تاريخ الغزو الصليبي في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


الغزو الصليبي في العصر العباسي:

بعد أن تقدّم المسلمون في البلاد التي كانت تخضع للروم سواء في بلاد الشام أم في الشمال الإفريقي أم في الأندلس والتي تنتشر فيها النصرانية تحت تأثير حُكامِها سواء أكانوا من الرومان أم من البيزنطيين، وبعد أن بدأت الفتوحات الإسلامية تتوسّع كل يوم وتضمّ أرضاً جديدةً إلى ديار الإسلام، وبعد أن أحسّ النصارى بالهزيمة وخيبة الأمل بصورة لم يكونوا
يتوقعونها.

وشعروا بقوة المسلمين والروح المعنوية العالية التي يحملونها بشكل ما اعتادوا أن يروه، ولم يكونوا يحلمون به، بعد كل هذه آثرت النصرانية الهدوء ومحاولة الدفاع عن مواقعها التي تراجعت إليها في بلاد آسيا الصغرى، والقيام أحياناً ببعض الغارات لا بقصد الهجوم المُعاكس ورد الفعل لاسترجاع ما فقدته، ودحر المسلمين عمّا أخذوه وإنما بغاية إثبات الوجود كي لا يندفع المسلمون بقوة أكبر لظنهم من أن إمامهم قد انتهى، أو ليبقوا على تخوّفٍ وحذر من رد فعل فلا ينطلقون.

هجمات النصرانية على المسلمين:

وانتظرت النصرانية مرور موجة الاندفاع الإسلامي كي تهدأ حتى تقوم برد الفعل، وفعلاً فقد توقّفت الفتوحات الإسلامية، وبدأت الخلافات تظهر بين المسلمين، وبدأ الضعف يبدو عليهم هنا وهناك فحاولت النصرانية عندها أن تقوم برد الفعل.

وإذا كانت النصرانية مُنقسمةً أيضاً بعضها على بعض فالأرثوذكس في بيزنطة ومقرّهم القسطنطينية على خلافٍ مع الكاثوليك الذين يخضعون للبابا ومقرّهم روما، ويُقيم البابا في حاضرته الفاتيكان إلا أن كلا الفريقين يحاول القيام برد الفعل من جهته، فالبيزنطيون يُحاولون التقدّم في المشرق على حين تحاول روما التقدّم في الأندلس، وكلاهما ُيساهم أيضاً بحرب المسلمين في جزر البحر الأبيض المتوسط التي تخضع للنفوذ الإسلامي.

العلاقات بين البيزنطيين وروما:

عندما شعر البيزنطيين أن العباسيين ضَعُف كاحلهم، وتجزأت الإمارات عنهم، وانبرى بعضها يُقاتل بعضاً رأت أن الجوّ أصبح مُلائماً لردّ الفعل لكنها أحسّت بهذا الوقت بقوة جديدة تتقدم من المشرق، وتحمل روحاً قتالية كبيرة، وتندفع باسم الإسلام نحو الغرب تلك هي مجموعة السلاجقة الأتراك، وعندما أرادت بيزنطة أن تتصدّى لهم وتقف في وجههم هُزمت هزيمة منكرةً في (ملا ذكرت) عام (463 هجري).

وهذا ما جعل أمبراطور بيزنطة ميخائيل السابع يتجه نحو روما لتصفية الجوّ بين الكنيستين المختلفتين، أو يعقد اتفاقاً ودّياً بينهما، ويستغل مناسبة انتخاب الكاردينال (هيلد براند)، بابا في روما، وهو الذي اتخذ لقب البابا (غريغوري السابع)، فأرسل الأمبراطور عام (466 هجري)، وفداً للتهنئة، وكلّف الوفد بأن يُعلن عن رغبة الأمبراطور في توثيق الصلة بين روما وبيزنطة، ووافق البابا الجديد.

وأرسل وفداً برئاسة بطريرك البندقية إلى القسطنطينية يحمل شكراً للتهنئة وإشارةً للرغبة نفسها من قبله، وإن كان البابا الجديد ينوي في قرارة نفسه أن يبعث بقواتٍ له إلى آسيا الصغرى لطرد السلاجقة المسلمين الذين كثرت غاراتهم على الحجاج النصارى إلى بيت المقدس، وحالت دون وصولهم إلى هدفهم عن طريق البر على زعمه ‏وفي الوقت نفسه تتوطد أقدامه في آسيا الصغرى، ويقوى نفوذه، وينهي الخلاف مع بيزنطة بالقضاء عليها.

وأراد أيضاً أن تزداد دعايته في أوربا كُلِها ليُطيعه الناس بالقيام بعمله هذا لذا بدأ يحرض على قتال المسلمين في الأندلس، ودعا إلى الهجوم عليهم، وتمت الهجمات النصرانية على المسلمين في الأندلس ودعمتها أوربا بكل ثقلها ومن خلفها البابا، ولكن هذا لم يُفِدهُ كثيراً إذ تقدّم المُرابطون من المغرب، واجتاز أميرهم يوسف بن تاشفين بنفسه بحر الزقاق.

وانتقل إلى العدوة الأندلسية، وسار المسلمون معه لحرب النصارى فانتصروا عليهم انتصاراً كبيراً في معركة الزلاقة عام (479 هجري)، وبذلك فإن مُحاولة التفاهم بين روما وبيزنطة لم تفد النصارى شيئاً. عادت العلاقات فساءت بين الكنيستين وخاصةً بعد وفاة البابا (غريغوري السابع) عام (480 هجري)، ودبَّ الخلاف بينهما، وتحالف ملك ألمانيا المُعادي للبابا مع أمبراطور بيزنطة ضِد روما.

وفي عام (481 هجري)، اختير إيربان الثاني بابا لروما، وقد زاد نفوذه كثيراً وأصبح السيّد المُطاع في أوربا، ومع أن النصارى في الأندلس قد بدأ وضعهم يتحسّن فقد استولوا على وشقة عام (489 هجري)، وعلى مناطق ثانية، وبذل إيربان الثاني كل ما يستطيع من دعم إلا أنه وجد أن يغزو المسلمين في عقر دارهم أو في قلب بلادهم فإن الإصابة في القلب أشدّ وقعاً وأكثر أثراً، وإذا ما نجح فإن الأطراف بطبيعة الحال تتداعى وتتساقط .

دعا البابا إيربان الثاني إلى اجتماع لرجال الدين يعقد في (كليرمونت) بين (18 – 28)، تشرين الثاني عام (1095 ميلادي)، ويوافق (1 – 10)، ذي الحجة (489 هجري)، وعقد المؤتمر في الموعد المحدد وحضره ثلاثمائة مندوب، ودارت المُناقشات حول الأمور الكنسية، وقبل اختتام المؤتمر بيوم واحد يوم الثلاثاء (9)، ذي الحجة ألقى البابا خطبة بيّن فيها الهدف الأساسي من المؤتمر وهو الحرب الصليبية.

ودعا الأُمراء في أوربا إلى نبذ الخلاف فيما بينهم وتوجيه ذلك الجهد لحرب المسلمين، والاستيلاء على بلادهم وامتلاكها وتوارثها مُحتجاً بقصة الحُجاج إلى بيت المقدس والحيلولة دون وصولهم إلى مبتغاهم، وقد اتخذت هذه القضية ذريعة لكل من يُريد أن يزيد من نفوذه في أوربا، وشجع الأساقفة على القيام بدورهم في هذا العمل المقدس، وخاطب الجمهور بأن من يموت منهم هناك فله المجد إذ سيموت في المكان الذي مات فيه يسوع.

وقدّم للحضور صليب الخلاص ليحملوه على كواهلهم أثناء حركتهم، وقال: إن الكنيسة ستحمي أملاك كل غائب، وسيحلل البابا الأمراء، وكل إنسان من العقوبات الدنيوية المترتبة على الذنوب التي ارتكبت إذا ما اشتركوا بإخلاص في هذه الحرب، وأن على كل منطلق أن يحمل إشارة الصليب، وعليهم الاستعداد الذي يجب أن يكون تاماً في عيد العذراء (15)، آب من عام (1096 ميلادي)، الموافق لعام (490 هجري).‏

نتائج الحروب الصليبية على المسلمين:

بدأ البابا يتنفّل في مُدن أوربا يدعو إلى هذه الحرب الصليبية، وطلب من الأساقفة أن يُبشّروا بذلك، وقام بطرس الناسك بدور كبير في هذا المجال إذ لبس رداء الزهد، وسار حافياً يدعو إلى الحرب الصليبية، وساعد الجميع في هذه المهمة انتشار الفقر في ذلك العام، واجتياح السيول المُدمّرة عدة مناطق من أوربا. دعا البابا إلى اجتماع الجيوش في مدينة القسطنطينية، وكلف مندوباً عنه ليقودها وهو (أدهمار).

غير أن الجموع الشعبية التي انطلقت بدعوة بطرس الناسك قد سارت مُسرعةً كالسوائم لا يجمعها نظام، ولا يتولى قيادتها أحد، يدفعها الحقد، ويُسيّرها الطمع في النهب والأسلاب، وكان البابا يأمل من هذه الجموع أن تنتظر ليقودها مندوبه والعسكريون ليدخلوا جميعاً مدينة القسطنطينية. ولما رأى أمبراطور بيزنطة (الكسيوس)، هذه الجموع بهذه الصورة من الوحشية والفوضى وما ألحقته من خراب على طول الطريق التي سلكتها إلى القسطنطينية طلب منها أن تبقى خارج أسوار المدينة ريثما يصل بطرس الناسك.

في حين أنه هو الذي قد استبق وقام بطلب هذه القوات بسرعة لتقف في وجه السلاجقة، فلما وصل بطرس الناسك إلى القسطنطينية أكرمه ونصحه بالانتظار ريثما تصل إليهم جيوش الأمراء النظامية غير أن الحقد العارم والطمع والرغبة في النهب والأسلاب قد جعلها تتحرك نحو بلاد المسلمين، ولما لم تنج من اعتداءاتها البلدان الأوربية التي اجتازتها، كما لم تنج منها بلاد البيزنطيين فشكل طبيعي أن يعم الدمار والخراب كل أرض تطأها من البلدان الإسلامية.

وفعلاً كانت في مُنتهى الوحشية والإجرام، وارتكاب الجرائم، وانتهاك الحرمات، لم يسلم منها دارء ولا حقل، ولا إنسان، ولا حيوان، وتلتها جيوش الأمراء وكانت أقل فوضوية، ولكن لم تقل عن سابقتها سوءاً، ولم تختلف عنها فتكاً، وتوالت الحملات الصليبية، وأحرزت بعض النصر، وأسست إماراتٍ لها، واستقرّت بعض الوقت، ثم تحرّكت العاطفة عند المسلمين وبعض قادتهم فبدأوا يعملون لقتال الصليبيين، ولتوحيد جهود الأمة، وأخيراً تم النصر.

وأخرج الصليبيون من البلاد، وقد قاوم هؤلاء الدُخلاء المسلمون في الأندلس، والفاطميون، والسلاجقة، والأتابكة، والأيوبيون، والمماليك، وقد طردوا الصليبيين نهائياً من بلاد الشام ومصر، وجاء دور العثمانيين فأنهوا الأثر الصليبي في ليبيا وتونس والجزائر. ونتيجة الحروب الصليبية فقد سادت الفوضى، وعم الخوف، وزاد تفكك المسلمين وضعفهم في بداية الأمر حتى قيض الله لهم من جمع شملهم وخذل عدّوهم.

المصدر: ❞ كتاب الدولة العباسية ❝ مؤلفة محمود شاكر أبو فهر الجزء الثاني صفحة (31 – 35)❞ كتاب أطلس تاريخ الدولة العباسية ملون ❝ مؤلفة سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث❞ كتاب سلسلة تاريخ الأدب العربي العصر العباسي الأول ❝ مؤلفة شوقي ضيف❞ كتاب تاريخ الدولة العباسية 132-656هـ ❝ مؤلفة د.محمد سهيل طقوش


شارك المقالة: