌ ناسخٌ أمرتهُ أنْ يكتب لي” كتاب الأغاني؛ لأبي فرج الأصفهاني”، إذ جاء النّاسخ بالكَراريس التي كَتبها، فقلت له: أينَ الأصل الذي كتبتَ منهُ لأُقابلَ معك به؟ قال: ما أتيتُ به معي.

‏ ‏فبينما أنا معه في ذلك إذ دخلَ الدِّهليز علينا رجلٌ بَذُّ الهيئة، عليه ثياب غليظةٌ أكثرها من الصُّوف، وعلى رأسهِ عِمامة قدْ لاثهَا من غير إتقانٍ لها. فَحسبتهُ لمّا رأيتهُ من أهلِ البادية. فسلّم علينا وقَعد، وقال لي: يا بُنيّ؛ استأذن لي على الوزير أبي مروان. فقلتُ لهُ: هو نائمٌ، بعدَ أنْ تكلّفتُ جوابهُ غايةَ التّكلّف، حَمَلني على ذلك نزوَةَ الصِّبا، وما رأيتُ من خشونةِ هيئةِ الرّجل. ثمَّ سكَتَ عنّي ساعةً، وقال: ما هذا الذي بين أيديكُما؟ فقلتُ لهُ: ما سؤالكَ عنه؟ فقال: أُحبُّ أنْ أعرفَ اسمهُ، فإنّي أسماء الكُتب. فقلتُ لهُ: هو كتاب الأغاني؛ فقال: إلى أينَ بلغَ الكاتبُ منه؟ قلتُ: بلغَ موضعِ كذا. وجعلتُ أتحدّثُ منه على طريق السُّخريةِ به.

فقال: وما لِكاتبكَ لا يكتب؟ قلت: طلبتُ منه الأصلَ الذي يكتب منه لأعارضَ بهِ هذه الأوراق، فقال: لمْ أجيءَ بهِ معي.‏ ‏فقال لي: يا بُنيّ؛ خُذ كَراريسكَ وعارض. قلتُ: بماذا؟ وأينَ الأصل؟ فقال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مُدّة صِبايَ. فتبسّمتُ من قولهِ، فلمّا رأى تبسّمي، قال: يا بُنيّ، أمسِك عليَّ. فأمسَكتُ عليه.

وجعلَ الشّيخ يقرأ، فوالله ما أخطأ واواً ولا فاءً، قرأ هكذا نحواً من كُرّاستين، ثمَّ أخذتُ لهُ في وسطِ السِّفرِ وآخرهِ، فرأيتُ حفظهُ في ذلكَ كُلّهِ سواء. فاشتدَّ عجبي، وقمتُ مسرعاً حتى دخلتُ على أبي فأخبرتهُ بالخَبر، ووصفتُ لهُ الرجل، فقامَ كما هو من فَورهِ، وكانَ مُلتفّاً برداءٍ ليس عليه قميص، وخرج حاسِرَ الرأسِ حافيَ القَدمين، لا يُرفِقُ على نفسهِ، وأنا بين يَديهِ؛ وهو يوسعنِي لوماً، حتى ترامى على الرجلِ وعانَقهُ، وجعلَ يُقبّلُ رأسنُ ويديهِ، ويقول:يا مولاي اعذرنِي؛ فواللهِ ما أعلمني هذا الجِلف إلّا السّاعة، وجعل يسبُّني، والرجلُ يُخَفِّضُ عليه، ويقول: ما عرفَني؛ وأبي يقول: هَبْهُ ما عَرفك، فما عُذرهُ في حُسنِ الأدب؟.

‏ثمَّ أدخلهُ الدّار، وأكرمَ مجلسهُ، وخلا بهِ مُتحدّثاً فترةً طويلة. ثمَّ خرجَ الرجلُ وأبي حافياً، حتى بلغَ الباب. وأمرَ بدابّتهِ التي يركبهَا فأُسرِجَت، وحلفَ عليه لِيركَبهَا، ثمّ لا تَرطِعُ إليهِ أبداً. فلمّا انفصلَ، قلتُ لأبي: من هذا الرّجل الذي عظّمتهُ هذا التَّعظيم؟ فقال لي: ويحكَ! هذا أديب الأندلس وإمامُهَا وسيّدُها في علمِ الآداب؛ هذا ابن عبدُون، أيسر محفوظاتهِ كتاب الأغاني.


شارك المقالة: