علموا أولادكم الأدب

اقرأ في هذا المقال


صاحب المقولة

أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي، قائد العهد الأمويّ، وُلِدَ سنة 661م، ونَشأَ في الطّائف وانتقل إلى الشام، فَلَحِق بِرَوح بن زُنباع نائب” عبدالملك بن مروان” فكان في عَديد شُرَطَتهِ، ثمَّ ما زال يَظهر حتى قَلَّدَه عبد الملك أمرَ عسكرهِ.

أمرهُ عبد الملك بقِتالِ” عبدالله بن الزبير”، فزحف إلى الحجاز بجيشٍ كبيرٍ وقتل عبد الله وفرَّق جموعه، فولاَّه عبدُ الملك مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق والثورة قائمة فيه، فانصرف إلى الكوفة في ثمانية أو تسعة رجال على النَّجائب، فقَمع الثورة وثَبَتت له الإمارة عشرين سنة. ثمّ بنى” مدينة واسط” في العراق ومات بها، وأجرِيَ على قبره الماء، فاندَرَس. وكان سَفَّاكاً سَفَّاحاً مُرْعِباً باتِّفاقِ مُعْظَمِ المُؤَرِّخِين. عُرف بـالمُبِير أي المُبِيد.

نَشأة الحَجّاج

نشأ في ظل عائلة كريمة من عائلات ثقيف، وكان والده رجلاً مُمَيَّزاً؛ إذ كان مُطَّلعاً على العلم وفضائل الآداب، حتّى أنَّه كرّس حياته لتعليم أبناء الطائف القرآن الكريم، دون تلقي أجر على عمله هذا.

حَفِظ الحَجَّاج كتاب الله على يَد والده، ثمَّ التَزمَ حلقات أئمة وكبار العلم من الصحابة والتابعين أمثال: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المُسيّب، وغيرهم، وبعد ذلك انخرط في تعليم الصبيان شأنه في ذلك مثل شأن والده.

وقد أثرَّت نشأة الحجاج في الطائف على فَصاحته، فقد اتصل بقبيلة هُذَيل التي كانت تُعدُّ أفصح العرب، وبرع في مجال الخطابة.

ولّاهُ” عبدالملك بن مروان” على الحجاز واليمن، وتمكَّن خلال عامين اثنين من نشر الأمن في هاتين المنطقتين، وأصبح الجميع يُطيعون بني أميّة، وبناءاً على هذا ولّاهُ عبد الملك على العراق.

ولاية الحجَّاج على العراق

تولّى أمرَ العراق عام 694م، وأذاع الأمن خلال عشر سنوات؛ حيث قضى على الخوارج، وعلى المُتمرّدين على دولة بني أميّة. وخطَبَ خُطبة في الناس عندما تولّى العراق، قال فيها:”

أنا ابن جَلا وطلّاع الثّنايا……… متى أضَعُ العِمامَة تعرفوني. يا أهل الكوفة إني والله لأحمِل الشّر بِحِمله وأحْذُوه بنَعلِه وأجْزِيه بمِثلِه، وإني أرى أبصارًا طامِحة وأعناقًا مُتَطاوِلة، وإني أرى رُؤوسًا قَد أينَعَت وحانَ قِطافُها وإنّي لصَاحِبُها، كأني الآن أنظُر إلى الدّماء تَتَرقرقُ بين العَمائم واللّحى، فإنّي والله يا أهل العراق ومعدن الشّقاق والنِّفاق ومفاسد الأخلاق قد فُتّشتُ عن تَجربة، فإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان -أطال الله بقاءه- نَثَرَ كنانته بين يَديه فعَجَم عيدانها، فوَجَدني أمرّها عُودًا وأصلبها مَكسرًا، فَرماكُم بي لأنّكم أوضعتُم في الفِتَن واضطَجعتُم في مناخ الضّلال وسَننتُم سُنن الغَي، وإنّي والله لألحُونَّكم لَحو العود ولأضرِبَنَّكُم ضَربَ غَرائب الإبل، وإني لا أعِدُ إلا وَفيْت ولا أهُم إلا أمضَيت إن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكُم أعْطِياتكم وأن أوجّهكُم لمُحاربة عدوكم وعَدو أمير المؤمنين، وأعطيت الله عَهدًا من تخلَّف منكم بعد أخذ عَطائه بثلاثة أيّام إلّا ضَربتُ عُنُقَه وانتَهَبتُ مالَه”. وقد خَطبَ شَبِيهةً لها في البَصرة.

قام الحَجّاج بعدَدٍ من الإصلاحات الإدارية والعمرانيّة؛ حيث قام بِبناءِ مدينة واسط، واتخاذها عاصمة له؛ وذلك لأنَّ الكوفة كانت شِيعة لآل علي، والبصرة كانت شِيعة لآل الزبير. وقَاسَ جميع مناطق العراق، وعيّن أماكنها، وسجل الأملاك (مسح أرض العراق). وأعاد حفر قنوات الماء التي طُمرت في الحروب والمعارك.

وحوّل لغة دواوين الحكومة من اللّغة الفَهلويّة( الفارسية القديمة) إلى اللغة العربية؛ وَسَكَّ العُملة باللغة العربية، ونَظَّم عمل الجيش، وجعل خدمة الوطن إجباريّة؛ وأرسل الجيوش لفتح المشرق، وفُتِحت في عهدهِ بَلْخ، وطخارستان، وفَرغَانة، وهي مناطق تقع في وسط قارة آسيا، وفي غرب الهند فتحت جيوش الحجاج منطقة السِّند، ثمَّ تمكَّنَت من الوصول إلى” كاشغر” الواقعة على حدود دولة الصين.

وفاة الحجاج

مرض الحجاج مرضاً غريباً؛ يَحكي عنه المؤرخون الثِّقَاة” كابن خلّكان”، في كتابهِ” وفيّات الأعيان”:{ حيث كان مرضهُ بالأكلَة وقعت فى بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحماً وعلَّقهُ فى خيط وسرَّحهُ فى حَلقهِ وتركه ساعة، ثمَّ أخرجهُ وقد عَلِق به دُودٌ كثير، وسُلّط عليه الزمهرير، فكانت الكَوانين( مواقد النار) تُجعل حوله مملوءة ناراً، وتُدنَى منه حتى تَحرَّق وهو لا يحُسُّ بها}.

وقال الأصمعي: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:

يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوابِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ؟ وَيْحَهُمُما عِلْمُهُمْ بكريم العَفْوِ غَفَّارِ؟

مات الحجاج في رمضان أو شوال سنة 95 هجري، ولمّا مات لم يعلم أحد بموته حتى أشرَفت جارية، بكت وقالت:« ألا إنَّ مُطعِم الطعام، ومُيتّم الأيتام، ومُرمّل النساء، ومُفلّق الهَام، وسيّد أهل الشام قد مات» ، وكان قد أوصى يزيد بن أبي مسلم أن يُدفن سِرّاً، وأنْ يُخفي موضع قبره، كي لا يتعرض للنَّبش.

ترك الحجاج وصيّته، وفيها قال:[ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة” الوليد بن عبدالملك”عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث…].

ويُروى أنّه قيل له قبل وفاته: ألا تتوب؟ فقال: إنْ كنت مُسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفَزَع. وقد ورد أيضاً أنه دعا فقال: اللَّهم اغفر لي، فإنَّ الناس يزعمون أنَّك لا تفعل.

دُفن في قَبرٍ غير معروف المَحلّة في واسط، فَتفجَّع عليه الوليد بن عبدالملك، وجاء إليه الناس من كل الأمصار يُعزّونهُ في موته، وكان يقول:” كان أبي يقول إنّ الحجّاج جِلدة ما بين عينيه، أمَّا أنا فأقول إنّه جِلدة وجهي كلّه”.

قصة المقولة

لمّا تولّى الحجّاج بن يوسف الثقفي شؤون العراق، أمر مَرؤوسهُ أن يطوف بالليل، فَمن وجده بعد العشاء ضَرب عنقه، فطاف ليلة فوجد ثلاثة صبيان فأحاط بهم وسألهم: من أنتم، حتى خالفتم أوامر الحجاج؟ فقال الأول:

أنا ابن الذي دانت الرِّقاب له

مابين مَخزُومها وهاشمها

تأتي إليه الرِّقاب صَاغرةً

يأخذُ من مَالِها ومن دَمهَا

فأمسكَ عن قَتله، وقال لعلَّهُ من أقارب الأمير.

وقال الثاني:

أنا ابن الذي لا يَنزل الدَّهر قِدرَهُ

وإنْ نزلت يوماً فَسوفَ تعودُ

ترى الناس أفواجاً إلى ضُوء ناره

فمنهم قِيام حولها وقُعودُ

فتأخَّر عن قتله وقال: لعلَّه من أشراف العرب.

وقال الثالث:

أنا ابن الذي خَاض الصُّفوفَ بعَزمهِ

وقَوّمها بالسَّيف حتى استقامت

رِكَاباهُ لا تَنفَّك رِجلاهُ عنهما

إذا الخيل في يوم الكَريهة وَلَّت

فترك قتله وقال: لعله من شجعان العرب.

فلمّا أصبحَ رفع أمرهُم إلى الحَجّاج، فأحضرهم وكشف عن حالهم، وعَرفَ بأنَّ الأول ابن حَجَّام، والثاني ابن صاحب الفُول، والثالث ابن حَائِك.

فَتعجَّب الحجَّاج من فَصاحتهم، وقال لِجُلسائهِ: علّموا أولادكم الأدب، فلولا فَصاحتهم لضربتُ أعناقهم، ثمَّ أطلقهم وأنشد:

كُن ابنَ مَن شِئت واكتَسِب أدباً

يُغنِيك مَحمودَهُ عن النَّسَبِ.

إنَّ الفتى من يقول هَا أنَذَا

ليس الفتى من يقولُ كان أبي.


شارك المقالة: