تصدع الحقيقة كمشكلة اجتماعية

اقرأ في هذا المقال


يرفض علماء الاجتماع الرأي السائد بأن ما بعد الحقيقة هو ظاهرة اجتماعية جديدة غير مسبوقة، من خلال إظهار أن الحقيقة وما بعد الحقيقة يشتركان في نفس التكوين، وستقدم هذه المقالة فكرة نظرية الإجماع لتصدع الحقيقة كمشكلة اجتماعية، وينظر إلى الفرق بين ما بعد الحقيقة والأكاذيب والهراء، ويقترح الأسباب الكامنة وراء الانشغال الحالي بما بعد الحقيقة.

تصدع الحقيقة كمشكلة اجتماعية

يركز علماء الاجتماع على نظرية الإجماع المؤثرة في تصدع الحقيقة ليشير إلى أن الحقيقة وما بعد الحقيقة لديهما قواسم مشتركة أكثر مما يُفترض عمومًا، وتطرح نظرية الإجماع لما بعد الحقيقة، ثلاث طرق لإضعاف التأثير المدمر المحتمل لما بعد الحقيقة على المجتمع.

وهذا هو عصر تصدع الحقيقة حيث أصبح هذا المفهوم شائعًا بشكل كبير في الأوساط الإعلامية والأكاديمية، وهو ما يفسر جزئيًا العدد غير المتناسب من الأدبيات المنشورة حول هذه الظاهرة الاجتماعية في السنوات الأخيرة، وذلك لأسباب وجيهة فمن المستحيل الهروب من النداء المستمر لما بعد الحقيقة أو الاتهامات الرافضة للأخبار الكاذبة من قبل أولئك الذين يعيشون حياتهم في نظر العامة.

وبالنظر إلى الأهمية المتزايدة لما بعد الحقيقة والأخبار المزيفة في الحياة الاجتماعية اليوم يمكن أن يغفر المرء للاعتقاد بأن هذه مفاهيم جديدة وأصلية وأعراض لوباء اجتماعي حالي غير مسبوق وخطير، وسيركز علماء الاجتماع حصريًا على فكرة تصدع الحقيقة وما بعد الحقيقة مع إشارات عابرة فقط إلى الأخبار المزيفة.

فبينما انتقد علماء الاجتماع ما بعد الحقيقة وخاصة استغلالها في بعض الأحيان تم رفض الادعاء بأن المجتمع يواجه ظاهرة اجتماعية جديدة، وربما الأمر الأكثر إثارة للجدل أن هذه دراسات علماء الاجتماع ترفض الانقسام الثنائي الشائع في الخطاب السياسي المعاصر بين تصدع الحقيقة وما بعد الحقيقة، من خلال إظهار أن الحقيقة وما بعد الحقيقة يشتركان في نفس التكوين، وسيقدمون فكرة نظرية الإجماع لتصدع الحقيقة الاجتماعية، وأخيرًا بينما لا يمكن القضاء على ما بعد الحقيقة، سيتم اقتراح طرق لتقليل تأثير تصدع الحقيقة.

 تصدع الحقيقة والأكاذيب والهراء

يعتبر تصدع الحقيقة مفهوم غامض، وفي محاولة لتحقيق بعض الوضوح وتجنب سوء الفهم المحتمل، سيتم البدأ بشرح البادئة في متبوعًا بتحليل لتميز  مقارنة بمفهومين آخرين وثيق الصلة بالأكاذيب والهراء.

هناك اختلاف جوهري بين مفاهيم مثل الحقيقة، وبالتالي يمكن التخلص منها بأمان، بدلاً من مجرد الإشارة إلى الوقت بعد موقف أو حدث معين كما هو الحال في فترة ما بعد الحرب أو ما بعد المباراة فإن البادئة في ما بعد الحقيقة لها معنى أشبه بالانتماء إلى وقت محدد وأصبح المفهوم غير مهم أو غير ذي صلة، ويبدو أن هذا الفارق الدقيق نشأ في منتصف القرن العشرين، فإن البادئة ليست إشارة ترتيب زمني لشيء يحدث بعد الحقيقة، بل هي بيان حول حقيقة أن الحقيقة لم تعد ضرورية، وأن الحقيقة قد عفا عليها الزمن وأن الحقيقة قد أصبحت كذلك، وحل محله واقع جديد.

ويقدم صفة محددة على أنها تتعلق أو تشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من نداءات العاطفة والمعتقدات الشخصية، وهذا التعريف غير صحيح وهو نقطة انطلاق مفيدة للتحليل المفاهيمي لما بعد الحقيقة، ولكن هناك ما هو أكثر من ما بعد الحقيقة مما يقترحه هذا التعريف، ويركز تعريف مكتب التدقيق الداخلي على الطبيعة الذاتية لما بعد الحقيقة على النقيض من الطبيعة الموضوعية للحقيقة، والتي قد تكون مضللة، في حين أن الذاتية هي سمة مهمة لما بعد الحقيقة، إلا أن هذه ليست بالضرورة صفتها الأساسية أو المميزة، من أجل معرفة ما الذي يجعل ما بعد الحقيقة مفهومًا سياسيًا مزعجًا.

ووجد علماء الاجتماع إنه يمكن أن يتم رؤية الفرق بين ما بعد الحقيقة ومجرد الكذب في ضوء ما تم الكشف عنه لاحقًا، والذي يثير للقلق، وقد يتطلب الأمر جهدًا هائلاً من خداع الذات أو البراعة للدفاع عن هذا الموقف بأمانة ونزاهة،

والهدف من قول الكذبة هو أن الكذاب يقبل أن هناك حقيقة، ويعرف ما هي الحقيقة لكنه يقرر سرد قصة مختلفة، وتشير الكذبة إلى حقائق محددة لها إحداثيات مكانية وزمانية دقيقة، لذلك كما يشير علماء الاجتماع يكرم الكذاب الحقيقة بإنكارها، وهذا ما تفعله مشكلة تصدع الحقيقة فهي لا تنكر أو تشكك في حقائق معينة فحسب ولكنها تهدف إلى تقويض البنية التحتية النظرية التي تجعل من الممكن إجراء محادثة حول الحقيقة.

وبهذا المعنى فإن تصدع الحقيقة كمشكلة اجتماعية هي مشابهة لما ذكره علماء الاجتماع والذي يسمي الظلم التأويلي، والذي يشير إلى تلك الحالات التي يكون فيها شخص ما غير قادر على فهم تجربة بسبب عيوب ضارة في الموارد المشتركة للتفسير الاجتماعي أو بعبارة أخرى عندما يتضرر شخص ما بنوع من الفجوة في الفهم الجماعي، مما يجعل تجارب المرء غير مفهومة.

ويجب أيضًا عدم الخلط بين تصدع الحقيقة ومفهوم الهراء، إذ يسلط عالم الاجتماع هاري فرانكفورت عام 2005 الضوء على الطبيعة الآلية للهراء، ومشيرًا إلى أن الهراء هو فن الإقناع، على عكس الكاذب فإن الهراء يجسد اللامبالاة تجاه حقيقة الأشياء لأنهم لا يهتمون بالحقيقة، وبهذا المعنى الهراء أقرب إلى ما بعد الحقيقة منه إلى الكذب، لكن لا يزال هناك فرق مهم، بينما يختار المتشائمون تجاهل الحقيقة فإن دعاة ما بعد الحقيقة هم أكثر مراوغة.

فهم يعملون في تخريب الحقيقة، في حين أن المتشائمين لا يحترمون الحقيقة يشعر المتكلمون بعد الحقيقة بالتهديد من الحقيقة، وبالتالي يريدون تقويض الحقيقة أو إضعافها، ويجد المتشائمون أن الحقيقة غير مريحة لذا فهم يتحايلون عليها، على الرغم من أنهم لن يواجهوا مشكلة في اعتناق الحقيقة مرة أخرى، فإن اللحظة تخدمهم بشكل جيد، ويختلف القائمون بالتقصي عن الحقيقة وهدفهم هو نزع الشرعية عن الحقيقة، لأن هذه هي أفضل طريقة لنزع سلاح التهديد الذي تشكله الحقيقة لهم.

التعريف العملي لما بعد الحقيقة

وعلى أساس التمييز المفاهيمي بين تصدع الحقيقة كمشكلة اجتماعية والأكاذيب والهراء أقترح علماء الاجتماع التعريف العملي التالي لما بعد الحقيقة:

ما بعد الحقيقة هي استراتيجية متعمدة تهدف إلى خلق بيئة تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، حيث يتم تقويض الأطر النظرية من أجل جعل من المستحيل على شخص ما فهم حدث أو ظاهرة أو تجربة معينة، حيث يتم نزع الشرعية عن الحقيقة العلمية.

المصدر: علم المشكلات الاجتماعية، الدكتور معن خليل، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الاردن، 1998المشكلات الاجتماعية المعاصرة، مداخل نظرية، أساليب المواجهة، الدكتور عصام توفيق قمر،2000علم الاجتماع والمشكلات الاجتماعية، عدلي السمري ومحمد الجوهري، دار المعرفة الجامعية، القاهرة،1998الظاهرة الاجتماعية عند إميل دوركايم، طالب عبد الكريم،2012


شارك المقالة: