عند الصباح يحمد القوم السرى

اقرأ في هذا المقال


حَزنَ المسلمون لموتهِ أشَدّ الحزن، وكان الخليفة عُمر بن الخطاب من أشدَّهُم حُزناً، حتى أنّه مَرَّ بنِسوَةٍ من بني مخزوم يَبكِينَه، فقيل له: ألا تَنهَاهنَّ؟ فقال: «وما على نساء قريش أنْ يَبكِينَ أبا سليمان، مَا لمْ يَكُن نَقعَاً أو لَقلقَة، على مثله تبكي البواكي. يُعَدُّ أحد قادة الجيوش القلائل في التاريخ الذين لم يهزموا في معركة طوال حياتهم، فهو لم يهزم في أكثر من مائة معركة أمام قوات مُتفوّقة عدديّاً؛ من الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية وحُلفَائهم.

صاحب المَثل

خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي؛ صحابي وقائد عسكري مسلم، لقّبه الرسول بسيف الله المسلول. اشتُهِر بحسن تخطيطهِ العسكري،وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة، وفتح العراق والشام، في عهد خليفتي الرسول أبي بكر وعُمر في غضون عدة سنوات. واشتَهرَ أيضاً بانتصاراته الحاسمة في معارك اليَمامة، والفِرَاض؛ وتكتيكاته التي استخدمها في معركتي الولَجَة واليَرموك.

والده هو الوليد بن المُغيرة، سيد بني مخزوم أحد بطون قريش، كان رفيع النَّسب والمكانة؛ فقد كان يرفض أنْ تُوقد نار غير ناره لإطعام الناس خاصة في مواسم الحجّ، وسوق عكاظ، وكان أحد أغنى أغنياء مكة في عصره، حتى أنّه سُمّي “بالوحيد” و”بريحانة قريش”، لأن قريش كانت تكسو الكعبة عاماً ويكسوها الوليد وحده عاماً.

وأمّهُ هي لُبَابة الصُّغرى بنت الحارث الهلالية؛ من بني هلال بن عامر بن صَعصَعة من هَوازن، وهي تلتقي في النَّسب مع الرسول في مضر بن نزار الجَدّ السابع عشر للرسول_ صلى الله عليه وسلم_.

وكانت قبيلته بني مخزوم؛ هي البَطن الذي كان له أمر القُبّة؛ التي كانت تُضرَب ليُجمع فيها ما يُجهّز به الجيش، وكانت لها أعنَّة الخيل؛ وهي قيادة الفرسان في حروب قريش.

 وكان لبني مخزوم عظيم الأثر في قريش، فقد كانوا في ثروتهم وعُدّتهم وبأسهم من أقوى بطون قريش، وهو ما كان له أثره في اضطِلاعِهم وحدهم ببناء ربع الكعبة بين الركنين الأسود واليماني، واشتركت قريش كلها في بناء بقية الأركان. وقد كان خالد طويلاً بائن الطول، عظيم الجسم والهَامَة، يميل إلى البياض، كَثّ اللّحية، شديد الشبه بعمر بن الخطاب، حتى أنَّ ضِعَاف النَّظر كانوا يخلطون بينهما.

اعتنق خالد الدين الإسلامي بعد صُلح الحُدَيبية، وشارك في غزواتٍ مختلفة في عهد الرسول، أهمّها غزوة مؤتة وفتح مكة.

وفي عام 638م، وهو في أوجِ انتصاراته العسكرية، عَزَله الخليفة عمر بن الخطاب من قيادة الجيوش لأنّه خاف أنْ يَفتَتِن الناس به، فصار خالد بن الوليد في جيش الصحابي أبو عبيدة عامر بن الجراح وأحد مُقدَّميه، ثم انتقل إلى حِمص في الشَّام حيث عاش لأقل من أربع سنوات حتى وفاته ودفنه بها.

ورُوي أنَّ خالد قال على فراش موتهِ:” لقد شهدت مئة زحف أو زُهَاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حَتفَ أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء.

قصة المثل

يبَعث أبو بكر الصديق_ رضي الله عنه_، إلى خالد بن الوليد وهو باليَمامة: أنْ سِر إلى العراق( من أجل مُعَاونة ومُساندة جيوش المُسلمين في قتال الفُرس). وعندما وصلَهُ الكتاب استَنَاب بدلاً منه( المثنى بن حارثة الشّيباني)؛ ثمَّ أراد سُلوك المَفَازَة، وهي الصحراء التي لا ماء فيها؛ فقال له رافع بن عَميرة الطَّائي: يا خالد؛ إنّي قد سَلَكْتُها في الجاهلية، وهي خَمْسٌ للإبل الواردة، أي مَسيرة خمسة أيام للإبِلِ التي شَرِبَت وارتَوت، ولا أظنك تَقْدِر عليها إلا أن تَحْمِل من الماء. فاشترى مائة شَارِف( الإبل الكبيرة في العُمُر) فَعَطّشها، ثم سَقاها الماء حتى رَويَت ، ثمَّ كَعَمَ أفواهَها، ثم سَلَك المفازة حتى إذا مَضى يومان وخاف العطش على الناس والخيل، وخَشِي أن يَذهب ما في بُطون الإبل نَحَرَ الإبل واستخرج ما في بطونها من الماء، فَسَقَى الناس والخيل، ومَضَى؛ فلما كان في الليلة الرابعة قال رافع : انظروا هل تَرون سِدراً عِظَاماً؟ أي( أشجاراً كبيرة وكثيفة)، فإنْ رَأيتُموهَا؛ وإلا فهو الهلاك! فنظر الناس فرأوا السِّدْر فأخبروه فَكَبّر وكَبّر الناس، ثم هجموا على الماء الذي في وَاحَةِ تلك الأشجار، فقال خالد :
للهِ دَرُّ رافع أنَّى اهْتَدَى…. فَوز من قَراقِر إلى نَوى 
خَمْساً إذا سَار به الجيش بَكى…. ما سَارَها قَبْلك إنْسِيّ يُرى 
عند الصَّباح يَحْمَدُ القَوم السُّرى…. وتَنجلي عنهم عيابات الكَرى

والمعنَى في هذا المثل: أنَّ الذي يَسْرِي ليلاً يَحمَد مَسِيرَه إذا أصِبَح .
فالذي يمشي بالليل يَفرَح بمسِيرِه إذا طَلَع النهار؛ بِخلاف الذي ينام ليله، فإنه يَندم إذا طَلَع النهار. والسُّرَى هو سَيْر الليل خاصّة.

فأصبحَ قولُ خالد بن الوليد_ رضي الله عنه_:(عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى)؛ مثلاً بين العَرَب، لِمَن يُدرِك غَايته، بعد ليل طويل ومعاناة وصبر.


شارك المقالة: