تنظيم الإنتاج في الأنثروبولوجيا الاقتصادية

اقرأ في هذا المقال


في هذا المقال سنتناول تنظيم الإنتاج في الأنثروبولوجيا الاقتصادية، وفنون وأساليب تنظيم الإنتاج في الأنثروبولوجيا الاقتصادية.

تنظيم الإنتاج في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

تتطلب بعض حالات التخصص الحقيقي، تنظيماً لقوة العمل حتى تستطيع تحقيق نجاحها، إلا أن مثل هذا التنظيم قد يوجد أيضاً في المجتمعات التي لا تعرف تقسيم العمل الحقيقي. ومن ثم يبدو هذا التنظيم مرتبطاً بأشكال معينة من التكنولوجيا. وهناك فنون أو أساليب يمكن أداؤها بواسطة فرد واحد يعمل مستقلاً. ومثل هذه الأساليب لا تتلاءم مع العمل الجماعي المنظم.

فعلى سبيل المثال يتعين على الصياد في شعب الإسكيمو أن يزحف نحو فريسته ما أمكنه ذلك حتى يستطيع أن يقترب منها بما يمكنه من استخدام قوسه، أو سهمه، أو حربته، أو حربة صيد السمك، دون أن يحدث إزعاجاً للحيوان فيفر منه. ومن الواضح أن مثل هذا النوع من الصيد، أو المطاردة الهادئة، الذي لا يزال قائماً، يمكن أداؤه على نحو فـردي بكفاءة أكبر، ذلك أن وجود الآخرين قد يؤدي إلى الإخفاق أكثر مما يؤدي إلى النجاح في الصيد.

وبنفس الطريقة نجد أن جماعة الإسكيمو قد تتوجه وذلك لتحقيق الصحبة في شكل جماعي لجمع الأطعمة البرية، لكن كل فرد في هذه الجماعة يعمل مستقلاً، ذلك لأنهم ليسوا بحاجة إلى تنسيق نشاطاتهم. ويكاد يكون صيد القظ والدب القطبي هو العمل الوحيد الذي يتخذ شكل الصيد الجماعي.

فنون وأساليب تنظيم الإنتاج في الأنثروبولوجيا الاقتصادية في بعض المجتمعات:

قد يتطلب تنظيم الإنتاج في الأنثروبولوجيا الاقتصادية فنون، أو أساليب أخرى، عملاً جماعياً منظماً على درجة عالية من التنظيم والتنسيق. والمثال البارز على ذلك هو صيد الجاموس عند هنود السهول، الذي غالباً كل إناث وذكور القبيلة القادرين جسمياً. وما أن يتم تحديد موقع قطيع الجاموس الكبير، حتى يبدأ الرجال في إقامة حظيرة محكمة يمتد مدخلها سياجان متلاقيان.

وعلى مقربة من الحظيرة تقام السياج القوية المنيعة، ولكن مع اتجاه هذا السياج نحو الخارج وميله للاتساع أو الانفراج، فإن مبنى الحظيرة يصبح أقل سمكاً. وخلال عملية البناء هذه يكون هناك حرص بالغ على عدم إزعاج أو تشتيت قطيع الجاموس، كما أن أى فرد سواء بممارسة الصيد الفردي أو أي نشاط آخر غير مرتبط بالعمل المشترك قد يخضع لعقاب قاس إذا ما تسبب في تشتيت الجاموس وإبعاده عن التطويق الذي يجري العمل فيه.

وعندما يكتمل بناء الحظيرة والسياج المتلاقية عليها تخرج جماعة من الناس لدفع قطيع الجاموس في اتجاه الحظيرة. وما أن يتحرك قطيع الجاموس بين الخطين المتلاقيين للسياج حتى نجد رجالاً آخرين ونساء وأطفالاً يقفون بعيداً عن الطريق، يحثون الجاموس على المضي إلى الأمام ويحاولون إبقاءها حتى لا تهرب من الأجزاء الضعيفة من السياج.

وإذا ما تم دفع قطيع الجاموس بنجاح فإنه ما يلبس أن يدخل إلى الحظيرة، حيث يقوم الرجال الواقفون خارج حلقة التطويق بذبح الحيوانات التي لا تستطيع الهروب. وما أن يتم الذبح حتى تقوم النساء بالحصول على جلد الجاموسة المذبوحة وتقطيع لحمها، حيث يقمن بإعداد قطع معينة من اللحم للاستهلاك المباشر وتجفيف الباقي لتخزينها وتناولها فيما بعد. ويقسم الطعام الذي يتم الحصول عليه بهذه الطريقة على كل الأسر التي تشترك في عملية الصيد.

ومن الواضح أن فنون وأساليب كهذه تحتاج إلى تنظيم جيد، وتوقيت دقيق. فعلى كل فرد أن ينسق جهوده مع الآخرين وإلا خاب المشروع. ويتحقق هذا التنسيق عند هنود السهول بوساطة رئيس صيد الجاموس، وبمساعدة أحد أجهزته المعاونة، حيث يقوم أفراد هذا الجهاز بدور الرسل والشرطة. ولضمان استمرار عملية الصيد، فإن كلمة رئيس صيد الجاموس تعد قانوناً، وأي فرد يخالفه يعاقب بحزم، وذلك بتجريده من ممتلكاته وجلده علناً.

وفي مجتمع تتصف فيه هذه الأساليب والفنون بالفردية إلى حد كبير، فإن تنظيم قوة العمل يكون ضئيلاً. فكل بالغ يؤدي ما يسعده ويرضيه ولا تحركه سوى الحاجات التي غالباً ما تكون ماسة جداً  إلى إنتاج ضرورات الحياة لنفسه ولمن يعولهم. ووحدة العمل هي الأسرة عادة (الزوج وزوجته وأطفالهما)، ودائماً ما تكون هذه الوحدة معتمدة على نفسها.

وفي فصول العام التي يكون فيها الطعام وفيراً ويسير المنال، قد تعيش أسر كثيرة بعضها مع بعض، وتتمتع بحركة نسبية من الانشغال بمشكلة الطعام. أما حينما يكون الطعام نادراً وصعب المنال، فإن كل أسرة أو كل مجموعة قليلة من الأسر تضم أسرتين أو ثلاث تقوم بالتقاط الطعام بمفردها، حيث تقضي معظم وقتها في الحصول على ما يكاد يكفيها.

وإذا ما كان لدى مجتمع معين من المجتمعات، حتى ولو مجرد أسلوب واحد يتطلب جهوداً منظمة تبذلها أسر مختلفة، فإن الحاجة إلى قوة عمل كبيرة ومنظمة تنظيماً دقيقاً، من شأنها أن تفرض على الفرد التزامات، علاوة على مسئولياته إزاء أسرته. فمن صالح الفرد أن يصبح عضواً في هذه الجماعة الكبيرة، وبالتالي فإن من الأمور التي تؤكد ولاءه وتعاونه مع هذه الجماعة أن يسهم في رفع زيادة إنتاجيتها.

ولدى هنود السهول مؤونة أكثر وفرة وانتظاماً من اللحوم والجلود بسبب الصيد الجماعي للجاموس، وتفوق هذه المؤونة تلك التي من الممكن الحصول عليها عن طريق الصيد الفردي. وتوجد أشكال مختلفة من تنظيم أو ترشيد الإنتاج في عدد من المجتمعات. ومثال ذلك أن صيادي الحصان في الفترة السوليترية خلال العصر الحجري القديم الأعلى كانوا يمارسون بالتأكيد صيداً منظماً على نحو يشبه إلى حد كبير ذلك الذي كان يمارسه هنود السهول.

وفي المجتمعات الحديثة نجد التكنولوجيا تتطلب قدراً أكبر من تنسيق وتنظيم العمل. فلكل فرد تقريباً مكان داخل قوة عمل تصل في كبرها إلى الحد الذي يصعب معه استيعابها ككل، أو فهم تفاصيل دينامياتها. ويبدو هذا التعقد واضحاً من خلال التطور الحديث الذي طرأ إلى الآلية، واختراع الآلات التي تستطيع أداء عمليات معينة بكفاءة أعلى وسرعة أكبر من العمال البشريين.

وإحدى النتائج المترتبة على الآلية إحداث البطالة بالنسبة للعمال ذوي المهارات التي تستطيع الآلات أداء أعمالهم بطريقة أفضل وسعر أرخص، والواقع أنه ليس من اليسير حل مشكلة إعادة إدماج هؤلاء العمال داخل قوة العمل، وبالتالي الحد من البطالة الناجمة عن التقدم التكنولوجي. وفي الدول النامية حيث دخلت الأساليب الصناعية بطريقة مفاجئة أكثر منها تطورية عبر فترة زمنية طويلة كما حدث في الدول الصناعية نجد أن هذه المشكلة توجد بشكل أكثر حدة ووضوحاً.

المصدر: محمد الجوهري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا، 2007محمد الجوهري، الأنثروبولوجيا الاجتماعية، 2004ابراهيم رزقانة، الأنثروبولوجيا، 1964كاظم سعد الدين، الأنثروبولوجيا المفهوم والتاريخ، 2010


شارك المقالة: