لو كان كل شعري يملأ الفم، لما تقدم علي أحد

اقرأ في هذا المقال


قال عن نفسه:”ما ظَنّكم برجل لم يَقُل الشعر، حتى رَوى دواوين ستين امرأة من العرب منهنَّ الخنساء، وليلى الأُخَيليّة؛ فما ظَنُّكم بالرجال؟”

وما كادَ يبلغ الثلاثين من عُمرهِ، حتى مَلك ناصية اللغة والأدب، وأطَلَّ على العلوم الإسلامية المختلفة، من فقهٍ وحديث، ومعرفة بأحكام القرآن، وبَصُرَ بناسخه ومَنسُوخه ومُحكَمه ومُتَشابِههِ، وما أنْ تمَّ لهُ هذا القَدَر من المعرفة حتى طَمحَ ببصره إلى بغداد؛ عاصمة الخلافة، ومَحطِّ آمال الشعراء.

صاحب المقولة

أبو نُوّاس؛ وهو أبو علي الحسن بن هَانئ بن عبد الأول بن الصَّباح الحَكمي المُذحَجِيّ، من مدينة إبٍ اليَمنيّة، عربيٍّ دمشقي، وأمٍّهُ أحوَازِيّة، شاعر عبّاسيّ؛ ولد في مدينة الأحواز من بلاد عربستان؛ سنة (١٤٥ هجرية/ 762ميلاديّة)؛ وكان يُلقّب بشاعر الخَمرَة.

كان والده من جُند أمير المؤمنين مروان بن محمد الأموي، والذي ذهب إلى البصرة بالعراق مع أسرته بعد هزيمة مروان في معركة الزَّاب الأعلى، والطفل أبو نوّاس في الثانية من عمره، وقيل في السادسة، وما لبث أن مات أبوهُ، فأسلَمته أمّه إلى الكُتَّاب، ثمَّ إلى عَطّار يعمل عنده أجيراً، يَبرِي عِيدان الطِّيب.

نشأة أبو نوّاس الأدبية والشعرية

وحِينَ آلَت الخلافة إلى بني العباس، انتقل من البصرة إلى الكُوفة، ولم تذكر لنا كتب التاريخ سبب ذلك، غير أنّه التقى والبة بن الحُباب الأسديّ الكوفي؛ أحد الشعراء اللّامعين في ميدان الخَلاعَة والتَّهتّك، فَعُنيَ به وَالبة أيّ عناية، إذ عمل على تأديبهِ وتخريجهِ. وصَحِب جماعةً من الشعراء الماجنين كمُطيع بن إياس، وحمّاد بن عجرد؛ ثم انتقل إلى بادية بني أسد، فأقام فيهم سنةً كاملةً آخذاً اللّغة من منابعها الأصيلة. ثم عاد إلى البصرة وتلقّى العلم على يَد عُلَمائهَا.

وتَلَقَّفهُ شيخ من شيوخ اللغة والأدب والشعر، هو خلف الأحمر، فأخذ عنه كثيراً من علمهِ وأدبه، وكان له منه زاد ثقافي كبير حتى أنه لَمْ يَسمح له بقول الشعر، حتى يحفظ جملة صالحة من أشعار العرب ويقال: إنَّ أبا نواس كُلّما أعلن عن حفظه لِمَا كلَّفهُ به، كان خَلف يطلب إليه نسيانها، وفي هذا لون رفيع من ألوان التعليم، حتى لا يقع هذا الشاعر الناشئ في رَبقَةِ مَنْ سَبقه من الشعراء المُتَقدِّمين.

ولم يَقتَصِر طلبه العلم على الشعراء والأدب؛ بل كان يدرس الفقه والحديث والتّفسير؛ حتى قال فيه ابن المُعتَزّ في كتابه” طبقات الشعراء”: كان أبو نواس ٍ عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام والفُتيَا، بصيراً بالإختلاف، صاحب حفظٍ ونظرٍ ومعرفةٍ بطرق الحديث، يعرف مُحكَم القُرآن ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه.”

أبو نوّاس الشاعر الماجِن

وفي البصرة شُغِفَ أبو نواسٍ بجاريةٍ تدعى ’جَنان‘ وغَنَّاها بشعرٍ كثيرٍ يُعبّر عن عمق شعوره نحوها. وقد قصد أبو نواسٍ بغداد، وامتَدحَ هارون الرشيد ونال مكانةً مَرموقةً لديه، ولكنه ـ أي هارون الرشيد، كان كثيراً ما يَحبِسه عقاباً له على ما يُورِد في شعره من المَباذِل والمُجون. وقد أطال الرشيد حَبسهُ حتى عفا عنه بشفاعةٍ من البرامكة الذين كان أبو نواسٍ قد اتصل بهم ومدحهم. ولعلَّ صِلته الوثيقة بهم هي التي دفعته إلى الفرار، حين نَكَبهُم الرشيد فيما عُرف فيما بعد بنَكبةِ البرامكة.

ويُروى مِمّا كان بينه وبين هارون الرشيد، أنه دخل عليه ذات مرة فانشغل عنه الرشيد بجارية فُتن بها واسمها” خالصة”، ورآه أبو نواس يُهدي إليها عقداً، فانصرف غاضباً وكتب على باب القصر:

لقد ضاع شعري على بابكم ** كما ضاع عِقد على خالصة

وعلمت الجارية بما كتبه الشاعر، وحين أتى إليها الرشيد وجدها تبكي، وتذكرُ له ما كان، فغضب الرشيد وأرسل في طلب أبي نواس، الذي عَلِم بما ينتظره، فذهب في طريقه يُغَيّر حرفين في القصيدة لتصبح:

لقد ضاء شعري على بابكم ** كما ضاء عقد على خالصة

وهكذا راح يقول البيت للخليفة، الذي كافأه ببعض المال، وقد علم بما كان؛ لكنّه كافأه على حِكمة التَّصرف.

ذهب أبو نواسٍ إلى دمشق، ثم إلى مصر متجهاً إلى الفُسطَاط، عاصمتها يَومَذاك، واتصل بوالي الخَراج فيها الخَصِيب بن عبد الحميد؛ فأحسنَ وفَادتَه وغَمرهُ بالعطاء، فمدحه بقصائد مشهورة.

توفِّي هارون الرشيد وخلَفهُ ابنه الأمين، فعاد أبو نواسٍ إلى بغداد متصلاً به، فاتخذه الأمين نديماً له يمدحه ويُسمعه من طرائف شعره. غير أنَّ سيرة أبي نواسٍ ومُجاهَرته بِمَباذلهِ جعلتا مُنادمته الأمين تَشيع بين الناس. وفي نطاق الصراع بين ابني الرشيد، الأمين والمأمون، كان خصوم الأمين يَعِيبُون عليه اتخاذ شاعرٍ خليعٍ نديماً له، ويخطبون بذلك على المنابر، فيضطر الأمين إلى حبس شاعره. وكثيراً ما كان يشفع الفَضل بن الربيع له لدى الخليفة، فيُخرِجه من سجنهِ. وعندما توفي الأمين؛ رثاه أبو نواسٍ بقصائد تنُمُّ عن صدق عاطفته نحوه.

أسلوب أبي نوّاس

أهمّ ما يُميّز شعر أبي نواس، خَمريَّاته؛ فهو شاعر الخمر من غير مُنازِع، فالخَمر عروس شعره الحقيقية، وفيها تجلت عبقريته المُجدّدة التي رَفعته فوق السابقين واللّاحِقين، فكان من أشهر من قالوا فيها، وقد جعل لها في الأدب العربي باباً مستقلا كاملاً.

أما مدائحه فتبدو فيها الصناعة بوضوح قليلة القِيمة. ونجد في قصائد الرّثاء عنده عاطفة عميقة وحزناً مؤثراً، يجعلنا نَفتَقِر بعض ما فيها من نقائص كالتَّكلف في اللّغة والمبالغة المعهودة.

كما نجد في أشعاره الغزليّة، العاطفة والشّاعريّة الصادقة بقدر ما فيها من الإباحيّة والتَّبذُّل. وكان أبو نواس نفسه واقعاً تحت تأثير قوة اللفظ التي ما استطاع امتلاكها. فبعد أن أُخذ عليه “الترقّق” في ألفاظه، دافع عن نفسه بطريقة غير مسبوقة بقوله: “لو كان كلّ شعري يملأ الفَم، لما تقدّم عليّ أحدٌ”. والقصد من امتلاء الفم بالشعر هو قوة اللفظ المنطوق والمفخّم.

توبته في نهاية حياته

في نهاية حياته تاب أبو نوّاس عن ملذّاتهِ ولَهوهِ وشعرهِ الماجن؛ وقد رآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي بأبيات قُلتهَا، وهي تحت وسادتي فجاؤوا فوجدوها بِرُقعة في خَطّه، يقول فيها:

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً ** فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ ** فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا ** فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا ** وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

أشعارهِ في الخمر

ومن أشعاره التي يتحدّث بها عن الخَمر:

ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ،

ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ

فما العيْشُ إلاّ سكرَة ٌ بعد سكرة ٍ،

فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الدهرُ

وما الغَبْنُ إلاّ أن ترَانيَ صاحِيا

و ما الغُنْمُ إلا أن يُتَعْتعني السكْرُ

فَبُحْ باسْمِ من تهوى ، ودعني من الكنى

فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْر

ولا خيرَ في فتكٍ بدونِ مجانة ؛

ولا في مجونٍ ليس يتبعُه كفرُ

بكلّ أخي فتكٍ كأنّ جبينَه

هِلالٌ، وقد حَفّتْ به الأنجمُ الزُّهرُ

و خَمّارَة ٍ نَبّهْتُها بعد هجْعَة ٍ ،

و قد غابت الجوزاءُ ، وارتفعَ النّسرُ

فقالت: من الطُّرّاق ؟ قلنا : عصابة

خفافُ الأداوَى يُبْتَغَى لهُم خمرُ

ولا بدّ أن يزنوا، فقالت: أو الفِدا

بأبْلَجَ كالدّينَارِ في طرفهِ فَتْرُ

فقلنا لها: هاتِيهِ، ما إن لمِثْلِنا

فديناك بالأهْلينَ عن مثل ذا صَبرُ

فجاءَتْ بهِ كالبَدْرِ ليلَة َ تمّهِ ،

تخالُ به سحراً، وليس به سحْرُ

فقُمنا إليه واحداً بعدَ واحِدٍ،

فكان بهِ من صَومِ غُربتنا الفِطرُ

فبِتنا يرانا الله شَرَّ عِصابة ٍ،

نُجَرّرُ أذْيالَ الفُسوقِ ولا فَخْرُ

وفاته

لم يلبث أبو نواسٍ أن توفي في عام (١٩٩ هجرية/ 813 ميلادية)، قبل أن يدخل المأمون بغداد، وقد اختُلِف في مكان وفاته، أهي في السجن أم في دار إسماعيل بن نوبخت. وقد أختلف كذلك في سبب وفاته وقيل إن إسماعيل هذا قد سَمّمهُ تخلُّصَاً من سَلاطةِ لسانهِ.


شارك المقالة: