فلسفة أدورنو في جدلية التنوير

اقرأ في هذا المقال


قبل فترة طويلة من ظهور ما بعد الحداثة على الموضة، كتب الفيلسوفان الألمانيان ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر أحد أكثر انتقادات الحداثة بحثًا والتي ظهرت بين المثقفين الأوروبيين التقدميين، حيث إنّ جدلية التنوير هي نتاج نفيهم في زمن الحرب.

فلسفة أدورنو في العلاقة بين التنوير والفكر لدى الأفراد:

كما ظهرت لأول مرة انتقادات أدورنو وهوركهايمر للحداثة على هيئة نسخ مصورة بعنوان شظايا فلسفية في عام 1944، وأصبح هذا العنوان هو العنوان الفرعي عندما نُشر الكتاب في عام 1947، حيث يبدأ كتابهم بتقييم قاتم للغرب الحديث وهو: “التنوير الذي يُفهم بأوسع معانيه على أنّه تقدم للفكر، وكان يهدف دائمًا إلى تحرير البشر من الخوف وتنصيبهم أسيادًا”.

ومع ذلك فإنّ الأرض المستنيرة بالكامل تشع تحت علامة انتصار الكارثة، فكيف يمكن أن يكون هذا كما يتساءل المؤلفون، وكيف يمكن للتقدم في العلوم الحديثة والطب والصناعة أن يعد بتحرير الناس من الجهل والمرض والعمل الوحشي المخدر للعقل، ومع ذلك يساعد في خلق عالم يبتلع فيه الناس عن طيب خاطر الأيديولوجية الفاشية، ويمارسون عن عمد الإبادة الجماعية، ويطورون بقوة أسلحة فتاكة الدمار الشامل؟ويجيبون أنّ العقل أصبح غير منطقي.

على الرغم من أنّهم يستشهدون بفرانسيس بيكون كمتحدث رئيسي لسبب آلي يصبح غير عقلاني، إلّا أنّ هوركهايمر وأدورنو لا يعتقدان أنّ العلم الحديث والعلموية هما الجانيان الوحيدان، حيث ينشأ ميل التقدم العقلاني ليصبح ارتدادًا غير منطقي قبل ذلك بكثير، وفي الواقع يستشهدون بكل من الكتب المقدسة العبرية والفلاسفة اليونانيين كمساهمين في النزعات الرجعية.

إذا كان هوركهايمر وأدورنو على حق فيجب أن يكون نقد الحداثة أيضًا نقدًا لما قبل الحداثة، ولا يمكن أن يكون التحول نحو ما بعد الحداثة مجرد عودة إلى ما قبل الحداثة، وإلّا فإنّ إخفاقات الحداثة ستستمر في مظهر جديد في ظل الظروف المعاصرة، ويحتاج المجتمع ككل إلى التغيير.

يعتقد هوركهايمر وأدورنو أنّ المجتمع والثقافة يشكلان كليًا تاريخيًا، بحيث لا ينفصل السعي وراء الحرية في المجتمع عن السعي وراء التنوير في الثقافة، وهناك جانب آخر لهذا وهو الافتقار إلى الحرية أو فقدانها في المجتمع، وذلك في الهياكل السياسية والاقتصادية والقانونية التي نعيش فيها، ويشير إلى فشل مصاحب في التنوير الثقافي، وفي الفلسفة والفنون والدين وما شابه ذلك، فمعسكرات الموت النازية ليست انحرافا، ولا أفلام الاستوديو الطائشة ليست ترفيه بريء، حيث كلاهما يشير إلى أنّ شيئًا أساسيًا قد حدث بشكل خاطئ في الغرب الحديث.

فلسفة أدورنو ونمط الهيمنة العمياء:

وفقًا لهوركهايمر وأدورنو فإنّ مصدر كارثة اليوم هو نمط من الهيمنة العمياء والهيمنة بالمعنى الثلاثي وهم:

1- هيمنة البشر على الطبيعة.

2- هيمنة الطبيعة داخل البشر.

3- في كل من هذين الشكلين من أشكال الهيمنة هيمنة بعض البشر على الآخرين.

ما يحفز مثل هذه الهيمنة الثلاثية هو الخوف غير المنطقي من المجهول بحيث يعتقد البشر أنّهم متحررين من الخوف عندما لا يكون هناك أي شيء مجهول، ولقد حدد هذا مسار إزالة الأسطورة، فالتنوير هو خوف أسطوري متطرف، وفي مجتمع غير حر تسعى ثقافته إلى تحقيق ما يسمى بالتقدم بغض النظر عن التكلفة، يتم دفع الآخر سواء كان بشريًا أو غير بشري جانبًا أو استغلاله أو تدميره.

قد تكون وسائل التدمير أكثر تعقيدًا في الغرب الحديث، وقد يكون الاستغلال أقل مباشرة من العبودية الصريحة، ولكن الهيمنة العمياء المدفوعة بالخوف مستمرة مع عواقب عالمية أكبر من أي وقت مضى، والمحرك المستهلك بالكامل الذي يقود هذه العملية هو اقتصاد رأسمالي دائم التوسع يغذيه البحث العلمي وأحدث التقنيات.

فلسفة أدورنو في ديالكتيك التنوير:

على عكس بعض التفسيرات لا يرفض هوركهايمر وأدورنو عصر التنوير في القرن الثامن عشر، كما أنّها لا تقدم سردًا شاملاً سلبيًا للانحدار التاريخي العالمي، وبدلاً من ذلك من خلال مزيج غير عادي للغاية من الحجة الفلسفية والتفكير الاجتماعي والتعليق الأدبي والثقافي، فإنّهم يبنون منظورًا مزدوجًا على الغرب الحديث كتكوين تاريخي، ويلخصون هذا المنظور المزدوج في أطروحتين مترابطتين وهما:

1- الأسطورة هي بالفعل تنوير.

2- التنوير يعود إلى الأساطير.

حيث تسمح لهم الأطروحة الأولى باقتراح أنّه على الرغم من إعلانها عن كونها أسطورية وعفا عليها الزمن من قبل قوى العلمنة، إلّا أنّ الطقوس القديمة والأديان والفلسفات ربما تكون قد ساهمت في عملية التنوير وربما لا يزال لديها شيء يستحق الإسهام فيه، بينما تسمح لهم الأطروحة الثانية بفضح الميول الأيديولوجية والمدمرة داخل قوى العلمنة الحديثة، ولكن دون إنكار أنّ هذه القوى تقدمية ومستنيرة أو أنّ المفاهيم القديمة التي حلت محلها كانت هي نفسها أيديولوجية ومدمرة.

يحدث خطأ جوهري في العديد من تفسيرات ديالكتيك التنوير، وذلك عندما يأخذ القراء مثل هذه الأطروحات على أنّها تعريفات نظرية للفئات غير المتغيرة بدلاً من الأحكام النقدية حول الميول التاريخية، فلا يقول المؤلفون أنّ الأسطورة هي بطبيعتها قوة تنوير، كما أنّهم لا يزعمون أنّ التنوير حتمًا يعود إلى الأساطير، ولكن في الواقع ما يجده أسطوريًا حقًا في كل من الأسطورة والتنوير هو فكرة أنّ التغيير الأساسي مستحيل، وتميز هذه المقاومة للتغيير كلاً من الأساطير القديمة عن القدر والتفاني الحديث للحقائق.

وفقًا لذلك في بناء ديالكتيك التنوير يهدف المؤلفون في نفس الوقت إلى تنفيذ تنوير ديالكتيكي للتنوير لا يختلف عن فينومينولوجيا الروح لهيجل، ويرتكز هذا المشروع على مفهومين هيجل وهما النفي الحتمي والتأمل الذاتي المفاهيمي، بحيث يشير النفي الحتمي (bestimmte Negation) إلى أنّ النقد الجوهري هو السبيل لانتزاع الحقيقة من الأيديولوجيا، والتنوير الديالكتيكي للتنوير يكشف عن كل صورة كنص، وإنّه يعلمنا أن نقرأ من ملامح الصورة الاعتراف بالزيف الذي يلغي قوته ويسلمه للحقيقة.

وبعيدًا عن هذا النفي الحتمي ومن خلاله فإنّ التنوير الديالكتيكي للتنوير يذكر أيضًا بأصل الفكر نفسه وهدفه، وهذا التذكر هو عمل المفهوم باعتباره انعكاسًا ذاتيًا للفكر (der Begriff als Selbstbesinnung des Denkens)، بحيث يكشف التأمل الذاتي المفاهيمي أنّ الفكر ينشأ من الاحتياجات والرغبات الجسدية التي تُنسى عندما يصبح الفكر مجرد أداة للحفاظ على الذات البشرية، كما تكشف أنّ هدف الفكر ليس مواصلة الهيمنة العمياء على الطبيعة والبشر بل الإشارة إلى المصالحة.

يستنتج أدورنو تفاصيل هذا المفهوم في محاضراته اللاحقة حول:

1- كانط (نقد كانط للعقل الخالص-Kant’s Critique of Pure Reason).

2- الأخلاق في عمله مشاكل الفلسفة الأخلاقية (Problems of Moral Philosophy).

3- الميتافيزيقا في عمله الميتافيزيقيا: المفهوم والمشاكل (Metaphysics: Concept and Problems).

4- في كتبه عن هوسرل لعمله ضد نظرية المعرفة: ميتاكريتيك (Against Epistemology: A Metacritique).

5- في كتبه عن هيجل لعمله هيجل: ثلاث دراسات (Hegel: Three Studies).

6- في كتبه عن هايدغر لعمله المصطلحات اللغوية المتخصصة (The Jargon of Authenticity).

المصدر: Adorno, T.W. & Horkheimer, M. Dialectic of Enlightenment. tr. Cumming, J. London: Verso, 1979.Adorno, T.W. Minima Moralia: Reflections from Damaged Life. tr. Jephcott, E.F.N. London: Verso, 1978.Theodor Adorno (1903—1969)Theodor Wiesengrund AdornoTheodor W. Adorno


شارك المقالة: