لولا أن هذا الأعمى سبقك لقلت أنك أشعر الجن والإنس

اقرأ في هذا المقال


كانَ رسُول الله يَستَنْشِدهَا ويُعجَبُ كثيراً بأشعَارِها؛ إذ كانت تُنشِدُ الأشعار، وهو يقول لها: (هِيه يا خَنسَاء). كانت مِن أشْهَر شُعراء الرِّثَاء؛ فَغَلبَ على شِعرها البُكاء، والتَّفجّع، والمَدح، والنَّظمِ على وَتِيرَة الحُزن، وذَرفِ الدُّموع، ولقد نَبَغَت شَاعِريّتهَا بعد مَقتل أخَويهَا،(معاوية، وصَخر)، وزَادَ في شُهْرَتِهَا الشّعريّة؛ إلى أنْ طَالَ بها هذا الحُزن إلى الدُّخولِ بِحِدَادٍ طويل جداً، حيث استمرّت في ارتِدَاءِ مَلابس الحِدَاد كَدَليلٍ على إخلاصِهَا لأخويها، قال عنها الشاعر النَّابغة الذّبياني:” لولا هذا الأعمى، ويقصُد به {الأعشَى}، لقُلتُ أنّكِ أشْعَر الجِنِّ والإنْس”. حتى كانت العَاقِلَة الحَازِمَة، فَعُدَّت من شَهِيرَات النِّساء؛ لا يَجرُؤ أحد بالتَّهَجُّمِ عليها أو التَّحدّث عنها.

قَائل هذه المَقولة

قائلُ هذا القول هو الشّاعر النّابغة الذّبياني؛ وقد قالَهُ في حَقِّ الخَنساء عندما أنْشَدَت الشِّعرَ بينَ يَديهِ وَيَديّ حسّان بن ثابت؛ في سُوقِ عُكَاظ في الجَاهليّة.

مَن هي الخَنسَاء؟

إنّها أمّ عَمرو تَماضُر بنت عَمرو بن الحَارث بن الشَّرِيد، من بني سُلَيم؛ هي من آل الشَّرِيدِ من سَادَاتِ وأشْرَافِ العرب ومُلوك قبيلة بني سُلَيم في الجاهلية. وهي شاعِرة مُخَضرَمة أدْرَكت الجاهلية والإسلام.

ولُقّبت بالخنساء مُؤنّث الأخْنَس؛ وهو تَأخُّر الأَنْف عن الوجهِ مع ارتفاعٍ قليلٍ في الأَرنُبَة، وهي صِفة مُستحبَّة أكثر ما يكون في الظِّباءِ وفي البَقر الوحشيّ؛كما كان يُقال للخنساء خُنَاس. ومعنى اسمها تَماضُر هو البيضَاء.
سكنوا بادية الحِجَازِ في الشّمال الشَّرقي من مدينة يثرب(المدينة المنورة)، حيث تَمتَد مَضَارب قبيلَتِهَا بني سُليم. وعمرو بن الحَارِث -أبو تَماضُر-؛ كان من وفُودِ العَرب على كِسرى، وكان يَأخُذُ بِيَديّ ابنَيهِ مُعاوية وصَخر في المَوسِمِ إذا جآءوا إلى مكّة، حتّى إذا تَوسّطَ الجَمَعَ من النّاس، قال بأعلی صَوته: أنا أبو خَيرَي مُضَر، فَمَن أنكَرَ فَليُغَيّر؛ فلا يُغَيّرُ عليه أحَد؛ وكان يقول: مَن أتَى بِمِثْلِهمَا أخَوَين مِن قَبل، فلهُ حُكْمهُ، فَتُقِرُّ له العرب بذلك.

وأيضاً كان يَعتَّزُّ النّبي_صلى الله عليه وسلّم_، بالإنتِسَابِ إلى بني سُليم، فكان يقول:” أنا ابنُ الفَواطِم من قُريش، والعَواتِكِ من سُلَيم، وفي سُلَيم شَرَفٌ كثير“. والعَواتِك؛ هُنَّ جَدّاتُ النبي لِابائهِ، وهُنَّ من بني سُلَيم، وَكُلّهنَّ اسمَهنَّ عاتِكة.

زواجُ الخنساء

تَقدَّمَ لِخِطبَتهَا الشّاعر والفارس الذي شَارَك في نَحوِ مَائة معركة، ما أخْفَقَ في واحدة منها، والذي لا يُشَقُّ لهُ غُبَار “دُرَيد بن الصّمّة”، بعدَ أنْ أنَاخَ”بَنو جُشَم” وهم قَومهُ؛ رَواحِلهُم طلباً للرَّاحة من عَناءِ السَّفر الطَّويل إلى مكة في إبَّانِ المَوسم، وكان منزلهم في بادية الحجاز قريباً من منازل بني سُلَيم.

فَشَاورهَا والِدهَا عَمرو وقال لها:” يا خنساء؛ أتَاكِ فَارِس هَوازِن وَسيّد بني جُشَم دُرَيد بن الصّمَّة يَخَطبَكِ وهو من تَعلَمِين، فقالت – وكان دُرَيد يسمع حَدِيثَهمَا:” يا أبَتِ: أتُرَانِي تَارِكةً بني عمّي مثل عُودِ الرِّمَاح، ونَاكِحَةً شيخ بني جُشَم؟ فخرج اليه أبوها فقال:” يا أبا قُرّة! قَد امتَنَعَتْ، ولَعَلّها تُجيبُ فيما بعد”. فقال دُريد: قَد سَمِعت قَولَكُمَا. قالها وهو مُنصَرِف، دون أنْ يَزيد عَليها. فقد عَرَفَ فيها أبوها رَجَاحَةَ العَقلِ، واتِّزَان الفِكر، فَأبَى إلّا أنْ يكون زواجها بعد مُوافقَتهَا.

ثُمّ يتقدَّم لها رجل من قبيلتها اسمهُ “رَواحَة بن عبد العُزَّى السُّلَميّ، فَيَتَزوّجهَا؛ وكان رَواحَةٌ هذا رجلاً مُقَامِراً، يلعبُ القِمَار؛ فَحاولت الخنساء أنْ تُمسِكَ عليها زوجها، فَضَحَّتْ في سبيل ذلك بالكثير؛ حتى غَيَّرَت من طبيعتها وكِبريَائهَا، بل إنّها بالغت في ذلك لدَرجةٍ جَعَلتهُ يَشْعرُ بِتَعلُّقِهَا به. فَغَالى في انحِرَافهِ، واستَغَلَّ حرصها عليه أسوأ استغلال، وانتَهَزَ مَالَهَا ومَال أخيها، وكُلّمَا فَرَغت يدهُ أظهر لها الضِّيق بحياتهِ معها، فَهَمَّ بالرَّحيلِ عنها؛ ولكنَّهَا تَتَشبَّثُ به وتقول له: “أقِمْ وأنا آتي صَخْرَاً فأسأله”؛ فما يكونُ من صَخرٍ إلّا أنْ يُقَسِّم ماله قِسمين، يُعطِيهَا خَيرَهُمَا. وبعدَ عنَاءٍ شديد تترُك رواحة بن عبد العُزّى.

بَعد ذلك يَتقدَّم اليها مِردَاس بن أبي عامر السُّلَمِي، المُلَقّب بالفَيضِ لِسَخائِهِ، وكان ذلك بعد مقتل أخيها صخر، ثُمَّ تُوفِيَ في إحدى مغامراته تاركاً للخنساء أربعة بنين هم: العباس، وعبدالله، وزيد، ومعاوية، وبنتٌ اسمها عَمرَة.

وتَهتَزّ الخنساء لِفَقدِ مرداس، وتَحزن عليه حُزناً شَديداً، فَتَرثِيهِ بقَصيدةٍ تُعتَبرُ في ميزانِ شِعرِهَا من أحسنِ مَراثِيها؛ فَعَدّدت مَناقِبهُ وذَكَرت مَآثِره.

إسلام الخَنساء

حِينَ انتشَرَ نور الإسلام، صَحِبَت الخَنساء بَنِيهَا وبني عَمّها من بني سُلَيم وافدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا دخولهم في الدين الجديد. فأسلمت في عام 8 هـ – 630 م وهي في طَلائِعِ شَيخُوخَتهَا لم تَقِلّ عن الخمسين من عُمْرهَا.

لَمْ تَزَل الخَنساء تبكي على أخويها صخراً ومعاوية حتى أدركت الإسلام فأقبل بها بنو عَمّها إلى عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه_، وهي عجوز كبيرة فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه الخنساء قد قَرَحَتْ مآقِيهَا من البُكاء في الجاهلية والإسلام؛ فَلو نَهيتَها لَرَجَونَا أنْ تنتهي. فقال لها عمر: اتّقي الله وأيَقِنِي بالموت فقالت: أنا أبكي أبي وخَيرَي مُضر: صخراً ومعاوية، وإنّي لَمُوقِنةٌ بالموت، فقال عمر: أتبكين عليهم وقد صَاروا جمرة في النار؟ فقالت: ذاك أشَدّ لبُكائِي عليهم؛ فكأن عمر رَقَّ لها فقال: خَلّوا عَجوزَكُم لا أبَا لكم، فكُلُّ امرئٍ يبكي شَجْوَهُ؛ وَنَامَ الخَليّ عن بُكاء الشَّجِيّ.

وتَحضُر الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية سنة 16 هـ، – 638 م ومعها بنوها الأربعة رِجال؛ فَتُحرّضُ أبناءها الأربعة على الجِهاد وتُرافِقهم مع الجيش زمن عمر بن الخطاب، وقد أوصَتهُم فقالت: “يا بَنيّ إنّكم أسْلَمتُم وهَاجَرتُم مُختَارِين، والله الذي لا إله غيره إنّكم لَبَنُو رجلٍ واحد، كما أنّكم بَنو امرأةٍ واحدة، ما خُنتُ أباكم ولا فَضَحتُ خَالكُم، ولا هَجّنتُ حَسَبكُم ولا غَيّرتُ نَسَبكُم. وقد تعلمون ما أعَدَّ الله للمسلمين من الثَّوابِ الجَزيل في حرب الكافرين. واعلموا أنَّ الدّار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. فإذا أصبحتم غداً إنْ شاء الله سالمين، فاغدُوا إلى قتال عَدوّكِم مُستَبصِرِين، وبالله على أعدَائهِ مُستَنصِرين. وإذا رأيتُم الحرب قد شَمَّرت عن سَاقِها، واضْطَرَمت لظىً على سيَاقهَا، وجَلّلَت ناراً على أوراقِهَا، فَتيَمَّمُوا وطَيسهَا، وجَالِدُوا رَئيسهَا عند احتِدَامِ خَمِيسهَا؛ تَظفَرُوا بالغُنمِ والكرامة في دار الخُلد والمُقَامة”. فَلمَّا بلغَ إليها خبر وفاة أستشهادهم جميعاً، لَمْ تَجزَع ولَمْ تَبكِ، ولَم تَحزن، فقالت قولتها المشهورة: “الحمد لله الذيشَرَّفَنِي باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يَجمَعني بهم في مُستَقرِّ رحمته“. فكان عمر بن الخطاب يُعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قُبِضَ رضي الله عنه.

كانت الخنساء في أوّلِ أمرِهَا تقول البيتين والثلاثة، حتى قُتلَ أخَواهَا معاوية وصخر؛ اللَّذينِ ما فَتِأت تَبكيهمَا حتى خلافة عُمر بن الخطاب، وخصوصاً أخيها صخر. فقد كانت تُحبّه حباً لا يُوصَف، ورَثتهُ رِثاءً حزيناً وبالغت فيه حتى عُدَّت أعظم شعراء الرِّثاء. ويَغلبُ على شعر الخنساء البكاء والتَّفجُّع والمَدح والتِّكرَار لأنها سارت على وتَيرةٍ واحدة تَمَيَّزت بالحزن والأسى وذَرفِ الدُّموع.

رِثاء الخَنساء لأَخيهَا صَخْر

ومَن أبرَز مَراثِيها، تلكَ القَصيدة التي رَثَت بها صَخْراً؛ والتي اشتُهِرت بالقَصيدة الرّائيّة؛ والتي قالت فيها:

قَذَىً بعينكِ أمْ بالعينِ عـوَّارُ …. أمْ ذرَّفتْ إذْ خلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ
كانَّ عَيني لِذكـرَاهُ إذَا خَطرتْ …. فيضٌ يسـيلُ علَى الخدَّينِ مِدرارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ وَلَهتْ …. وَدونـهُ منْ جديدِ التُّربِ أستَارُ
تبكي خُناسٌ فما تَنـفَكُّ مَا عَمرتْ …. لَها عليهِ رنـينٌ وَهيَ مفتـارُ
تبكي خناسٌ علَى صـخرٍ وحُقَّ لهَا …. إذْ رابـهَا الدَّهـرُ إنَّ الدَّهـرَ ضـرَّارُ
لاَ بدَّ منْ مِيـتَةٍ في صَرفهَا عبرٌ …. وَالدَّهرُ في صَرفهِ حولٌ وَأطوارُ
قدْ كانَ فيكمْ أبـو عمـرٍو يَسُودكمُ …. نِعمَ المُعمَّمُ للدَّاعـينَ نصَّـارُ
يا صخرُ ورَّادَ مــاءٍ قدْ تَـنـاذرهُ …. أهلُ المَواردِ مَا في وُردهِ عارُ
يوماً بأوجدَ منّي يـومَ فارقني …. صخـرٌ وَللـدَّهرِ إحلاءٌ وَإمرارُ
وإنَّ صخراً لواليـنَا وَسيّـدنَا …. وإنَّ صخراً إذَا نـشتُـو لنحَّـارُ
وإنَّ صخراً لـمقدامٌ إذَا ركبـوا …. وإنَّ صـخراً إذَا جاعُـوا لعقّارُ
وإنَّ صخراً لتأتـمُّ الهـداةُ بـهِ …. كأنَّـهُ علمٌ في رأسـهِ نـارُ
جلـدٌ جميـلُ المحـيَّا كاملٌ ورعٌ …. وَللحروبِ غـداةََ الـرَّوعِ مسعـارُ
حمَّالُ ألويةٍ هـبّــَاطُ أوديـةٍ …. شهَّادُ أنـديـةٍ للجـيشِ جرَّارُ
فبـتُّ ساهـرةً للنَّجمِ أرقُـبهُ …. حتَّى أتَى دونَ غورِ النَّجمِ أستارُ
لمْ ترهُ جارةٌ يمـشِي بساحتهَا …. لريبةٍ حـينَ يخـلِي بيـتهُ الجارُ
ولا تراهُ وما في البيـتِ يأكلهُ …. لكنَّهُ بارزٌ بالصَّحنِ مِهمـارُ
قدْ كانَ خالصتي منْ كلِّ ذي نسبٍ …. فقدْ أصيبَ فما للعـيشِ أوطارُ
مورَّثُ المجـدِ ميمـونٌ نقيبتهُ …. ضخمُ الدَّسيـعـةِ في العـزَّاءِ مغوارُ
ليبكهِ مقتـرٌ أفنى حَريبـَتهُ …. دهرٌ وَحالفهُ بؤسٌ وَإقتـارُ
ورفقةٌ حارَ حاديهـمْ بمهلكةٍ …. كأنَّ ظلمتَها في الطّـخيةِ القارُ
لا يمنعُ القومَ إنْ سألوهُ خلعـتهُ …. وَلاَ يـجاوزهُ باللَّـيـلِ مـرَّارُ

وَفاة الخنساء

ماتت الخنساء -رضي الله عنها- سنة 24 هـ/645م. بعدَ أنْ وقفت على عامِهَا الحادي والسّبعين؛ وبعدَ أنْ عَمَّرَت إلى أنْ أدركت نصر الإسلام المبين؛ وكان ذلك في بِدايةِ خلافة عثمان بن عفّان- رضي الله عنه_.


شارك المقالة: