اقتباسات أدب الرسائل

اقرأ في هذا المقال


هينري ميلر_أنانيس

لا أستطيع أنْ أجوب الشوارع وأنا مبتئس، هذا لا يجوز، لديّ الكثير من العمل ولا أريد أنْ أُدمّر نفسي، ولا حتّى أصغر جزء مني، إنَّ كل ما لديّ نفيس وكنتُ أحاول أنْ أصونه، لأقدّمه هديَّةً إليك .
إنَّني هنا لا أجوب الشوارع كما كنت أفعل، ليس لدى الشوارع ما تقول لي، هذا أيضاً كان بمثابة إعطاء شيء من نفسي للعالم، بدل جذب العالم إلى داخلي، والآن أفكّر في غرفتي الصَّغيرة، الغرفة التي وفّرتِها لي، وأشتاق إلى العودة إليها، لكي أُكرّسَها للعمل. يبدو أنَّ العالم كله يبدو ملتحماً بكِ، فلماذا أخرج سعياً وراءه؟

لا تظني يا أناييس، أنَّ ما يدفعني إلى التصرُّف بيأس هو خوفي من أنْ أفقدكِ، إنَّه ليس الخوف، بل الرَّغبة في التمسُّك بك، إنَّ ذاتي الخائفة ماتت، تلك الذَّات كانت سلبيَّة، مُهمِلة، وغائبة عن الوعي، والرجل الذي أنا عليه الآن يقِظ وفعّال، إنَّه يقفز، ويُقاتل، ويرفض أنْ يُرخي قبضته، هناك فرق ألا ترين؟ الذَّات القديمة كانت ستنحلُّ وتذوي على السَّرير، أو ستسكر، أو تهيم على وجهها في الشَّوارع، أو تلجأ إلى صديق قديم، لم يعُد في استطاعتي أنْ أفعل هذه الأمور. هذه الأمور كلّها كانت تُخفِّف عني، تمكّنني من العويل ألماً ومعاناة، وربما كنتُ أرغم فيهما حينئذٍ، لا أريد أنْ أُعذِّب نفسي، سوف أضع نفسي تحت تصرّفك دائماً، وجهاً لوجه، بسرعة، ومباشرة، لم أسمح بأيِّ خطأ، بأيِّ حادث يتطور بسرعة إلى سوء فهم، لن أسمح لنباتٍ ضار واحد ينمو في هذه الحديقة التي نُعدّ، إنَّ الحياة قصيرة قِصراً مُرعباً لنُحقِّق فيها معاً رغباتنا كلِّها، يجب أنْ نُمسك بالزمن ونلوي عنقه، يجب أنْ نعيش كلٌ منا داخل الآخر.

ليتك تكونين معي على مدى أربع وعشرين ساعة، تراقبين كل إيماءاتي، تنامين معي، تأكلين معي، تعملين معي، هذه الأمور لا يمكن أنْ تحدث. عندما أكون بعيداً عنك أفكِّر فيك باستمرار، فذلك يُلوِّن كل ما أقول وأفعل. ليتكِ تعرفين كم أنا مُخلص لك، ليس فقط جسدياً، بل وعقليّاً، وأخلاقيّاً، وروحيّاً. لا شيء يُغويني هنا، لا شيء على الإطلاق. إنَّني منيع ضد نيويورك، وضد أصدقائي القُدامى، وضد الماضي، ضدَّ كل شيء. للمرَّة الأولى في حياتي أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيك. في استطاعتي أنْ أتخلّى عن كل شيء من دون أنْ أخشى الإرهاق أو الضياع. عندما كتبتُ في مقالتي بالأمس “لو أنِّي لم أذهب إلى أوروبا إلى آخره …” لم أكن أقصد أوروبا، بل أنتِ. لكنِّي لا أستطيع أنْ أجهر بهذا للعالم في مقالة. إنَّ أوروبا هي أنتِ، لقد استوليتِ عليّ، أنا المكسور وأنتِ التي جعلتني كاملاً، ولن أتداعى أبداً، وليس هناك أدنى قدر من الخطر من وقوع هذا، لكنِّي الآن أشدّ حساسيّة، وأكثر استجابة لأقل خطر. فإذا لاحقتكِ بجنون، وناشدتكِ أنْ تصغي، ووقفتُ خارج بابك وانتظرتكِ، فذلك ليس محاولة لإذلال نفسي. بالنسبة إليّ ليس هناك إذلال في هذا الكفاح للاحتفاظ بك، هذا فقط برهان على أنِّي على وعي تامٍ، ويقظة شديدة، وتوق، بل توقٌ عميقٌ ويأس لأجعلكِ تدركين أنَّ حبي العظيم لك شيء حقيقي وجميل إلى أقصى مدى. في السَّابق كنتُ أكيل لأيِّ امرأة الصّاع صاعين مقابل أيَّ ألم تُسببه لي، لكنِّي الآن أعلم أنَّ الألم هو نتيجة سلوكي أنا، أعلمُ أنه حالما يحدث أمر، أمر خاطئ، فإنَّ الخطأ هو خطأي أنا، إنَّني لا أشعر بالذَّنب، بل بمذلة عميقة في مواجهة حبي، إنَّني لا أشكّ فيكِ، يا أناييس بأيِّ صورة من الصور، لقد قدّمتِ لي كل البراهين التي يمكن لامرأة أنْ تقدّمها إلى رجل. أنا الذي ينبغي أنْ أتعلّم كيف أقبل هذا الحبّ وأصونه، لقد ارتكبت الكثير من الأخطاء الفادحة. وسأرتكب المزيد منها، دون شك، لكني لن أتراجع، يبدو أنَّ كل يوم يرفعني إلى مستوى أعلى، إلى الذُرى، اتركيني هناك، أتوسّل إليك.

إنني أتوق الآن إلى التمسُّك بالناس، والوقوف أمامهم والتحدُّث إليهم، وإقناعهم، أنَّ الأمر لم يعُد يتعلّق بالأدب، بل بحياتي، بحياتي معك، أشعر بهذا بقوَّة بحيث أنِّي واثقٌ من أنَّه يجب أنْ يُحَسّ، قد أُصبح أشدّ بساطة بكثير، كل كلمة يجب أنْ تحترق، الكلمات مملوءةٌ بدمي، بولَعِي بكِ، بنَهَمِي للحياة، بالمزيد من الحياة، الحياة الأبديَّة، لقد منحتي حياة، يا أناييس، أنتِ الشُعلة التي تشتعل داخلي، وأنا حارس الشُّعلة، أنا أيضاً لديّ مهمة مقدّسة.
آه، ألا ترين وتعرفين وتصدِّقين كل ما أكتب إليك ؟ أليس واضحاً وصحيحاً وعادلاً ؟ ألن تمكثي معي، في داخلي دائماً ؟ لقد صعدتُ من أعماقٍ سحيقةٍ لأعثر عليك إنَّ قولي إنِّي أحبك ليس كافياً، إنَّه أكثر بكثير، بكثير، اسبري أعماقي، أخرجي كل ما في داخلي. أشعر بأنِّي غنيٌ غِنى لا ينضب.


شارك المقالة: