التخصص وتقسيم العمل الحقيقي في الأنثروبولوجيا الاقتصادية

اقرأ في هذا المقال


نتناول في هذا المقال مواضيع لها علاقة بالأنثروبولوجيا الاقتصادية مع بعض الأمثلة عليها كالتخصص في العمل الحقيقي وارتباطه بأشكال التكنولوجيا في الأنثروبولوجيا الاقتصادية، وكذلك تقسيم العمل الحقيقي في الأنثروبولوجيا الاقتصادية.

التخصص في العمل الحقيقي وارتباطه بأشكال التكنولوجيا في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

يتكون ما يُصطلح عليه بالعادة تقسيم العمل الحقيقي في الأنثروبولوجيا الاقتصادية، عندما نرى أخصائيون متخصصين بعمل معين متفرغين أو إنهم في بعض الأوقات يقومون بأعمال لا يؤدونها متخصصون في نفس النوع والعمر. وعلى الرغم من أن توزيع الأعمال الإنتاجية والاقتصادية الأخرى يتم في كل المجتمعات على أساس كل من العمر والنوع، إلا أن تقسيم العمل الحقيقي يرتبط بأشكال التكنولوجيا الأكثر تعقيداً وبحجم الجماعة الاجتماعية.

حيث تتطلب فنون معينة كصناعة الأدوات الحجرية مهارة ضئيلة نسبياً، كما أن العمل اللازم لها يقوم به فرد واحد. وتنتشر المواد الخام انتشاراً كبيراً. كما أن كل فرد تقريباً يستطيع أن يتعلم بسرعة كيفية اختيار الأحجار المناسبة وتكسيرها، أو تقطيعها، لتصبح أدوات قاطعة مفيدة، ومصنوعات مادية أخرى.

وفي المجتمعات التي تستخدم أدوات القطع الحجرية فقط، فإن فن تشكيل الأدوات يكون معروفاً عادة لكل ذكر راشد، حيث يتعلم هذا الفن على مدى فترة قصيرة نسبياً من والده أو أخيه الأكبر أو أحد رفاقه الذكور والعملية كلها أبسط بكثير من أن تتطلب تقسيم العمل لعمليات مستقلة. فالفرد يستطيع الحصول على المادة الضرورية، وتشكيلها في دقائق قليلة ليحصل على الأداة المطلوبة منه.

وهناك فنون أخرى أكثر تعقيداً، كما هي الحال بالنسبة لتشكيل وصنع الأدوات الحديدية. ويتطلب هذا مهارة كبيرة، في تحديد واستخراج الرمال الحاملة للحديد، أو خامات الحديد، ثم اتباع العمليات المعقدة بدقة التي تتمثل في صهر وتشكيل المعدن المستخرج على هيئة أدوات ومصنوعات مادية، سواء تم ذلك بطرق المعادن، أو صبها، أو خلطها، أو مزجها. وهنا نجد عادة متخصصين يكرسون جانباً من وقتهم أو كل وقتهم لهذا العمل.

فعلى سبيل المثال نجد لدى الباجندا وهو شعب أفريقي يزرع البساتين جماعات متخصصة تقضي كل أو معظم وقت عملها، كعمال حديد، أو نجارين، أو صانعي زوارق بسيطة، أو عمال جلود، أو صانعي طبول، أو عمال فخار، أو عمال تسقيف المساكن بالقش، أو عمال تبطين أرضية المساكن. وبالنسبة لبعض الأعمال المعقدة كبناء المساكن نجد جماعات مختلفة عديدة من المتخصصين تعمل فيها.

ومع ذلك نجد عمال الحديد في بعض القبائل الأفريقية إما بسبب عدم توافر المواد الخام، أو بسبب الجهل بالأساليب الصحيحة لا يعالجون أو يصهرون الحديد الذي يستخرجونه. وبدلاً من ذلك نجدهم يشكلون أدوات ومصنوعات مادية باستخدام قوالب، أو قضبان الحديد التي يحصلون عليها من الجماعات الأخرى عن طريق التجارة. وفي هذه الحالة نجد نمط التخصص يمتد خارج حدود المجتمع.

فالتعقد المتزايد في التكنولوجيا قد ارتبط بثلاثة اتجاهات هي:

1- تكوين جماعات من المتخصصين.

2- تقسيم العمليات إلى تخصصات مختلفة.

3- الاعتماد المتزايد على التجارة الخارجية.

على أن عملية تقسيم الأعمال الإنتاجية قد وصلت إلى درجة عالية جداً في المجتمعات الصناعية فصناعة السيارات تمثل عملية بالغة التعقيد، وإن كان معظم العمال يقومون فقط بأداء عمليات بسيط نسبياً في الوقت الذي تقوم فيه الآلة بنقل المواد من مكان إلى آخر وإلى المكان الذي يقف فيه العمال على خط التجميع، وتستطيع الآلات وفي صورة متزايدة القيام بهذه العمليات البسيطة، ومن ثم أصبح العامل مجرد مشرف أو شخص يقوم بصيانة الآلة وتوجيهها فقط.

والمثال البارز على ذلك هو إنتاج ألواح الصفيح، أي ألواح الصلب الرقيقة المغطاة بالقصدير والتي تصنع منها معلبات الطعام والأشياء الأخرى. وفي وقت من الأوقات كانت عملية صناعة لوح الصفيح تحتاج إلى ٤٠٠ عامل تقريباً أما الآن فإن صنع لوح الصفيح باستخدام العمليات الحديثة يتطلب شخصاً واحد يقف على لوحة مراقبة، وإلى جانبه شخص آخر للطوارئ وتتطلب العملية بطبيعة الحال منسقين للإشراف على تدفق المواد الخام ومتخصصين للحفاظ على الآلات وإصلاحها، لكنهم لا يلعبون دوراً مباشراً في عملية صنع ألواح الصفيح.

ويندر وجود تقسيم العمل الحقيقي لدى المجتمعات التي ليس لديها فائض من الطعام. والمثال على ذلك هو شعب الهوبي في شمال أريزونا، الذي يعيش على هضبة شبه قاحله تقع على ارتفاع يصل إلى ٦٠٠٠قدم، حيث لا تتلقي سوى كميات ضئيلة من الأمطار فضلاً عن عدم وجود أنهار دائمة. وعلى الرغم من ندرة المياه، إلا أن أفراد شعب الهوبي يقومون بفلاحة البساتين، حيث يزرعون بفضل قدرتهم على العمل الشاق كالحنطة، الفاصوليا، القرع، اليقطين، عباد الشمس، القطن.

ويحصل أفراد شعب الهوبي على أطعمة إضافية من خلال الصيد والجمع، وإن كانت الحيوانـات والنباتات التي يحصلون عليها بهاتين الطريقتين تمثل مواد طعام ثانوية إلى حد بعيد. والأسلحة تصنع يدوياً من الأخشاب والحجارة والعظام في حين يصنعون الأواني من الفخار والأساليب التي يستخدمونها سواء في إنتاج الطعام أو في صنع الأدوات والمصنوعات المادية بسيطة نسبياً، يمكن تعلمها في مدى فترة قصيرة.

وأهم من ذلك أن الدورة الإنتاجية لشعب الهوبي ضئيلة، بحيث لا ينتج أكثر مما يكفي بضع مئات من الناس بدرجة معقولة على مدار العام. وهناك فائض ضئيل من الحاجات غير المباشر. وإذا كان لشعب الهوبي أن يستمر في البقاء، فإن على كل ذكر قادر جسمانياً أن يقضي وقت عملة في إنتاج الطعام إنتاجاً حقيقياً.

وإذا ما أخذنا هذه الحقائق في الاعتبار أمكن القول أن مجتمع الهوبي ليس لديه متخصصون متفرغون، وإن عدداً قليلاً من الراشدين وهم عادة من كبار السن هم الذين يخصصون جانباً من عملهم لإنتاج الطعام. ومن هؤلاء الراشدين: القساوسة، الحكام، أي الرجال الذين يقومون بفضل قوتهم وخبرتهم بأكثر الشعائر طولاً وتعقيداً، تلك الشعائر التي تؤدي معظمها خلال فصل الشتاء حتى يمكن ضمان نجاح محصول العام التالي.

وإذا ما استثنينا هؤلاء المتخصصين غير المتفرغين في مسائل الشعائر والطقوس، فإن تقسيم العمل يتم كلية فى ضوء العمر والنوع. فالرجال يقومون بكل عمليات زراعة البساتين، والصيد، والحرب، وغزل الملابس القطنية، وصناعة الملابس، وصنع أدواتهم وأسلحتهم، وجمع الوقود، ومواد بناء المساكن.

أما النساء فيقمن بجمع الأطعمة النباتية البرية، وأداء الوجبات المنزلية، ورعاية الأطفال، وبناء المساكن وإصلاحها، وتشكيل أواني السلال والفخار، كما يقمن بالتجارة التي تتخذ طابعاً عريضاً تماماً على أساس أن يتبادل الشعب الهوبي فائضهم الضئيل بأطعمة ومصنوعات مادية لا ينتجونها، وذلك حينما يمر بهم عام وفير الإنتاج. ففي مجال الإنتاج نجد أن النسق الاقتصادي عند شعب الهوبي يؤدي وظيفة من خلال تقسيمات النوع والعمر ذات الطابع المستمر، وذلك لضبط وتحديد توزيع المصدر الأساسي، وهو الطاقة الإنسانية.

وعلى الرغم من أننا قد ذكرنا أن تقسيم العمل الأولي يوجد لدى شعب الهوبي، إلا أن من المهم ملاحظة نقطة هامة هي، أن القساوسة والموظفين الحكوميين في شعب الهوبي لا يحصلون على أجور في مقابل خدماتهم، ذلك أن مكافآتهم تتمثل في دعم هيبتهم أساساً وإذا كان القسيس قادراً جسمانياً وكفؤا، فإنه قد يعمل في الحقل شأنه في ذلك شأن الرجال الآخرين، وإذا لم يكن كذلك فإنه قد يحصل على مساعدة أو دعم.

لكنه في هذه الحالة الثانية لا يتمتعون بالأعفائات التي يتمتع بها الآخرون الذين يعانون عجزاً جسمانياً وليسوا قساوسة. وباختصار فإن أشكال التخصص التي توجد في مثل هذا النوع من المجتمعات تؤدى وكأنها واجبات إضافية وليست وسائل لكسب العيش.

تقسيم العمل الحقيقي في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

ومن الواضح إذن أن التخصص وتقسيم العمل الحقيقي في الأنثروبولوجيا الاقتصادية لا يعتمدان على تطور تكنولوجيا أكثر تعقيداً فحسب، ولكنهما يعتمدان أيضا على إنتاج فائض يمكن تبادله. وتبدو هذه النقطة واضحة ومؤكدة في السجلات الأركيولوجية المتعلقة بالتاريخ الثقافي للعالم القديم.

ولقد أدت أساليب زراعة البساتين التي ربما تكون قد ظهرت فى مكان ما في الشرق الأدنى قرب نهاية عصر البلايستوسين إلى ظهور واحات خصبة ذات رى جيد في أودية أنهار دجلة، والنيل، والفرات، مما أدى إلى ظهور مجتمعات إنتاجية إلى حد كبير. ونظراً لزيادة إنتاج الطعام زيادة سريعة في هذه المجتمعات، فإن عدد سكانها لم ينم فقط بل شهدت كما توضح السجلات الأركيولوجية تطورا ملحوظا وسريعاً في أشكال التكنولوجيا المتنوعة. ولقد أدى ذلك إلى نمو حجم المجتمع، واستخدام أساليب وفنون جديدة في مناطق واسعة، فضلاً عن دور التنمية الاقتصادية التي أدت في نهاية الأمر إلى ظهور الحضارات الأوربية الغربية أنذاك.

المصدر: محمد الجوهري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا، 2007محمد الجوهري، الأنثروبولوجيا الاجتماعية، 2004ابراهيم رزقانة، الأنثروبولوجيا، 1964كاظم سعد الدين، الأنثروبولوجيا المفهوم والتاريخ، 2010


شارك المقالة: