الفلسفة الذرية في اليونان القديمة والفيلسوف ليوسيبوس

اقرأ في هذا المقال


من سمات أهمية الفلسفة اليونانية أنّه كان لا بد من تقديم العديد من الفلاسفة اليونانيين في العرض السابق للجوانب المختلفة للنزعة الذرية، وليس فقط الفكرة العامة للذرية ولكن أيضًا الطيف الكامل لأشكالها المختلفة التي نشأت في اليونان القديمة.

الذرية لدى اليونان القديمة:

في وقت مبكر من القرن الخامس قبل الميلاد تم العثور على الذرة بالمعنى الدقيق للكلمة لدى الفيلسوفان القديمان ليوسيبوس وديموقريطس، وذلك جنبًا إلى جنب مع الأشكال النوعية المختلفة للذرة أي تلك الخاصة بإمبيدوكليس (Empedocles)، وبناءً على عقيدة العناصر الأربعة وعقيدة أناكساجوراس (Anaxagoras)، مع العديد من الذرات المختلفة نوعيًا حيث توجد مواد مختلفة.

ومع ذلك على الرغم من بدايتها الناجحة لم تكتسب النظرية الذرية مكانة بارزة في الفكر اليوناني، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنّ أفلاطون وأرسطو لم يكونا راضين عن الحل الذري لمشاكل التغيير كحل عام، ولقد رفضوا اختزال كل الواقع بما في ذلك البشر إلى نظام لا يعرف شيئًا سوى الذرات المتحركة.

حتى فيما يتعلق بمشاكل العالم المادي يبدو أنّ الذرية لا تقدم تفسيرًا كافيًا، ولم يشرح الحقيقة الملحوظة أنّه على الرغم من التغييرات المستمرة استمر وجود ترتيب إجمالي لأشكال معينة، ولهذا السبب كان أرسطو مع أفلاطون مهتمين بمبدأ النظام أكثر من اهتمامه بالعناصر المادية.

في تحليله الخاص للتغيير الذي أدى إلى عقيدة شكل المادة رفض أرسطو صراحة فرضية ديموقريطس القائلة بأنّ الأجزاء المكونة في تفاعل كيميائي تحتفظ بهويتها، ووفقًا لأرسطو فإنّ العناصر التي تدخل في مركب مع بعضها البعض لا تبقى كما كانت ولكنها تصبح مركبًا، وعلى الرغم من وجود بعض الدلائل على أنّ الجسيمات الأصغر لعبت دورًا في نظرية أرسطو الكيميائية إلّا أنّها لم تكن بالتأكيد مهمة جدًا.

في غضون ذلك ظلت الأفكار الذرية معروفة في الفكر اليوناني، ولقد أولى خصومهم اهتمامًا كبيرًا لهم، وفي أوقات لاحقة كان هناك أيضًا عدد قليل من أتباع الذرية الديموقراطية مثل الملهم اليوناني أبيقور (341-279 قبل الميلاد)، والشاعر الروماني لوكريتيوس كاروس (95-55 قبل الميلاد) الذي من خلال قصيدته التعليمية الشهيرة (De rerum natura) عن طبيعة الأشياء أدخل الذرية إلى العالم اللاتيني.

الفلسفة الذرية بين اليونان القديمة والعلمية المعاصرة:

عند مقارنة الذرية اليونانية والنظريات الذرية الحديثة يجب أن نتذكر أنّه في الفكر اليوناني لا يزال العلم والفلسفة يشكلان وحدة، حيث كانت الذرية اليونانية مستوحاة من الرغبة في إيجاد حل لمشاكل القابلية للتغير والتعددية في الطبيعة بقدر ما كانت مستوحاة من الرغبة في تقديم تفسيرات علمية لظواهر معينة، في حين أنّه من الصحيح أنّ بعض أفكار علماء الذرة اليونانية يمكن اعتبارها بحق مقدمة لفيزياء لاحقة، فإنّ الأهمية الرئيسية للمذاهب الذرية القديمة للعلم الحديث لا تكمن في هذه التوقعات البدائية.

والأهم من ذلك بكثير هو محاولة أخذ التنوع والقابلية للتغير التي تم تمييزها من خلال الخبرة الحسية على محمل الجد، ومع فرصة التوفيق بينها وبين أطروحة بارمنيدس حول وحدة المادة وثباتها، ففي بحثه عن قوانين عالمية وغير قابلة للتغيير فإنّ العلم الحديث مستوحى إلى حد كبير من نفس فكرة بارمنيدس، لأنّ القوانين العالمية تفترض مسبقًا وحدة معينة في العالم المادي، ولا يمكن إنشاء القوانين غير القابلة للتغيير دون الافتراض المسبق بأنّ شيئًا غير قابل للتغيير يجب أن تكون مخفية وراء كل التغييرات.

على نفس المنوال بدون هذا الافتراض الأخير لن يكون للتجارب أي معنى على الإطلاق، لأنّه إذا كان تنوع التفاعلات التي تحدث في ظل ظروف مختلفة هو الكشف عن أي شيء، فيجب أن تكون ردود الفعل هذه تعبيرًا عن طبيعة ثابتة، كما يجب أن تشير الاختلافات إلى شيء ما حول ذلك يظل كما هو.

كان الإنجاز العظيم للفلاسفة اليونانيين إذن أنّهم اتخذوا نظرة عامة عن الطبيعة ككل مما جعل الموقف العلمي ممكنًا، وفي هذا الصدد ساهم كل من الأشكال الكمية والنوعية للذرة، حيث أنّ الكمية الذرية لفتت الانتباه إلى الجوانب الرياضية للمشكلة بينما النوعية الذرية إلى الملاحظة.

إنّ مقارنة الذرات اليونانية القديمة بالنزعة الذرية العلمية فقط على أساس المحتويات العلمية الخاصة بكل منهما ستؤدي بالتالي إلى إجحاف كبير بالنظرية الذرية اليونانية، حيث من شأنه في الواقع أن يسيء تقدير قيمته الرئيسية، وفي الواقع قد تأخذ مثل هذه المقارنة أيضًا وجهة نظر ضيقة جدًا للذرية العلمية الحديثة، والذي من شأنه أن يعني عدم الصلة الفلسفية لهذا الأخير.

ومع ذلك فقد ثبت هنا أنّ التطور اللاحق للنظرية الذرية العلمية قد أوضح العديد من المشكلات الفلسفية التي قسمت الذرة بالمعنى الدقيق للكلمة عن الأشكال الأخرى للذرة، ولذكر أمثلة قليلة فقط، فلقد أدى تطور النظرية الذرية العلمية إلى تعميق الرؤى البشرية في العلاقة بين الكل ومكوناته، وفي السمة النسبية للجسيمات النهائية، وفي بعض المشكلات المعرفية الأساسية.

هل الفلسفة الذرية قبل الفيلسوف ليوسيبوس؟

الفيلسوف ليوسيبوس (Leucippus) في القرن الخامس قبل الميلاد هو أقدم شخصية تم إثبات التزامها بالذرية بشكل جيد، وعادة ما يُنسب إليه اختراع النظرية الذرية، ووفقًا لملاحظة عابرة من قبل الجغرافي سترابو (strabo) بأنّ ذكر بوسيدونيوس (Posidonius) وهو الفيلسوف الرواقي الأول قبل الميلاد بأنّ الذرية اليونانية القديمة يمكن إرجاعها إلى شخصية معروفة باسم موسكوس (Moschus) أو موشوس من صيدا الذي عاش في وقت حروب طروادة.

أُعطي هذا التقرير مصداقية في القرن السابع عشر، فقد تتبع هنري مور (Henry More) الأفلاطوني في كامبريدج أصول النظرية الذرية القديمة عبر فيثاغورس وموشوس حتى موسى، ومع ذلك لا يبدو أنّ هذه النظرة ذات الدوافع اللاهوتية تدعي الكثير من الأدلة التاريخية.

في عام 1877 جادل تانيري (Tannéry) بأن حجج زينو إيليا حول القابلية للقسمة يجب أن تكون قد صيغت ردًا على بعض الفيثاغوريين الأوائل، وتستند وجهة نظر تانيري التي تم قبولها على نطاق واسع في أوائل القرن العشرين على الادعاء بأنّ إحدى مفارقات زينو حول إمكانية الحركة ستكون منطقية بشكل أفضل إذا كانت تهاجم أطروحة ذرية، وبالتالي فإنّ الفيثاغوريين الذين قيل إنّهم تحدثوا عن المونادات أو أرقام الوحدات يجب أن يكونوا ذريين من نوع ما.

تعرضت أطروحة تانيري لتحدي شامل منذ ذلك الحين فمعظم العلماء يعتبرون أنّ الذرة هي واحدة من عدد من المواقف التي تمت صياغتها ردًا على حجج بارمينيدس وزينو وذلك في النصف الأول من القرن الخامس، وفسر فيثاغورس من القرن الرابع إكفانتوس أحاديات فيثاغورس على أنّها أجسام غير قابلة للتجزئة، حيث قيل إنّه كان متعاطفًا مع الذرات من نوع مشابه لديموقريطس، ويُعتقد أنّ مناقشة أفلاطون لتكوين المواد الصلبة من الأسطح المستوية تستند إلى نظريات فيثاغورس من القرن الرابع.

المصدر: The Philosophy of Logical AtomismATOMISM IN ANCIENT MEDICAL HISTORYAtomismDemocritus (mid 5th–4th century BC)Atomism: Science or Philosophy?Ancient AtomismFurley, David J. Two Studies in the Greek Atomists, Princeton, NJ: Princeton University Press, 1967.Cornford, F.M. Plato and Parmenides: Parmenides’ Way of Truth and Plato’s Parmenides, translated with an introduction and a running commentary, London: Routledge, 1939.Furley, David J. The Greek Cosmologists vol 1: The Formation of the Atomic Theory and its Earliest Critics, Cambridge: Cambridge University Press, 1987.


شارك المقالة: