مفهوم الصحة والطب في الأنثروبولوجيا

اقرأ في هذا المقال


مفهوم الصحة والطب في الأنثروبولوجيا:

ماذا يعني أن يكون المرء بصحة جيدة؟ قد يبدو من الغريب طرح هذا السؤال، لكن الصحة ليست مفهوم عالمي فكل ثقافة تقدر جوانب مختلفة من الرفاهية، فمن منظور الأنثروبولوجيا قد يُنظر إلى مفهوم الصحة على أنها عيش المرء كل يوم مع ما يكفي من الطعام والماء، في حين أن التعريفات الأخرى للصحة قد لا تفعل ذلك بحيث تكون مبنية على خلوها من الأمراض أو المشاكل العاطفية، ومما يزيد الأمور تعقيدًا حقيقة أن كل ثقافة لها تفسير سببي مختلف للمرض، على سبيل المثال في اليونان القديمة الصحة كانت تعتبر نتاجًا لخلط غير متوازن أو سوائل جسدية.

ويعتقد الإغريق القدماء أن التفاعلات بين هؤلاء فسرت الاختلافات ليس فقط في الصحة، ولكن في العمر والجنس والميل العام، حيث يمكن أن تؤثر الأشياء المختلفة على توازن المزاج في جسم الشخص بما في ذلك المواد التي يعتقد أنها موجودة في الهواء، والتغيرات في النظام الغذائي، أو حتى درجة الحرارة والطقس، حيث كان الخلل في المزاج يعتقد أنها تسبب الأمراض ومشاكل المزاج والأمراض العقلية، إذ تدرك منظمة الصحة العالمية أن صحة الأفراد والمجتمعات تتأثر بالعديد من العوامل مثل المكان الذي يعيش فيه الفرد، وحالة البيئة، وعلم الوراثة، والدخل ومستوى التعليم، والعلاقات مع الأصدقاء والعائلة.

كما تشير الأبحاث التي أجرتها منظمة الصحة العالمية أن هذه الخصائص تلعب دورًا أكثر أهمية في التأثير على صحة البشر من أي دور آخر، بما في ذلك الحصول على الرعاية الصحية، لهذا السبب فإن علماء الأنثروبولوجيا المهتمين بالقضايا المتعلقة بالصحة والمرض يجب أن يستخدموا منظورًا كليًا واسع النطاق يأخذ في الاعتبار تأثير كل من علم الأحياء والحضارة، فالأنثروبولوجيا الطبية تخصص فرعي متميز ضمن تخصص الأنثروبولوجيا يحقق في صحة الإنسان وأنظمة الرعاية الصحية من منظور مقارن، مع الأخذ في الاعتبار مجموعة واسعة من الديناميكيات البيولوجية الثقافية التي تؤثر على رفاهية السكان.

دراسة علماء الأنثروبولوجيا الطبية الأسباب المتصورة للمرض بالإضافة إلى التقنيات والعلاجات المطورة في المجتمع لمعالجتها مخاوف صحية، وباستخدام النسبية الثقافية والنهج المقارن يسعى علماء الأنثروبولوجيا الطبية إلى فهم كيف أن الأفكار المتعلقة بالصحة والمرض والجسد هي نتاج اجتماعي وثقافي في سياقات معينة.

الأنثروبولوجيا والمنظور البيولوجي الثقافي:

يرى علماء الأنثروبولوجيا أن علم الأحياء التطوري هو مجال دراسة يبحث في الطرق التي تشكلت بها العمليات الطبيعية لتطور الحياة على الأرض، مما ينتج عنه تغيرات قابلة للقياس في السكان بمرور الوقت، والإنسان العاقل حالة خاصة في مناقشة التطور، فهو من الأنواع الشابة نسبيًا على الأرض منذ حوالي 195000 عام، وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو لفترة طويلة مقارنة بالحيوانات الأخرى فإن البشر قادمون جدد وقد تعرضوا لعمليات طبيعية كالاختيار والتكيف لوقت أقل من العديد من الكائنات الحية الأخرى.

وفي تلك الفترة الزمنية القصيرة، الإنسان قد غير أنماط الحياة بشكل كبير، فلقد تطور البشر الأوائل في إفريقيا وكان لديهم أسلوب حياة البحث عن العلف، حيث كانوا يعيشون في مجموعات صغيرة قائمة على الأقارب، واليوم  يعيش ملايين الأشخاص في مجتمعات زراعية مزدحمة وسريعة الخطى ومتقدمة تقنيًا، فمن ناحية منظور الأنثروبولوجيا البيولوجي الثقافي حدث هذا التغيير بسرعة، والحقيقة أن هذه التغييرات السريعة كانت ممكنة حتى تكشف أن أنماط حياة الإنسان هي ثقافة بيولوجية، ومنتجات للتفاعلات بين علم الأحياء والثقافة.

وهذا له العديد من الآثار لفهم صحة الإنسان، إذ يقترح علماء الأنثروبولوجيا نظرية الانتقاء الطبيعي حيث إنه يوجد في أي نوع مادي أو سلوكي معين الصفات التي تتكيف وتزيد من قدرة الأفراد على البقاء والتكاثر، وهذه الصفات التكيفية سوف تنتقل عبر الأجيال، حيث ساهمت العديد من السمات البشرية في بقاء المجتمعات البشرية المبكرة، على سبيل المثال القدرة على المشي والجري بكفاءة، حيث كانت مهمة بقاء الإنسان لآلاف السنين، ومع ذلك أدى التغيير الثقافي إلى أنماط حياة جديدة، فقد أصبحت خصائص بعض البشر غير قادرة على التكيف.

وباء السمنة الذي ظهر في جميع أنحاء العالم:

وأحد الأمثلة على ذلك هو وباء السمنة الذي ظهر في جميع أنحاء العالم، فبحسب مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، أكثر من ثلث سكان العالم يعانون من السمنة المفرطة، وتعتبر السمنة من أمراض الحضارة مما يعني أنها لم تكن موجودة في السكان البشريين في وقت مبكر، وباتباع نهج الأنثروبولوجيا من المنظور البيولوجي الثقافي والتطوري والحيوي لصحة الإنسان يمكن أن يتم سأل ما هي السمات المميزة لمجموعات العلف البشري المبكرة التي ربما شجعت على تراكم الدهون في جسم الإنسان.

وتأتي الإجابة من الأدلة على نقص الغذاء بين مجموعات العلف، ففي الواقع 47 في المائة من المجتمعات تعاني من نقص الغذاء مرة واحدة على الأقل كل عام، و24 في المائة أخرى تعاني من نقص كل عامين على الأقل، وعند أخذ ذلك في الاعتبار كانت قدرة الجسم على الاحتفاظ بالدهون مفيدة للبشر في الماضي، حيث يمكن للنساء اللواتي لديهن المزيد من الدهون في الجسم أن يلدن الأطفال الأصحاء وإرضاعهم رضاعة طبيعية، حتى في فترات ندرة الغذاء.

ومن الممكن أيضاً أن المرأة والرجال كانوا ينظرون إلى دهون الجسم على أنها علامة على الصحة والوصول إلى الموارد، واختيار شركاء جنسيين بناءً على هذه الخاصية، فإذا كان الأمر كذلك فقد ساهمت القوى البيولوجية والثقافية القوية إلى صفات جينية والتي أدت إلى التمثيل الغذائي الفعال وزيادة الدهون في الجسم، ومع تطور الزراعة أصبحت السعرات الحرارية أكثر سهولة لأن الكثير من الناس قد أصبحوا أكثر استقرارًا، والصفات التي كانت ذات يوم تكيفية أصبحت غير قادرة على التكيف.

وكان لهذه التغييرات الثقافية تأثير سلبي على الصحة في كثير من الناس، ففي بولينيزيا، على سبيل المثال كانت معدلات السمنة حوالي 15 في المائة في المجتمعات الزراعية التقليدية، لكنها ارتفعت إلى أكثر من 35 في المائة مع انتقال الناس إلى المدن، وهذا مثال على الثقافة الحيوية وطبيعة العديد من تحديات صحة الإنسان، ويمكن للزراعة أن تدعم عددًا أكبر من الناس لكل وحدة من الأرض، وفي الوقت نفسه المزارعون بحاجة للعيش في مستوطنات حضرية دائمة من أجل رعاية محاصيلهم.

وتوفر الزراعة المزيد من الغذاء بينما تتطلب أيضًا أن يكون لدى الناس أسر كبيرة للقيام بما يلزم لعمل المزرعة، وعلى مدار عدة آلاف من السنين أصبحت المجتمعات الزراعية بشكل متزايد مكتظة بالسكان، وكان لهذا آثار عديدة على البيئة المحلية مثل مشاكل التخلص من النفايات وصعوبة الوصول إلى المياه النظيفة، ومثال رئيسي على الآثار الصحية للانتقال إلى المستوطنات الحضرية هو مرض الكوليرا، وهو مرض ينتقل عن طريق المياه الملوثة ببراز الإنسان.

وتسببت الكوليرا التي تم اكتشافها لأول مرة في سكان المناطق الحضرية في الهند في وفاة عشرات الآلاف من الأشخاص عبر التاريخ وما زالت تهدد السكان اليوم، ولا سيما في البلدان النامية، حيث يكون الوصول إلى المياه النظيفة محدودًا، وفي الأماكن التي شهدت كوارث طبيعية من منظور تكيفي، يموت البشر من الأمراض المعدية لأنهم ليس لديهم مناعة ضدها، ويمكن أن تتراكم المناعة مع مرور الوقت لبعض الأمراض ولكن للأسف بعد ذلك تؤدي لوفاة العديد من السكان.

المصدر: محمد الجوهري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا، 2007محمد الجوهري، الأنثروبولوجيا الاجتماعية، 2004ابراهيم رزقانة، الأنثروبولوجيا، 1964كاظم سعد الدين، الأنثروبولوجيا المفهوم والتاريخ، 2010


شارك المقالة: