كل يغني على ليلاه

اقرأ في هذا المقال


جَاءَت بَنو عَامِر بِمَجنونِهَا قَيس بن المُلَوَّح وبِفَتَاتِهَا لَيلى العَامِرِيَّة؛ وهَامَ قَيس بِلَيلَاه، فَطَغَى على كُلِّ المُحبِّين، وصَارَت لَيلى لِكَثرةِ ما شَهَرَهَا بِشِعرهِ مَثَلاً لِكُلِّ مُتَشوّق وسُترَة لِكُلِّ مَحبوب حتى قِيل:«كُلٌّ يُغنِّي عَلى لَيلاه».

ورُويَ أنَّ أبا قيس ذهب به إلى الحَجّ لكي يدعو الله أنْ يُشفيهِ مِمَّا ألمّ به من حُبِّ ليلى، وقال له: تعلّق بأستارِ الكعبة وادعُ الله أنْ يشفيكَ من حُبِّهَا، فذهب قيس وتعلق بأستار الكعبة وقال: ” اللَّهمَّ زِدنِي لِلَيلى حبَّاً وبها كلفَاً ولا تُنسِنِي ذِكرهَا أبداً “.

مَن هو قيس بن المُلَوّح؛ مجنون ليلى

قَيس بن المُلوّح بن مُزَاحِم بن ربيعة بن جُعدَة بن كَعب بن بن عامر بن صَعصَعة بن هوازن بن قيس عيلان بن مُضَر العَامِري الهَوازِنيّ. هُو أحَدُ القَيسَين الشَّاعِرين المُتَيّمَين؛ عاش في فترة خلافة مروان بن الحكم ، وابنه عبدالملك بن مروان في بدايات القرن الهجري الأول.

لَمْ يَكُن مجنوناً وإنَّما لُقِّبَ بذلك لِهيَامِهِ في حُبِّ ليلى العَامِرية؛ التي نشأ معها وعَشِقهَا فَرفضَ أهلها أنْ يُزوّجُوهَا به، فَهَامَ على وجههِ يُنشِدُ الأشعَار، ويَأنَس بالوحُوش ويَتَغنَّى بحُبِّهِ العُذريّ، فيُرَى حِينَاً في الشَّام، وحِينَاً في نَجد، وحِينَاً في الحِجَاز. وليلى هي ابنة عمّهِ مهديّ ؛ وتُكنّى بأُمِّ مالك؛ ووُلِدَت بعد مجنون بني عامر قيس بأربعةِ أعوام في بلدةٍ اسمها النُّجُوع وتقع في محافظة الأفْلَاج بمنطقة الرّياض،

قِصة حُبّ قيس وليلى

قيل في قصة حُبِّ هذا المجنون لِلَيلى العامريّة، إنّهُ مَرَّ يوماً على ناقةٍ له بامرأةٍ من قَومهِ وعليه حُلَّتَان من حُلَلِ المُلوك، وعندها نِسوة يَتَحدّثنَ، فأعجبهن، فَاستَنزَلنَهُ للمُحَادثةِ، فنزلَ وعَقرَ لهنَّ ناقَتهُ وأقام معهنَّ نهارَ ذلك اليوم، وجاءتُهُ ليلى لِتُمسك معه اللَّحم، فجعل يجزّ بالسكّين في كَفّهِ وهو شَاخِصٌ فيها وناظِرٌ إليها حتى كادَ أنْ يقطعَ كفَّهُ، فَجَذبتهَا من يدهِ ولم يَدرِ، ثم قال لها: ألا تأكلين الشّواء؟ قالت: نعم. فطرحَ من اللَّحم شيئاً على الغَضَى، وأقبل يُحادُثهَا، فقالت له: انظر إلى اللحم، هل استوى أم لا؟ فمدَّ يدهُ إلى الجَمر، وجعل يُقلّبُ بها اللّحم، فاحتَرَقَت، ولمْ يَشعُر، فلمَّا عَلِمَت ما بِدَاخلهِ صَرَفتهُ عن ذلك، ثم شَدَّت يده بهَدَبِ قِناعِهَا.

قيس بن الملوح كان يَهوَى ليلى العَامرية؛ فَعَشِقَ كُلٌّ مِنهُمَا صَاحِبهُ؛ وهُما حِينَئذٍ صَبيَّان يَرعَيان أغنَام أهلِهمَا عند جبل التُّوبَاد؛ فَلَم يَزَالا كذلك حتّى كَبُرَا، وكان قَيس كثير الذِّكر والإتيانِ باللَّيلِ إليها وأدامَ زيَارَتهَا ولا يَزالُ عِندها نَهَارهُ أجْمَع، حتى إذا أمْسَى انصَرَف، وكان يُنشِد ويقول:
سَقَى حَيّ ليلى حِينَ أمستْ وأصبَحَت
من الأرضِ مُنْهَلّ الغَمَام رَعُودُ.

قيس شاعر الغَزل العُذريّ

كان أحد شُعراء الغزل العُذريّ؛ وقد أُطلق عليه أيضاً اسم الغزل العفيف، ونشأ بسبب تأثُّر الشّعراء بتعاليم الإسلام، وقد كان يخشى الشاعر منهم أن تُذكر محبوبته بسُوء، وقد كان معظم شعراء الغزل العذري من العصر الأموي، وأغلبهم من شعراء البادية فقد كانوا بَعيدين عن تَرَفِ أهل الحَضر فكان حبهم أصدق، ومشاعرهم أكبر بحكم كثرة ترحالهم لطلب الماء والزرع.

وانتَشرَت أشعارهُ بين العرب؛ فَلَمّا عَلِمَ أهلها بِغَرامهِ وأشعارهِ مَنعُوه من زيارتها ورؤيَتهَا؛ فكاد أنْ يَهلَك من الحُزنِ والأسى والحَسرة فقال:
فلا البُعْد يُسلِّينِي ولا القُربُ نافعي
وليلي طويلٌ والسُّهَاد شديدُ
أرَاعِي نُجوم الليلِ سَهرانَ باكياً
قَرِيحَ الحَشا منّي الفُؤاد فَريدُ
ويَجتمعُ إليه قَومهُ ويَلُوموه على ما يَصنع بنفسهِ؛ ويَعرِضوا عليه أجْمَل وأحسَن فتاة في عَشيرتهِ؛ فَيأبَى إلّا ليلى ويَهذِي بها وبِذِكرِهَا؛ فَيُكثِروا عليه في المَلامَة؛ فكان يقول: إنَّ الذي بي ليس بِهَيّن؛ فَأقِلّوا من مَلامَتِكُم فَلَستُ بِسَامعٍ فيها ولا مُطِيعٌ لِقَولِ قَائل.

قَيس يُجَنُّ بِحُبِّ ليلى

ويبقى على هذا الحال، حتى اختَلطَ عَقلهُ وتركَ الطعام والشراب؛ ومَضَت أُمّهُ إلى ليلى فقالت لها: إنَّ قَيساً قَد أذهَب حُبّكِ عَقلَهُ وترك الطعام والشراب؛ فلو جِئتهِ وقتاً لَرَجوت أنْ يَثُوبَ إليه عَقلَهُ، فقالت ليلى: أمّا نهاراً فَلا لأنّني لا آمَنُ قومي على نفسي، ولَكِنْ لَيلاً، فَأتتُهُ ليلاً، فقالت له: يا قيس إنَّ أُمَّك تَزعُم أنّكَ جُنِنتَ من أجلي؛ وتَركتَ المَطعم والمَشرب، فاتَّقِ الله وأبْقِ على نفسك، فبكى وأنشد شعراً وقال:
لو تَعلمينَ إذا مَا غِبْتِ ما سَقَمِي
وكيفَ تَسهَرُ عَيني لمْ تَلُومِينِي
ولمّا منعَ أبو ليلى وعَشِيرتهُ؛ المَجنون قَيس بن المُلوَّح مِن تَزوجيهِ بها قال:
أرى أهلَ ليلى لا يُريدُونَنِي لها
بشيءٍ، ولا أهلي يُريدُونهَا لِيَا
ألا يا حَمَامَات العِراق أعِنَّني
على شَجنِي وابكِينَ مثلَ بُكَائِيَا
وكان دائماً يأتي إلى بُيوتهِم ويَهجُم عليهم، فَشَكوه إلى الوالِي فأهدَرَ دمَهُ لهم فأخبروه بذلك فَلم يَردَعهُ فأنشَد:
يقولُ لِيَ الواشُونَ إذْ يَرصُدُونَني
ومنهم عَلينا أعيُنٌ ورُصُودُ
وكان قيس يذهب إلى جبل التُّوبَاد، فَيُقِيمُ به، فإذا تَذكَّر أيام الصِّبا هو وليلى حِينَما كانا صَبِيَّين يَرعَيان غَنَماً لأهلهما، فإذا رأى جبل التوباد قال:
وأجْهَشتُ للتُّوبادِ حينَ رَأيتهُ
وهَلّلَ للرَّحمن حِينَ رَآنِي
وأذْرَيتُ دَمعَ العينِ لمَّا رَأيتُهُ
ونادى بأعلى صَوتهِ ودَعانِي
وقد كانت أيضاً ليلى تُبادِلهُ العِشق؛ وتُظهرهُ له فقالت فيه:

كِلانا مُظهرٌ للناسِ بُغضاًوكلٌّ عندَ صاحبهِ مكينُ

وكانت قد وَصَفت نفسها بأنّها أيضاً مجنونة كقيس، فقالت:

لَم يَكُنِ المَجنونُ في حالةٍإلّا وَقَد كنتُ كَما كَانَا

ثمَّ يَتقَدَّم قَيس لِعمّهِ طَالِباً يَد لَيلى بعدَ أنْ جَمعَ لها مَهرَاً كَبيراً وبَذَلَ لها خَمسينَ نَاقَة حَمراء، فَرَفضَ أهْلهَا أنْ يُزوّجُوهَا إليه، حيث كانت العادة عند العَرب تَأبَى تَزويجَ من ذَاعَ صِيتَهم بالحُّبِّ؛ وقد تَشَبَّبَ بها (أي تغزل بها في شعره)، لأن العرب قديماً كانت تَرى أنَّ تَزويجَ المُحبّ المُعلَن عن حُبّهِ بين الناس عارٌ وفضيحة

ويَتقدَّم لِلَيلى خَاطِبٌ آخر من ثقيف يُدعَى”وَرد بن محمد العُقيلي”، ويَبذُل لها عَشراً من الإبل وَرَاعِيهَا، فيقومُ والدُهَا ويُزوّجهَا لهذا الرجل رغماً عنها.

وحُكِيَ أنَّ قيس قَد ذهب إلى وَردٍ زوج ليلى في يوم شَاتٍ شَدِيد البُرودَة وكان جالساً مع كِبارِ قومه حيث أوقَدُوا النَّار للتَّدفِئة، فأنشده قيس قائلاً:

بِرَبّك هَل ضَمَمتَ إليكَ ليلىقُبَيل الصُّبحِ أو قَبَّلتَ فَاهَا
وهَل رَفّت عليكَ قُرونُ ليلىرَفِيف الأقْحُوانةِ في نَدَاهَا
كَأنَّ قُرنفلاً وسَحيقَ مِسكٍوَصوبَ الغَانِيات شَملنَ فَاها

فقال له ورد: أمَا إذْ حَلّفتنِي؛ فَنَعَم.

فقَبضَ قيس بِكِلتَا يَديهِ على النار ولَمْ يَتركهَا حتى سَقطَ مَغشيَّاً عليه.

مِن أبياتهِ في حبيبتهِ ليلى

ألستَ وعَدتَنِي ياقلبُ أنّياذا ماتُبتُ عن ليلى تتوبُ
فها أنا تائبٌ عن حُبِ ليلىفما لك كلما ذُكرت تذوبُ

ولكنْ أشهر قَصائده كانت قصيدة المُؤنِسة، وقيل سمّيت بذلك لأنه كثيراً ما كان يُردّدهَا ويَأنسُ بها وأول هذه القصيدة:

تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِياوَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا
وَيَومٍ كَظِلِّ الرُمحِ قَصَّرتُ ظِلَّهُبِلَيلى فَلَهّاني وَما كُنتُ لاهِيا
بِثَمدينَ لاحَت نارُ لَيلى وَصُحبَتيبِذاتِ الغَضى تُزجي المَطِيَّ النَواجِيا
فَقالَ بَصيرُ القَومِ أَلمَحتُ كَوكَباًبَدا في سَوادِ اللَيلِ فَرداً يَمانِيا
فَقُلتُ لَهُ بَل نارُ لَيلى تَوَقَّدَتبِعَليا تَسامى ضَوءُها فَبَدا لِيا
فَلَيتَ رِكابَ القَومِ لَم تَقطَعِ الغَضىوَلَيتَ الغَضى ماشى الرِكابَ لَيالِيا
فَيا لَيلَ كَم مِن حاجَةٍ لي مُهِمَّةٍإِذا جِئتُكُم بِاللَيلِ لَم أَدرِ ماهِيا
خَليلَيَّ إِن لا تَبكِيانِيَ أَلتَمِسخَليلاً إِذا أَنزَفتُ دَمعي بَكى لِيا
فَما أُشرِفُ الأَيفاعَ إِلّا صَبابَةًوَلا أُنشِدُ الأَشعارَ إِلّا تَداوِيا
وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَمايَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا
إِذا ما اِستَطالَ الدَهرُ يا أُمَّ مالِكٍفَشَأنُ المَنايا القاضِياتِ وَشانِيا
إِذا اِكتَحَلَت عَيني بِعَينِكِ لَم تَزَلبِخَيرٍ وَجَلَّت غَمرَةً عَن فُؤادِيا
فَأَنتِ الَّتي إِن شِئتِ أَشقَيتِ عِيشَتيوَأَنتِ الَّتي إِن شِئتِ أَنعَمتِ بالِيا
وَأَنتِ الَّتي ما مِن صَديقٍ وَلا عِداًيَرى نِضوَ ما أَبقَيتِ إِلّا رَثى لِيا
أَمَضروبَةٌ لَيلى عَلى أَن أَزورَهاوَمُتَّخَذٌ ذَنباً لَها أَن تَرانِيا
إِذا سِرتُ في الأَرضِ الفَضاءِ رَأَيتُنيأُصانِعُ رَحلي أَن يَميلَ حِيالِيا
يَميناً إِذا كانَت يَميناً وَإِن تَكُنشِمالاً يُنازِعنِ الهَوى عَن شِمالِيا
وَإِنّي لَأَستَغشي وَما بِيَ نَعسَةٌلَعَلَّ خَيالاً مِنكِ يَلقى خَيالِيا
هِيَ السِحرُ إِلّا أَنَّ لِلسِحرِ رُقيَةًوَأَنِّيَ لا أُلفي لَها الدَهرَ راقَيا
إِذا نَحنُ أَدلَجنا وَأَنتِ أَمامَناكَفا لِمَطايانا بِذِكراكِ هادِيا
ذَكَت نارُ شَوقي في فُؤادي فَأَصبَحَتلَها وَهَجٌ مُستَضرَمٌ في فُؤادِيا
أَلا أَيُّها الرَكبُ اليَمانونَ عَرَّجواعَلَينا فَقَد أَمسى هَواناً يَمانِيا
أُسائِلُكُم هَل سالَ نَعمانُ بَعدَناوَحُبَّ إِلَينا بَطنُ نَعمانَ وادِيا
أَلا يا حَمامَي بَطنِ نَعمانَ هِجتُماعَلَيَّ الهَوى لَمّا تَغَنَّيتُما لِيا
وَأَبكَيتُماني وَسطَ صَحبي وَلَم أَكُنأُبالي دُموعَ العَينِ لَو كُنتُ خالِيا

وفَاتهُ:

وظلَّ قَيس في هيَامهِ وتَفَرّدهِ لِوَحدهِ؛ وكان قومه يتركون له طعاماً في الأماكن التي يَتَنقَّل فيها. وفي يوم جاءت امرأة كانت تَصنع له طعامه إلى الطعام فَوجَدتهُ بِحالهِ، وغَدَت في ثاني يوم فَوجَدَت الطَّعام بحالهِ، فَغَدَا أهْلهُ يَطلُبونهُ ويَتَتبَّعُون أَثَرَهُ، حتى وجدوه في وادٍ كثير الحجارة وهو مَيّت بين تلك الحجارة فاحتَمَلوهُ وغَسَّلوهُ وكَفَّنوه ودفنوه. وكانت وفاتهُ سنة 68 هـ؛ ووجَدُوا بَيتَينِ من الشِّعر عند رأسهِ خَطَّهُمَا بإصبعهِ هما:

ومعنى هذا المَثَل أنَّ كُلّ صاحب هَمٍّ وقضية؛ لايَرى سِوى لَيلَاه، أي قَضيَّته واهتمامه.


شارك المقالة: