الخليفة الرشيد هارون بن محمد

اقرأ في هذا المقال


الخليفة الرشيد هارون بن محمد:

ظهرت الدولة العباسية ذروتها أيام الرشيد، فآباؤه قد وطدوا له الأمر فعمّ الاستقرار، ووصلت الدولة إلى غاية قوتها فساد الأمن، ولم يحدث الصراع على الحكم إذ كانت الدولة في مرحلة الشباب حيث لا يزال الشعور بالمعاناة قائماً للوصول إلى السلطة وانتزاعها من أيدي الأمويين.

وكان الرشيد من صفاته الشجاعة والقوة فقد قاد الحملات والصوائف في عهد أبيه ولم يتجاوز العشرين من العمر، وسار على رأس الجيوش إلى بلاد الروم، وهو أمير المؤمنين، فطأطأ الروم رؤوسهم وأحنوا هاماتهم له، ورهبوه، وأخافوا رعاياهم به.

وكان من صفاته أنهُ تقي وورع يخشى الله في أموره كلهان فقد كان يُصلي في اليوم مائة ركعة نفلاً، ويكثر من الحج، فقد ولي أمر المسلمين ثلاثاً وعشرين سنةً حجَّ في خلالها تسع مرات وهي مواسم: (‎170 ‏- 173 – 174 -175 – 177 – 179 – 181 – 186 – 188)، حتى شاع بين الناس أنهُ يغزو عاماً، ويحجّ عاماً، ويتصدق من صلب ماله. وقد تتبع الزنادقة وقتل منهم أعداداً. وكان يستمع إلى الوعّاظ والناصحين، ويبكي من خشية الله.

ولد الرشيد بالري أيام خلافة جده أبو جعفر المنصور عام (146 هجري)، وبويع بالخلافة عام (170 هجري)،‏ ولم يكن عمره ليزد يوم بويع على أربع وعشرين سنة، وكان أبيض طويلاً سميناً جميلاً، وتوفي بـ (طوس)، في (3) جمادى الآخرة من عام (193 هجري)،‏ فتكون ولايته ثلاثاً وعشرين سنة.

وتزوج بنت عمه زبيدة أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأنجبت له ولده الأمين في (16) شوال من عام (170 هجري)،‏ وكان زواجه من زبيدة عام (165 هجري)، كما تزوج عام (187 هجري)، العباسة بنت عمه سليمان بن أبي جعفر المنصور، كما تزوج عدة نساءٍ أُخريات، وتوفي عن أربع منهن.

وكانت له عدة جوار أنجبن عدة أولادٍ منهم: المأمون، وهو أكبر أولاده، إذ ولد يوم بويع الرشيد بالخلافة أي (15) ربيع الأول، وبذلك يكون أكبر من الأمين بسبعة أشهر، وتسمى أم المأمون مراجل، والمعتصم، وتُدعى أُمه ماردة، والقاسم المؤتمن وتُسمى أمه قصف. وكان الرشيد يُكنى أبا موسى، ثم عرف باسم أبي جعفر.

مبايعة الخلافة في عهد الرشيد:

لما بويع بالخلافة في (15) ربيع الأول أخرج يحيى بن خالد البرمكي من السجن وولّاه الوزارة، إذ كان الهادي قد سجنه لميله للرشيد، وأكمل الخليفة الجديد بناء مدينة طرسوس، وهي الثغر على ساحل البحر المتوسط. وانتهى العمل فيها في العام الأول من خلافة الرشيد. وتوفيت الخيزران والدة الرشيد عام (172 هجري).‏

وبايع لابنه محمد الأمين ولياً للعهد عام (175 هجري)، ولم يتجاوز الأمين الخامس من عمره، وهذا ما ولد المأمون أكبر من الأمين بسبعة أشهر إلا أنَّ البيعة كانت للأمين إذ أن أُمّه زبيدة بنت جعفر ابنة عم الرشيد، وذات الحظوة الكبيرة عنده، على حين كانت أم المأمون أم ولد هي مراجل، لكنه لم يلبث أن بايع بعد سبع سنوات للمأمون بعد أخيه الأمين.

وكان لآل برمك حكم كبير في الدولة ونفوذ واسعة أيام الرشيد، إذ كان يحيى بن خالد مُربياً للرشيد، حتى كان يُناديه أبي، وكان أولاد يحيى وهم: الفضل، وجعفر، وموسى، ومحمد أترابه وأقرانه، وكان الهادي يحقد عليهم، وقد سجن والدهم، فلما بويع الرشيد أخرجه من السجن، وقرّبه. وأعطاه الوزارة، وزاد نفوذ هذه الأسرة كثيراً، فهم من جهة قد خدموا الدولة.

إذ كان محمد بن خالد معلم الرشيد، ويحيى بن خالد مربيه، وجعفر بن يحيى والي مصر، والفضل بن يحيى والي خراسان، وفي الوقت نفسه فقد قادوا الجيوش، وأخضعوا الثورات، وأخمدوا الفتن، فقد نُدب الفضل بن يحيى لقتال يحيى بن عبد الله بن الحسن عندما ثار في بلاد الديلم عام (176 هجري)، كما سار الفضل نفسه على رأس قوة إلى بلاد الترك فدخل كابُل، وغزا بلاد ما وراء النهر.

وفي الفترة الذي ساعدوا فيه البرامكة الدولة كانوا يخدمون أنفسهم، إذ كانوا أصحاب النفوذ والسلطان، وأهل المشورة والرأي، والمُقدّمين في كل أمر، وجلساء الخليفة وندماءه، يدخلون عليه في كل وقت دون إذن، وإن كان يعزل أحدهم ويستبدله بآخر غير أن مركزهم لم يكن ليتغيّر، فقد عزل جعفراً عن مصر عام (176 هجري)، وعزل محمد بن خالد عن الحجابة وأعطاها للفضل بن الربيع عام (179 هجري).

الأحداث التي جرت في عهد الرشيد مع البرامكة:

تغيّرت أحوال البرامكة إذ تبدّل لهم الرشيد فجأةً فقتل جعفر بن يحيى، وسجن يحيى وابنه الفضل، وصادر أملاكهم وأموالهم. ولربما كان لمّا حل بالبرامكة أسباب عامة نتيجة زيادة نفوذهم حتى خافهم الرشيد، ومغالاتهم بالتبذير والمصروفات حتى فاقوا الخليفة نفسه وسبقوه، وعدم اهتمامهم بالخليفة حيث أصبحوا يدخلون عليه من غير إذن، وهذا ما جعل العامة والخاصة تحقد عليهم، وتتناولهم بالنقد بل وتتناول الرشيد نفسه الذي فسح لهم المجال.

فشعر الرشيد بالخوف على ملكه من نفوذهم، ومن نقمة العامة عليه، وجاء موضوع جعفر الخاص فاتخذه السبب في قتله وإنزال النكبة بأهله. فقد ذكر بختيشوع بن جبريل عن أبيه أنه قال: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحيى بن خالد ‏ وكان فيما مضى يدخل بلا إذن ‏ فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلّم رد عليه ردّاً ضعيفاً: فعلم يحيى أن أمرهم قد تغيّر.

وأما السبب الذي اتخذه الرشيد ذريعةً للبطش بالبرامكة فهو فيما يتعلق بجعفر بن يحيى الذي قرّبه الرشيد إليه كثيراً حتى أصبح سميره الذي لا يكاد يفارقه بل لا يكاد يستطيع مُفارقته وأمين سرّه الذي لا يستطيع أن يكتُم عنه سرّاً. فعندما ثار يحيى بن عبد الله بن الحسن عام (176 هجري)، في بلاد الديلم، ووجّه إليه الرشيد الفضل بن يحيى فأمنه، وجاء يحيى إلى بغداد فدفعه الرشيد إلى جعفر بن يحيى البرمكي فحبسه.

الأحداث التي جرت مع جعفر بن يحيى وأخت الرشيد العباسية بنت المهدي:

يبدو أن هذا كان سبباً رئيسياً لقتله والنكبة بالبرامكة، لكن هناك أمر آخر يبدو أنه أكثر أهميةً، وهو أن الرشيد لم يكُّن يصبر على بُعد جعفر بن يحيى إذ كان يُحبه جداً، ويحب أن يكون دائماً بجانبه، وفي الوقت نفسه كان يُحب أخته العباسة بنت المهدي حيث كانت على شيء من الأدب والرأي والحكمة فكان لذلك يحب أن يحضرا مجلسه.

ولما كان جعفر ليس له الحق أن يتكلم أو يقترب من العباسة أخت الرشيد إذ أنه من عشيرة أُخرى لذا تكلم معه الرشيد وقال له: أزوّجها لك ليحن لك التكلم والنظر إليها إذا حضرت مجلسي على ألا تمسّها، ولا يكون منك شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوّجها منه على ذلك. فكانا يحضران مجلس الرشيد، غير أن هذا الشرط لا يكون، وما كان، فهُما شابان وجرت خلوات بينهما، وأيّ منهما قد مكر بالآخر لا ندري، فالأمر واحد.

وحملت العباسة من جعفر، وأنجبت طفلاً فخافت على نفسها من أخيها كما خاف جعفر إن علم الرشيد بذلك لذا فقد ذهبت بالطفل مع حواضن له من أقاربها إلى مكة، وظلَّ الأمر مستوراً عن الرشيد حيناً من الزمن، حتى وقع خلاف بين العباسة وبين بعض جواريها، فأعلمت الجارية الرشيد بخبر العباسة ووليدها، فلما حجّ الرشيد عام (186 هجري).

تتبع أمر الوليد في مكة فاستيقن الخبر فأخذته النخوة في رأسه مأخذها، وعدّ أن جعفراً قد خانه، وقرّر قتله الانتقام منه ومن أهله، وإن كان هو نفسه السبب في ذلك لما فرّط في أهله. فلما رجع الرشيد من الحج أرسل مسروراً الخادم مع جماعة إلى جعفر فأخرجوه من منزله كرهاً وقيّدوه، وأتوا به إلى منزل الرشيد فأمر بضرب عنقه، وكان ذلك في أواخر أيام شهر محرم من عام (187 هجري).‏

كما أمر الرشيد بسجن يحيى بن خالد وأولاده الفضل، ومحمد، وموسى وأولادهم. وأعلن أنَّ لا أمان للبرامكة باستثناء محمد بن خالد إذ كان للخليفة ناصِحاً، وصادر أموالهم وأملاكهم، ثم أخرج يحيى من السجن لكبر سنهن كما أخرج أبناء أولاده لصغرهم. ومات الفضل بن يحيى في السجن (192 هجري)، كما مات أبوه يحيى من قبل عام (190 هجري).

مُبايعة الخلافة لأبناء الرشيد:

بايع لابنه القاسم ولياً للعهد بعد الأمين والمأمون، وسمّاه المؤتمن، وولّاه الجزيرة والثغور والعواصم، أما الأمين فقد كان والي الشام والعراق، وأما المأمون فوليّ أمر المشرق من همدان إلى آخر المشرق. وقد أشيعت الشائعات حول الرشيد، ورُوّجت التهم بصفته كان أعظم خلفاء بني العباس، وإنما توجّه التهم إلى العظماء فإذا ضعُفوا كان الصغار أقزاماً، فأشاعوا الكثير عن لهوه، وندمائه وكأسه، ووصلوا إلى زوجه زبيدة، وعرضه، وإتلافه في ماله وإعراضه عن ملكه.

المصدر: ❞ كتاب الدولة العباسية ❝ مؤلفة محمود شاكر أبو فهر صفحة (143 – 151)❞ كتاب أطلس تاريخ الدولة العباسية ملون ❝ مؤلفة سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث❞ كتاب سلسلة تاريخ الأدب العربي العصر العباسي الأول ❝ مؤلفة شوقي ضيف❞ كتاب تاريخ الدولة العباسية 132-656هـ ❝ مؤلفة د.محمد سهيل طقوش


شارك المقالة: