طبيعة الفقر في الأنثروبولوجيا الاجتماعية

اقرأ في هذا المقال


هل الفقر ظروف اقتصادية أم أسلوب للحياة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية؟ وهل الفقير يعاني من الإحساس بعدم الانتماء أو الولاء من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية؟ وأيضاً هل تتميز حياة الأسرة الفقيرة بعدم الخصوصية واللامبالاة في السلوك والتصرفات؟

هل الفقر ظرف اقتصادي أم أسلوب للحياة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية؟

تحت هذا العنوان المثير طرح علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية بعض ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لأبناء القرية لتتساءل هل هذه السمات وليدة الظروف الاقتصادية أم هو أسلوب للحياة؟ وقد يختلف البعض مع العلماء الأنثروبولوجيين في هذه الجزئية أو تلك، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل أن متغيرات الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي يعيشه هؤلاء الناس يخلق لديهم ثقافة خاصة، تعمل بالاستمرار على تحقيق تماسكها وترابطها واتصالها والانتقال من جيل إلى جيل.

ويلاحظ علماء الأنثروبولوجيا أن السمات السلوكية لدى الفقراء هي انعكاس لأساليب التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة، وهي الأساليب التي يتشكل من خلالها عالم الفقر المحدود فيزيقياً (مكانياً) واجتماعياً، مما يجعلهم بالتالي يكتسبون خبرات محدودة نسبياً في الأهداف والمواقف.

وهذه الخبرات المحدودة تمخضت عنها منظورات قاصرة ومبتسرة للعالم من حولهم، ومنها ومن خلالها يدركون خبراتهم ويصنفوها ويصدرون نحوها أحكاماً قيمية معينة. ويشعر الفقراء بالعجز والمقدرة السلبية في التأثير على مجريات حياتهم الشخصية، ولذلك فهم يعانون من مشاعر الإحباط واليأس والفشل والتشاؤمية.

وهذه السمات تظهر في أنماط سلوكهم وطرائق حياتهم وتعاملاتهم، ولكنها من جانب آخر تساعدهم على التكيف مع ظروف حياتهم القاسية، ومع مرور الوقت تشكل هذه الأنماط طريقة للحياة تميزهم عن غيرهم داخل البناء الثقافي للمجتمع.

أهم خصائص الفقراء من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية:

من أهم خصائص الفقراء من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي:

1- الشعور بالهامشية والاتكالية.

2- عدم الاستجابة الجيدة للضبط الاجتماعي بنوعيه الرسمي وغير الرسمي.

3- الانفعال السريع والاستجابة الوقتية للموقف.

4- عدم القدرة على تأجيل إشباع الدوافع الفردية.

5- عدم القدرة على التخطيط للمستقبل والإحساس بالاستسلام للجبرية.

6- يتميزون باللامبالاة وافتقار حياتهم إلى الخصوصية.

ومن خلال الشواهد الميدانية المتعمقة، وتكرار زيارات العلماء لأسر الدراسة، ولمجتمع الدراسة، اتضح تطابق السمات السابقة في جوانب كثيرة منها مع الواقع الفعلي والمعاشي للفقراء.

فالفقراء يميلون إلى الشراء بأجل، لذا فهناك العديد من المحلات و”الأكشاك” و “الدلالات”، يتم التعامل بينها وبين الأهالي بالشراء والبيع بأجل، وهذا يعود للمستوى المادي المنخفض للسكان في منطقة الدراسة. ومن ناحية أخرى يقدم التجار هذه التسهيلات لازدهار حركة البيع والشراء، والتي يعاني بسببها التجار في المدينة عامة ومجتمع الدراسة خاصة من حالة كساد وركود منذ فترة طويلة ويحاولون بهذا النوع من التعامل كسر حدة الأزمة وأن يستفيدوا من جانب ويفيدوا الآخرين من جانب آخر.

وهذا ما وقف عليه علماء الأنثروبولوجيا على مستوى المجتمع المحلي ولدى مجموعة الأسر المعنية بالدراسة المتعمقة، فالزوج الشاب في الأسرة التابعة لا مانع لديه من إرسال ابنته الصغيرة لشراء “علبة سجائر كاملة” من سيدة صاحبة “كشك” تقطن بجوارهم، ويطلب من ابنته أن تخبرها بإضافة ثمن العلبة على حسابه لديها. هذا مع تعرضه في هذا الوقت لفترة بطالة وارتدائه لملابس قديمة رثة هو وزوجته وأولاده، ولكن كل هذا لا يمنعه من شراء علبة سجائر كاملة لتزداد ديونه وليزداد فقراً.

والفقير يعاني من تكرار حالات البطالة بصورة مستمرة، وهذا يعكس لديه عدم القدرة على المثابرة على العمل وبذل الجهد ومحاولة رفع مستواه الإنتاجي والمعيشي عن طريق العمل المنتظم. ويبدو هذا بوضوح للسائر داخل منطقة الدراسة. فهو يرى الرجال وقد جلسوا داخل البيوت وسط زوجاتهم وأولادهم في أوقات الذروة بالنسبة لتواجدهم في أعمالهم. ويكثر جلوس الرجال على المقاهي وبجوار “الأكشاك والدكاكين” بصحبة الرفاق والأصدقاء. ولكل منهم في هذا الصدد منطقه وأسبابه التي تجعله يؤثر التغيب والبطالة عن العمل والكسب.

إحساس الفقير بعدم الانتماء أو الولاء من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية:

الفقير يعاني من الإحساس بعدم الانتماء أو الولاء من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية، فالابن الزوج في الحالة التاسعة يصف حالة الأسرة الفقيرة بأنها “كالشجرة بدون جذور”. وتبدو نظرة الفقير لواقعه مليئة بالتشاؤمية واليأس، فهو دائماً يردد أنه ليس أمامه من سبيل للثراء أو النجاح. فالفقراء ليس لديهم الإمكانيات المادية التي يبدأون بها طريق الثراء أو النجاح. إذ ليس لديهم العلم الذي يمكنهم من تحقيق ذلك دون مال.

وتبدو نظرة الفقير لمستقبله غير ذات أهمية وتتصف بالتشاؤمية وتفتقر إلى الطموح أو حتى مجرد الأمل في مستقبل أفضل. وتبدو في بعض جوانب شخصية الفقير نظرة حاقدة حاسدة للأثرياء فنرى الابن الزوج في الحالة التاسعة أيضاً يتهكم على الأثرياء، ويصفهم بأن الثراء يجعل منهم مناظر خادعة وواجهات مزيفة.

وقد يرتبط اكتساب الفقير للمهارات الفردية بالتوجيهات القيمية التي تشتمل عليها التنشئة الاجتماعية والتي تعمل على تدعيم فشله وسلبيته بعدم توجيهه نحو التعليم أو التدريب المهني المدرسي حتى يستطيع أن يواكب التطور التكنولوجي والصناعي والتخصص في العمل، وبالتالي يؤدي فشله في اكتساب هذه المهارات لأنه لم ينشأ على اكتسابها إلى فشله وتخلفه اقتصادياً ويعيش في حالة فقر مستمر.

عدم الخصوصية واللامبالاة في سلوك الفقراء من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية:

تتميز حياة الأسرة الفقيرة بعدم الخصوصية واللامبالاة في السلوك والتصرفات من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاجتماعية، هذه اللامبالاة التي قد تصل في سلوك بعض السيدات إلى عدم الحياء. فالتقارب المكاني والتلاصق الذي يبدو عليه شكل “العشش” البسيطة الصغيرة، قد يجعل كل قاطني “العشش” لا يشعرون ولا يدركون ما هو السلوك الأمثل للحياة وسط هذه البيئة وخاصة العلاقة بين الرجل والمرأة.

ولثقافة الفقر سماتها الظاهرة، والتي وقف عليها علماء الأنثروبولوجيا بتكرار جولاتهم في المنطقة، وزياراتهم المتكررة لحالات الدراسة المتعمقة، فتارة يشاهدوا وهم يسيروا في الطريق بعض الصغار يلعبون ويمرحون وقد تركت والدتهم أخاهم الصغير داخل حقيبة قديمة، اتخذتها كمهد للصغير، تضعه بداخلها وتتركه بجانب إخوته الصغار يلهون ويلعبون في الشارع أمام البيت.

فالفقير لا يدرب ولا يتعلم ولا يكتسب منذ الصغر أي سلوك أو طريقة للحياة تحتوي على قواعد أو أساسيات أو ثقافة سوى ثقافة الفقر، فمن أين له سواها وهو يعيش وسطها وفي السياق البيئي الذي نبتت وحفرت فيه عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية، فهذه السمات الثقافية تورث وتخلد من جيل إلى جيل.

ويرى أوسكار لويس أن الفقر يشل قدرة الفقير على المشاركة في الثقافة القومية. ويضيف أن ثقافة الفقر قد تتشابه داخل الحدود الإقليمية الواحدة فيما بين الريف والحضر، كما تتشابه أحياناً خارج هذه الحدود سواء كان ذلك في بناء الأسرة أو في طبيعة الروابط القرابية أو في نوع العلاقة بين الأزواج، وبينهم وبين الأبناء، وكذا في نسقهم القيمي. ويؤكد “أوسكار لويس” أن سلوك ومعتقدات وقيم الفقراء قد لا تتغير بل وقد تعوق التغيير بما في ذلك الإفادة من فرص العمل المتاحة.

المصدر: محمد الجوهري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا، 2007محمد الجوهري، الأنثروبولوجيا الاجتماعية، 2004ابراهيم رزقانة، الأنثروبولوجيا، 1964كاظم سعد الدين، الأنثروبولوجيا المفهوم والتاريخ، 2010


شارك المقالة: