السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ

اقرأ في هذا المقال


عِندما يَقرأ النَّاس لأبي تَمَّام القَصيدة العَصمَاء الشَّهيرَة «السَّيفُ أصدَقُ إنْبَاءً مِن الكُتُبِ»؛ يَحمِلونَها مَحمَلاً يَتَعلَّق بِتَفوّقِ السيف على المعرفة، ولكنَّها في الحقيقة، أنَّ «أبا تمام» لم يَنتصر للسَّيفِ على حساب العلوم، وإنَّمَا انتَصرَ بِشِعرهِ وفِكرهِ ومَوقِفهُ مع الحَقِّ، على تَخَرُّصَاتِ وأباطِيلِ المُنَجِّمين، حيثُ كانت لهم كُتُب خُرافَات سَمّاها بقَصيدتهِ «سُودُ الصَّحائِفِ» يُوهِمُون بها الجُهَلاء وضِعَاف النُّفُوس.

صاحِب القَول

أَبو تَمّام حَبيب بن أوس بن الحَارِث الطَّائِيّ، وُلِدَ سنة ١٨٨ هجرية وتوفي سنة ٢٣١ هجرية؛ كانَ أحَد أمُرَاء البَيَان، ولد بمدينة جاسم،( من قُرى حُوران بسورية)، ورحل إلى مصر واستَقدَمهُ الخليفة العَبّاسيّ المعتصم بالله إلى بغداد؛ كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حُلو الكلام، فيه تَمْتَمة يَسيرة، يَحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمَقاطِيع؛ كان في شِعرهِ قُوة وجَزَالة، وله تَصَانِيف عديدة منها: فُحُول الشعراء، وديوان الحَمَاسة، ومُختَار أشعار القَبائل. قَدَّمهُ المعتصم على شعراء وقته، فأقام في العراق ثمَّ وَلِيَ بريد الموصل؛ فَلَمْ يُتِمّ سنتين حتى توفي بها.

إمرأة عربيّة تَصرُخ “وامُعتَصِمَاه”

كان الخليفة العبّاسي المُعتصم بالله بن هارون الرشيد، مُنشغلاً بقَمعِ فِتنة بَابِك الخُرَّمي في بلاده؛ وبابك الخُرَّمي هذا رجلٌ آمَنَ برَفضِ تكاليف الإسلام، كما آمنَ هو ومن معهُ بالإباحيَّةِ والزِّنَا والسَّلبِ والنَّهبِ وحُلولِ الأرواحِ وتَناسُخهَا؛ فَمَكَّنَ الله هذا الخليفة بالقَضاء على هذه الفِتنة وقَتِلِ رَأسِها. وفي هذه الفَترة أغارَ الرّوم على بلدة زِبَطْرَة المسلمة وعاثوا فيها فساداً، فَقتلوا الرِّجال وسَبُوا النّساء؛ وكان من بين النّساء امرأة جَليلة شَريفة، فقام أحد جنود الرّوم بكشفِ ثِيابها وأراد التّحرُّش بها فَصاحت صَيحتها المشهورة”وامُعتصِماه”، فَلطَمهَا العِلج الرّومي على وجهِهَا، وسَخِرَ منها وقال لها: إنْ كان المعتصم قادراً على نَجدَتكِ فليأتِ على فَرسٍ أبْلَق؛ وكان في المدينة رجل عربي يرى ويسمع ما حدث، فسارَ إلى المعتصم وأبْلَغهُ بما كان.

المُعتَصم يَفتَح عَمّورية

أعدَّ المعتصم الجيوش وسار إلى عَمّورية أحْصَن مُدن الرّوم؛ وأقسمَ أنْ يَنصُرَ هذه المرأة العربية ، وأن يدخل المدينة على فرس أبلق؛ وحاصرها فترة طويلة ، ولكنَّ حُصونهَا كانت مَنيعة ، وعندما اقترب من عمّورية أخبره المُنجّمون أنه لَنْ يفتحها إلا في أوَانِ حصاد التين والعنب؛ والسَّبب في ذلك؛ حتى يخرج أهل هذه المدينة عمورية، لِجَني مَحاصيل التين والعنب في فصل الصيف والتي كانت مزروعة خارج أسوار مدينتهم، وعندما غَزَاهُم المُعتصم كان ذلك في فصل الشتاء والبردِ القارس، فلم يَأبَه المعتصم بكلامهم وأمَرَ جيوشه باقتحام مدينة عمورية أحصن مدن الروم في ذلك الوقت؛ وكان هذا الفتح في رمضان من عام 223 هـ. وكانت هذه المعركة من أهم المعارك الإسلامية – البيزنطية.

وكان الجيش العباسي الإسلامي بقيادة الخليفة المعتصم بالله، والجيش البيزنطي بقيادة توفيل بن ميخائيل سليل الأسرة العمورية .

وبعد أن فتح المعتصم عمورية؛ أحضر الرجل العربي الذي أبْلغهُ باستِغاثَةِ المرأة المسلمة، وطلب منه أنْ يأخذه إلى مكانها ، ولما وصل إليها قال لها: هل لبّى المعتصم نِدَاءَكِ، فقالت: نَعم، وأحضَر الرجل الذي لَطَمها على خَدّها وقتلهُ وعادت حرة كما كانت بفضل المعتصم، وكان نِدَاء هذه المرأة هو السّبب في فتح عمورية؛ وانتصر العرب المسلمون نصراً مؤزراً.

أبو تَمَّام يُسَجِّل هذا النّصر في شِعرِهِ

أنشَدَ أبوتَمّام حبيب بن أوس الطائي في هذه المناسبة قصيدته البائيَّة المشهُورة، والمُحتَفِيَة بالعَقلِ والتَّدبيرِ والحَزمِ والعَزمِ، ضِدّ ظَلماءِ الخُزَعبَلات، والخُرَافات، والرَّجمِ بالغَيب؛ بجانب ثَنَائها على نَجدةِ الضُّعَفاء وضَحَايا الحُروب؛ وهذه بعض أبياتِهَا:

السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ

في حَدّهِ الحَدُّ بينَ الجَدِّ واللَّعبِ

بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في

مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والرِّيَبِ

والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة ً

بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لا في السَّبْعَة ِ الشُّهُبِ

أَيْنَ الروايَة ُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا

صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ

تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقة ً

لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولاغَرَبِ

وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَةٍ

إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ

وصيَّروا الأبرجَ العُلْيا مُرتَّبة ً

مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ

يقضون بالأمر عنها وهي غافلة

ما دار في فلك منها وفي قُطُبِ

يا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّوريَّة َ انْصَرَفَتْ

منكَ المُنى حُفَّلاً معسولة َالحلبِ

أبقيْتَ جدَّ بني الإسلامِ في صعدٍ

والمُشْرِكينَ ودَارَ الشرْكِ في صَبَبِ

لبَّيْتَ صَوْتاً زِبَطْرِيّاً هَرَقْتَ لَهُ

كأسَ الكرى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ


شارك المقالة: