الأوضاع الداخلية لدولة الخلافة العباسية الثانية

اقرأ في هذا المقال


الأوضاع الداخلية لدولة الخلافة العباسية الثانية:

نُقلت عاصمة الخلافة من بغداد إلى سامراء، التي بقيت نحو خمسين عاماً حاضرة دولة الخلافة العباسية، وأضحت مقراً للعصبية التركية الجديدة. ومنذ عهد المعتصم أخذت تظهر على مسرح الحياة السياسية شخصيات تركية أدّت دور كبيراً في الحياة العامة، لعل أبرزها الأفشين وأشناس وإيتاخ ووصيف وسيما الدمشقي. وقد خدموا الدولة وساندوها في حروبها الداخلية ضد الحركات المناهضة التي نشبت في أجزائها المختلفة، وفي حروبها الخارجية ضد الأمبراطورية البيزنطية.

ومع مرور الوقت بدأ هؤلاء الأتراك يركزون كامل تركيزهم نحو تكوين كيان خاص بهم سواء في كنف الخلافة أو منفصلاٌ عنها، كما طمع بعضهم في الاستئثار بشؤون الحكم في العاصمة حين أدركوا أن الخلافة لا يمكنها الاستغناء عن خدماتهم. وتعتبر خلافة الواثق بن المعتصم عام (227 – 232 هجري)/(842 – 847 ميلادي)، فترة انتقال بين عهدين. الأول هو عهد سيطرة الأتراك على مُقدّرات الدولة مع بقاء هيبة الخلافة. والثاني هو عهد سيطرة الأتراك مع زوال هيبة الخلافة وهبوط مكانة الخلفاء.

العلاقة مع الأتراك:

لقد تركوا الأتراك بصمة في عهد الواثق وهي بصمة أقدامهم في الحكم العباسي، وحصل رؤساؤهم على نفوذ كبيره حتى اضطر الخليفة أن يخلع على أشناس لقب السلطان مُعترفاً له بحقوق تتجاوز نطاق المهام العسكرية فكان بذلك أول خليفة استخلف سلطان. وأسند إليه أعمال الجزيرة وبلاد الشام ومصر كماعهد إلى إيتاخ بولاية خراسان والسند وكور دجلة.

نتيجة لهذا التوسع في الصلاحيات، هيمن الأتراك على دار الخلافة وأحكموا سيطرتهم الفعلية على كافة أقاليمها، ثم خطوا خطوة أُخرى حين اعتقدوا أنه لا بد من السيطرة على شخص الخليفة حتى يستمر سلطانهم باعتباره مصدر هذا السلطان. فأحاطوا به يراقبون تحركاته، ويشاركون في المناقشات السياسية، فلم يذهبوا إلى ولاياتهم، وأنابوا فيها عمالاً عنهم.

وقد تكونت هذه الأشكال خطوة سياسية على طريق انفصال الولايات عن الإدارة المركزية. إذ كانوا يطمعون الوكلاء بولاياتهم، واخذوا بها ينتهزين فرصة ضُعف السلطة المركزية، وعدم علم الخليفة بما يجري في الولايات لاطمئنانه إلى من ولاّهم من الأتراك.وخطا الأتراك خطوة أُخرى أيضاً في سبيل تشديد قبضتهم على الخلافة، فأخذوا يتدخلون في اختيار الخلفاء وتوليتهم وكان الواثق هو آخر الخلفاء الذين تمّت توليتهم على التقليد الذي كان متبعاً من قبل.

ثم توفي الواثق ولم يعهد الولاية لابنه محمد بسبب صغر سنه، فنشب الصراع بين فئتين رئيستين بشأن اختيار الخليفة. تألفت الفئة الأولى، من كبار رجال الدولة من أبناء البيت العباسي والوزير محمد بن عبد الملك الزيات وكبير القضاة أحمد بن أبي دؤاد، وقد رشحت محمد بن الواثق، وتمثّلت الفئة الثانية بقوة الأتراك النامية التي كانت تعمل على تثبيت نفوذها بزعامة وصيف التركي، وقد رشحت جعفر بن المعتصم. وقد نجحت هذه الفئة في فرض مرشحها للخلافة. وبذلك أسند منصب الخلافة إلى جعفر ولقب بـ (المتوكل).

وقد تكونت هذه الأحداث السابقة والخطيرة في تولية الخلفاء بعد ذلك، إذ أصبحت القادة الأتراك هم أهل الحل والعقد، لا يتم الولاية إلا بصدور موافقتهم ورضاهم بشروطهم الخاصة، يرفعون الرجل الذي يرتضونه والعكس صحيح. فأحكموا بذلك قبضتهم على شؤون الخلافة يصرفون الأمور بإرادتهم. لم يخضع الخلفاء للنفوذ التركي بسهولة بل قاوموه مقاومة شديدة، وحاولوا التخلص من (صانعي الخلفاء). لكن لم يكن لديهم من القوة الكافية ما يستطيعون بها مجابهة هذا النفوذ الطاغي.

ولاية المتوكل على الله الخلافة:

تولى المتوكل على الله (232 – 247 هجري)/(847 – 861 ميلادي) الخلافة بقوة الأتراك وشعر هؤلاء أن الخلافة عاجزة عن الاستغناء، عن خدماتهم مما ساقهم إلى مزيد من العنفوان. ولم يلبث هذا الخليفة أن أدرك حقيقة موقفهم الضاغط على الخلافة، وشعر باستبدادهم بشؤونها، وقلة احترامهم لشخصه. فقرر تحجيم قوتهم وبدأ بإيتاخ فتمكن من إبعاده عن مناصبه وسجنه، وتوفي في سجنه في عام (235 هجري)/(850 ميلادي).

وحتى يقطع على الأترلك طريق التدخل في اختيار خلف له، عمد المتوكل إلى عقد البيعة لأبنائه الثلاثة بولاية العهد وهم محمد المنتصر وأبو عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد، وقسم البلاد بينهم مُتبعاً ذلك التقسيم الذي جرت عليه الخلافة في عهد الرشيد، فولَّى المنتصر المغرب كله، وولَّى المعتز المشرق كله ايضاً، وأقطع المؤيد أجناد حمص ودمشق وفلسطين ثم أضاف للمعتز في عام (240 هجري)/(854 ميلادي)، خزن الأموال في جميع البلاد، ودورالضرب، وأمر أن تضرب الدراهم باسمه.

عندها أدرك الأتراك خطورة وأبعاد ذلك، واشتد حقدهم على الخليفة وعدُّوا إبعادهم عن مناصبهم خطوة أولى في سبيل القضاء عليهم، لذلك أضحت مؤامراتهم ودسائسهم لا تنقطع، وشعر المتوكل في هذا الجو الخانق بالضيق.

ولمّا كان حظوره في سامراء يجعله في قبضتهم، وإذ لم يستطيع على مقدرته في تلبية مطالبهم الملحة بالحصول على المال، فقد حاول اجتناب سيطرتهم بأن انتقل إلى دمشق وجعلها حاضرة له، لعله يجد فيها من يقف إلى جانبه من العنصر العربي، لكن الظروف الداخلية والمناخية لم تساعده على البقاء فيها واضطر للعودة إلى سامراء بعد أن قضى فيها ثلاثة أشهر.

وبلغ العداء بين الخليفة والأتراك في هذه المرحلة نقطة اللاعودة، وكان لابد لأحدهما من أن يتخلص من الآخر. وكان هؤلاء الأشخاص سبب في الأسرع في عملية التحرك، فتمكنوا من قتل الخليفة بمعاونة ابنه المنتصر الذي نقم على والده لأنه حاول تغيير ولاية العهد بتقديم المُعتز عليه، بالإضافة إلى التعارض في الرأي السياسي بينهما في مجال العلاقات مع الطالبيين.

المصدر: ❞ كتاب تاريخ الدولة العباسية 132-656هـ ❝ مؤلفة د.محمد سهيل طقوش❞ كتاب سلسلة تاريخ الأدب العربي العصر العباسي الأول ❝ مؤلفة شوقي ضيف❞ كتاب أطلس تاريخ الدولة العباسية ملون ❝ مؤلفة سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث❞ كتاب الدولة العباسية ❝ مؤلفة محمود شاكر أبو فهر


شارك المقالة: