المثقفون والاختراق الثقافي

اقرأ في هذا المقال


المثقفون والاختراق الثقافي:

المشكلة أن الاختراق الثقافي الذي يحذر منه الأشخاص المثقفون والسياسيون لا يحدث باستغناء عنهم، فمن خلالهم تحدث أوسع عمليات التواصل مع الثقافات المتنوعة، ومن خلالهم تنتقل الأفكار والآراء، وقد يكون بعض هؤلاء أكثر المدافعين عن أفكار ورؤى وافدة تعد من حيث النتيجة شكلاً من أشكال الغزو، وشكلاً من أشكال الاختراق الذي ليس هو من حيث النتيجة، إلا أنماط سلوكية جديدة وفدت إلى المجتمع وانتشرت فيه.

ونجد من يدافع عنها بشدة إلى الحد التي يمكن أن تصبح فيه طبيعية تماماً، على الرغم من أنها غريبة عن المجتمع، ولا تتصل بثقافته وحضارته على نحو من الأنحاء، وفي ذلك تكمن خطورة الغزو الثقافي الذي يمنح الأنماط السلوكية الجديدة طابعاً وطنياً ويجعل منها معياراً من معايير التقدم الاجتماعي، في الوقت الذي يحد من انتشار الأنماط السلوكية المستمدة من التراث الثقافي للأمة، ويجعل منها معياراً من معايير التخلف، فالتمييز بين ما هو مستمد من التراث الثقافي للأمة، وما هو وافد إليها يصبح صعباً للغاية حتى بالنسبة إلى المثقف والسياسي.

و من أسباب هذا أيضاً أن الاختراق الثقافي أنه لم يزل يختص بالأشكال التي تختص بالسلوكات فحسب، إنما في هذا الوقت يختص بأساليب الحكم على هذه الأشكال أيضاً فالحكم على اختصاصية الأشكال السلوكية التي تؤخذ من العادات والتقاليد الاجتماعية المشتهرة في المجتمع العربي أصبح مبنياً على معايير الثقافة الوافدة نفسها، ومن الطبيعي أن تندرج مجموعة واسعة من الأنماط السلوكية التقليدية في عداد مظاهر التخلف، لا لأنها كذلك بالفعل إنما لكونها لا تتوافق مع الوافد من جهة.

وبالإضافة إلى أن الحكم عليها أتى من بعض الثقافات الأخرى، لا نأخذ بعين الاعتبار المفاهيم الاجتماعية والثقافية لهذه الأشكال إنما نحكم عليها بنفسها، وفي ذلك يكون الخطر الذي يصف الاختراق الثقافي، فقد يصبح المثقف منغمساً في الثقافة الغربية، ومن أشد المدافعين عنها، ويقف على الطرف النقيض من التراث الثقافي للمجتمع، وكل ذلك تحت شعار محاربة الغزو الثقافي ومقاومة الاختراق الثقافي.

مجموعة المثقفين وقيم الأنماط السلوكية نحو الاختراق الثقافي:

ومن جانب آخر، تنتشر مجموعة أخرى من المثقفين الذين يجعلون قيمة الأنماط السلوكية في ذاتها، و لكن بطريقة أخرى مختلفة تماماً عن سابقيهم، ذلك أن كل ما لا يتطابق مع تصوراتهم لمجتمع نموذجي، هو اختراق للثقافة والمجتمع وكل ما من شأنه أن يساعد أفراد المجتمع على التكيف مع مستجدات العصر.

وينجز أفضل استثمار للخيرات لصالح الإنسان يعد اختراقاً إذا لم يوافق صورة المجتمع النموذجية التي سبقت الإشارة إليها، وتمتزج في هذه الصورة معايير مستمدة من العادات والتقاليد الاجتماعية والعشائرية تارة وجملة من المعايير المستمدة من الفهم المتداول تارة أخرى.

تتحدث العديد من اللغات الأجنبية كاللغة الفرنسية وغيرها من اللغات عن طريق المضاربة في العقارات، والاتجار بالعملة الأجنبية في السوق السوداء، وتهريب الأموال وقروض البنوك بلا ضمانات والرشوة والفساد كوسيلة للتحايل على القانون، وقيم الاستهلاك ومظاهر البذخ والترف في القصور الجديدة وعلى شواطئ البحار.

وغالباً يوجد هناك الجوانب التي تأخذ على مسؤليتها تعميق عمليات التواصل مع الآخر ما يسوّغ مساراتها في دعوتها المستمرة لضرورة التحرر من القيود التي تحول دون عملية التطور، والتحرر من العقد النفسية والتاريخية والاجتماعية، ويجد أنصار هذا الرأي أنه لم يكن للغرب أن يأخذ بمسارات التطور إلا بعد أن حرر نفسه من القيود التي تحول دون انطلاقه.

و في مثل هذه الظروف يصبح التأقلم مع المشكلات الثقافية صعباً بشكل كبير جداً، ذلك بسبب تعدد الأساليب التي يمكن استخدامها في الحكم على صلاحية أنماط السلوك التي يمكن أن تنتشر في المجتمع إلى درجة أصبح فيها الطابع الذاتي يغلب على هذه المعايير، لغياب الموضوعية المستقلة عن تجارب الفاعلين باسم الاختراق الثقافي.

الأمر الذي يبين سعة التباين في أشكال السلوك في مختلف السمات الثقافية، كذلك تعدد أشكاله إلى حد التناقض الثقافي الكبير في بعض المواقف والآراء ذات الطابع الثقافي، إضافة إلى مجموعة من الاتجاهات الثقافية نحو مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، إذّ تشكل هذه الظروف مجموعة من العوامل الأساسية التي تساعد في عملية الاختراق الثقافي وتيسر مظاهره، جميعها نحو أساليب ذات طوابع ثقافية.

المصدر: موجز تاريخ العالم، هربورت جورج ويلز، 2005آثار البلاد وأخبار العباد، أبو يحيى القزويني، 2016تاريخ واسط، أسلم بن سهل الرازيدول العالم حقائق وأرقام، محمد الجابري


شارك المقالة: