لو أن بيني وبين الناس شعرة ما أنقطعت

اقرأ في هذا المقال


معاوية بن أبي سُفيان، كِسرى العرب كما لقَّبه عُمر بن الخطاب “رضيَ الله عنه”، فقد تولّى قيادة جيش المسلمين، وفتح العديد من البلدان، ثمّ تولَّى إمارة بلاد الشام، ومن بعدها صار خليفة المسلمين، وقد كان رمزًا للقائد الناجح شديد الحِلم والعَدل والدَّهاء، فنالت” شَعرة معاوية” الكثير من الشُّهرة على مر العصور.

صاحب المقولة

معاوية بن صخر بن حرب بن أميّة بن عَبد شَمس بن عبد مناف القرشي الأموي، حيث يُعرَف باسم “معاوية بن أبي سفيان”، كنيته أبو عبد الرحمن. أوَّل خلفاء الدولة الأمويّة؛ كان والياً على الشام زمن خلافة عثمان بن عفان.

وعندما صار الخليفة علي بن أبي طالب، حاربه معاوية إلى أنْ قُتل عليّ من قِبل ابن مَلجم، ثمَّ تنازل الحسن بن عليّ عن الخلافة لمعاوية وفق عهد بينهما، وأسَّس معاوية الدولة الأموية واتَّخذَ من دمشق عاصمةً له.

أبوه: أبو سفيان، صخر بن حرب، من سادات قريش، وواحد من ذَوي الرأي والحكمة في مكة.

وأمّهُ: هند بنت عُتبة بنت ربيعة، وهي أخت الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة.

نشأته واسلامه

ولد معاوية بمكة قبل الهجرة بخمس عشرة سنة؛ وكان سِنّهُ يوم الفتح 23 سنة. وأسلم معاوية يوم فتح مكة وهو من الطُّلقَاء الذين أسلموا من مُسلمةِ الفتح.

كان من المُؤلَّفة قلوبهم؛ ثمَّ حَسُن إسلامه، وكان أحد الكُتّاب( كُتَّاب الوحي)، لرسول الله صلى الله عليه وسلم. رُويَ له عن النبي_ صلى الله عليه وسلم_، مائة حديث وثلاث وستون حديثاً، روى عنه من الصحابة ابن عباس، وابن عمر، وابن الزُّبير، وأبو الدَّرداء، وجرير البُجلي، والنعمان بن بشير، وغيرهم. ومن التابعين ابن المُسيِّب، وحُمَيد بن عبدالرحمن وغيرهما. وكان من المَوصُوفين بالدَّهاء والحِلم.

كان معاوية رجلاً طويلاً أبيضاً جميلاً مَهيباً؛ وكان عمر بن الخطاب ينظر إليه فيقول: هذا كسرى العرب. وكان حليم الخلق واسع الصدر.

أعماله

تولَّى قيادة جيش إمدادٍ لإخيه يزيد بن أبي سفيان، في خلافة أبي بكر، وأمَرهُ أبو بكر بأنْ يلحق به، فكان غازياً تحت إمرةِ أخيه، وقاتل المرتدين في معركة اليَمامة، ومن بعد ذلك أرسلهُ الخليفة أبوبكر مع أخيهِ يزيد لفتح الشام، وكان معه يوم فتح صيدا وبيروت، وهي من سواحل الشام.

ولاية الشام

تولّى معاوية بن أبي سفيان ولاية الأردن في الشام،سنة 21 هجري، في عهد عمر بن الخطاب. وبعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عُمواس، ولّاهُ عمر ولاية دمشق وما يتبع لها من البلاد، ثمَّ جمع له الخليفة عثمان بن عفّان على ولاية الشام كُلّها، فكان من ولاة أمصارها. وبعد موت عثمان سنة 35 هجري؛ خرج عن أمرِ خليفة المسلمين علي بن أبي طالب، ونادى بأخذِ الثَّأر من قَتَلةِ الخليفة عثمان بن عفان، وحرَّضَ على قتالهم. وقبل ذلك وقعت موقعة الجَمَل، حيث كانت عائشة بنت أبي بكر، زوجة النبي في جيشٍ يُقاتل خليفة المسلمين آنذاك؛ وكان في قيادة الجيش طلحة بن عُبيدالله، والزُّبير بن العوَّام، وكانوا خرجوا جميعاً لأخذ الثأر من قتلة عثمان.

وبعد موقعة الجَمَل، قاد معاوية جيشاً ضِدَّ خليفة المسلمين” علي بن أبي طالب”، وكانت موقعة صِفّين التي أنتهت بالتَّحكيم الجَبري، وبعد مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تولَّى الحَسن بن عليّ الخلافة، فثار معاوية على الحسن وحاربهُ، فما كان من الحَسن إلّا أنْ حقن دماء المسلمين، وأقام عهداً مع معاوية ينص على أنَّ الأمر يعود للمسلمين لاختيار خليفتهم بعد وفاة معاوية وهذا ما لم يحدث، وبموجب ذلك العهد تسلَّمَ معاوية الحُكم فأصبح خليفة المسلمين؛ وسُمّيَ ذلك العام بعام الجَماعة.

الفتوحات الإسلامية في عهده

بعد قيام الدولة الأموية وعاصمتها دمشق، وتولِّي معاوية بن أبي سفيان الخلافة؛ استأنفَ الفتوحات الإسلامية، حيث اتَّسَعت رُقعة بلاد المسلمين في عهدهِ إلى جهة بلاد الروم، وبلاد السِّند، وكابُل، والأهواز، وبلاد ما وراء النهر، وشمال إفريقيا، حتى وصلت إلى أكبر اتساع لدولة في تاريخ الإسلام. وقد أنشأ معاوية أول أسطول حربي في تاريخ الإسلام، وفتح به جزيرتي قبرص، وصِقلية، ومناطق وجزر في البحر الأبيض المتوسط.

واستطاع معاوية أنْ يُضَيِّق الخِنَاق على الدولة البيزنطية من حدود دولتهِ بالحملات المستمرة، والإستيلاء على جزيرتي” رُودس وأروَاد”، وقد كان لجزيرة أروَاد على الساحل الشامي في سوريا أهمية خاصة لقُربها من القسطنطينية، حيث اتَّخذ منها الأسطول الإسلامي في حصارهِ الثاني للمدينة؛ أو حرب السِّنين السَّبع من عام 54 ـ 60 هـ، قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أنَّ معاوية أعدَّ أسطولاً ضخماً، وأرسله ثانيةً لحصار القسطنطينية, وظلَّ مُرابطاً أمام أسوارها من سنة 54 هـ إلى سنة 60 هـ، وكانت هذه الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة أرواد إلى البَرِّ، لمحاصرة أسوار القسطنطينية، وقد أرهَقَ هذا الحصار البَريّ والبحري البيزنطيين؛ كما أنزلَ جيش المسلمين بالروم خسائر فادحة، وعلى الرغم من ذلك؛ لم يستطع المُسلمون فتح القسطنطينية.

وفي سياستهِ الداخلية أنشأَ عدداً من الدَّواوين المركزية، ومنها:

ديوان الرسائل؛ وديوان الخاتم، وديوان البريد، ونظام الكَتَبة. وكان معاوية بن أبي سفيان؛ أول من اتَّخذ الحَاجب في الإسلام، لكي يتجنَّب محاولات الإعتداء عليه.

ضرب الأمثال بحلم وسياسة معاوية

ويُعتبر معاوية رمزاً للدَّهاء والسياسة؛ وكانت العرب تضرب به المثل في ذلك، ولعلّ أشهرها مصطلح شعرة معاوية، وهو كناية عن حُسن السياسة، أو الدُّبلوماسية في المصطلحات الحديثة؛ ولذلك كان يقول:( لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما أنقطعت، كانوا إذا مَدُّوها أرخَيتهَا، وإذا أرخُوها مَددتُّها).

وفاته

توفّي في دمشق عن 78 سنة بعدما عهد بالأمر إلى ابنه يزيد بن معاوية؛ ودُفنَ بين باب الجَابية وباب الصَّغير في دمشق. وكانت وفاته في رجب سنة 60 هجري؛ كان خلالها والياً ل 20 عام؛ وخليفة ل 20 عام أخرى. وكان عنده شيء من شَعرِ رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_، وقُلامَة أظفاره؛ فأوصى أنْ تُجعل في فمه وعينيه وقال: افعلوا ذلك، وخلُّوا بيني وبين أرحم الراحمين.

ما هي شعرة معاوية؟

يُروى أنَّ أعرابيّاً سأل مُعاوية بن أبي سُفيان_ رضي الله عنه_ قائلًا: يا أمير المؤمنين، كيف حَكَمت الشام عشرين سنة أميراً، ثمَّ حكمت بلاد المسلمين عشرين سنة خليفة للمسلمين؟ فقال مُعاوية_ رضي الله عنه_: إنّي لا أضعُ لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سَوْطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بُدّاً رَكِبتهُ، ولو أنَّ بيني وبين الناس شعرة ما انقَطَعَت، كانوا إذا مَدُّوها أرخَيتهَا، وإذا أرخُوها مدَدْتها.

وبالتالي فإن شَعرة مُعاوية هي حَبل الودّ والتَّفاهم الذي كان يحرص معاوية_ رضي الله عنه_ دائماً على المُحافظة عليه بينه وبين مَن حوله، لكي يتمكَّن من نَيْل ولاء الجميع وحبَّهم واحترامهم. ومنذ ذلك الحين ويُطلق هذا المصطلح على الدبلوماسية والحِنكة السياسيَّة التي يتعيَّن على كل قائد التَّحلي بها أثناء قيادته.

دبلوماسية مُعاوية

ورَوى الكثيرون العديد من القصص والمواقف التي تدل على دبلوماسية مُعاوية_ رضي الله عنه_ وحِنكتهِ ودَهائه، لعلَّ أبرزها:

يُذكَر أنَّ رجُلاً كان مطلوباً للمُحاكمة، فذهب إلى أمير المسلمين مُعاوية، ولاذَ به. وبما أنها لم تكن المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الأمر، أرسل القاضي زياد بن أبيه، إلى مُعاوية بن أبي سفيان_ رضي الله عنه_ قائلًا:” أكُلَّما حاولت مُحاكمة أحد لاذَ بكَ وتعلَّق بحماك؟ اللَّهم إنَّ هذا من أمير المؤمنين إفساد لعَمَلي ومُحاربة لي”. فأجابه مُعاوية:“ يا زياد إنّه لا يجوز أنْ نَسُوس الناس بسياسة واحدة فيكون شعارنا شعار رجل واحد، ولكنْ فَلتَكُن أنت للشِّدةِ والعنف، وَلِأكُن أنا للرَّحمة والعطف، فيستريح الناس إلى جانبنا، ويَطمَئنّوا إلينا”. فسكت زياد ثمّ قال:“ ما غلبني مُعاوية إلّا في هذه”.


شارك المقالة: