بمن أستجير من جورك؟

اقرأ في هذا المقال



يُعتبر مثل “بمن أستجير من جورك” من أشهر الأمثال العربية التي تُضرب في الظلم، ولعل من أشهر صور الجور هو ظلم الحكام وجورهم على رعيتهم، فالمرء يشتكي أمره في مظلمة ما إلى القاضي أو الحاكم ليفصل فيها، فماذا لو جار عليه الحاكم نفسه؟ وللمثل قصة غريبة، فيها من العبر ما يهذب الحكام قبل العامة، والقصة لإعرابي أتى معاوية بن أبي سفيان مستجيرًا من ظلم مروان ابن الحكم.

قصة مثل بمن أستجير من ظلمك؟

يُضرب مثل ” بمن أستجير من جورك” للإشارة إلى جور وظلم الحكام لرعيتهم، وأما قصته فهي مشهورة متقنة، فيها من العبر والدروس ما يهذب الحكام وولاة الأمر قبل عامة الناس، والحكاية لأعرابي جاء إلى معاوية بن أبي سفيان يستجير به من ظلم مروان ابن الحكم، إذ أتاه في يوم شديد الحر، فتقدم الأعرابي من مجلس معاوية بن أبي سفيان، فتأمله معاوية، وقال لمن يجالسونه: ما الذي يأتي برجل كهذا في يوم شديد الحرارة لا يتحمله أحد، والله لو كان سائلًا لأعطيته، ولو كان مستجيرًا لأجيرنّه.

حين دنا من خليفة المسلمين، قال له معاوية: ما حاجتك يا رجل؟ فأجابه الأعرابي: يا أمير المؤمنين، لقد جئتك مستجيرًا، فقد ظلمني وجار عليّ وإليك مروان بن الحكم، وأنشد عليه أبيات تقص قصته، وقال فيها:

معاوية ، يا ذا الفضل والحلم والعقل وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج – كلاك الله – عني فإنني لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ – هداك الله – حقي من الذي رماني بسهم كان أيسره قتلي.
وكنت أرجى عدله إن أتيته فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي
فطلقتها من جهد ما قد أصابني فهذا، أمير المؤمنين ، من العدل.

بعد ذلك قال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، لقد كانت لي زوجة، وهي سُعدى ابنة عمي، والله يعلم أني كنت لها محبًا وبها كلفًا، وكانت لي عونًا وسندًا أستعين بها على مصاعب الحياة والعيش، غير أنه أصابتنا سنة ذات قحط شديد، أذهبت ما معنا من مال، فأصبحت لا أملك شيئًا، ولما علم أبوها بسوء حالي أخذها مني وطردني، فذهبت إلى عاملك مروان بن الحكم؛ كي يردها إلي وينصفني من جور أبيها؛ فأحضر أباها وسأله: فقال ما أعرفه من قبل، فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى أن يحضرها بين يديه، ويسمع قولها؛ فليفعل.

أرسل مروان بن الحكم إلى سُعدى زوجة الأعرابي، ولما وقفت بين يديه، وقعت من نفسه موقع الإعجاب فصار خصمًا لي، وقام بحبسي في السجن كي أطلقها، ولما أبيت ورفضت، جعل رجاله يقومون بتعذيبي إلى أن طلقتها مرغمًا، وتركني في السجن، حتى انقضت أشهر العدة، وتزوجها ودخل بها، وأعطى أباها ألف دينار ومئة درهم كي يرضى.

استغرب معاوية بن أبي سفيان من جور واليه مروان بن الحكم وظلمه، ثم قال: والله، قد أتيتني بكلام ما سمعت مثيلًا له من قبل، ثم إنه أرسل رسالة لمروان بن الحكم يقول فيها: “قد بلغني أنك اعتديت على رعيتك، وانتهكت حرمة من حرم المسلمين، وتعديت حدود الدين، وينبغي لمن كان واليًا أن يغض بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاته”، فما إن قرأ مروان ما كتبه معاوية حتى ارتعدت فرائصه، فطلق سعدى في الحال، وبعثها إليه.

لما شاهد معاوية زوجة الأعرابي، وجدها امرأة غاية في الحسن والجمال، وقد قام بمخاطبتها فألفاها من أفصح النساء تفكيرًا وأكملهن عقلًا؛ فما كان منه إلا أن أعجب بها، حينها قال للأعرابي: إذا طلقتها أغنيتك عنها بثلاث جوار، ومع كل جارية لك ألف دينار، ولك من بيت المال كل سنة ما يكفيك، ويعينك عليهن، فلما سمع الأعرابي قول أمير المؤمنين شهق حتى ظن الجميع أنه مات، فقال معاوية ما بالك يا رجل؟ فردّ عليه الأعرابي قائلًا: شرّ بال، وأسوأ حال، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فبمن أستجير من جورك؟

أجاب الأعرابي معاوية قائلًا: يا أمير المؤمنين لو وهبتني الخلافة بالذي احتوته من مال، ما تركت سعدى ولا تخليت عنها، فقال له معاوية: ولكنك قد طلقتها، وكذلك طلقها مروان بن الحكم ، فلنخيرها، ونزوجها بمن تختار، فإن اختارتك رددناها إليك، وإن اختارت سواك زوجناها له، فانصاع الرجل لكلام معاوية ابن أبي سفيان وسلم أمره إلى الله، وانتظر أن يسمع رأي سعدى، فدعاها أمير المؤمنين وسألها عن رأيها، وقال لها: أيُ الأمور أحب إليك يا سعدى، أمير المؤمنين في عزه وماله، أم ابن الحكم في ظلمه وجوره، أم الأعرابي مع فقره وجوعه؟

لما سمعت سُعدى كلام معاوية، قامت بإنشاد هذين البيتين:

هذا وإن كان فقر وإضرار أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله وكل ذي درهم عندي ودينار

ثم قالت: يا أمير المؤمنين، قد عشت مع ابن عمي في السراء، ولست بناكرة للجميل، ولي معه صحبة قديمة، وأيام سعيدة، وهو أحق الناس بصحبتي، وأنا أحق الناس بالصبر على مصابه، فأعجب الأمير بمروءتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهم، وردها للأعرابي بعقد جديد.

لم يُضرب مثل بمن أستجير من جورك؟

يُضرب مثل “بمن أستجير من جورك؟” عند الإشارة إلى الجور الواقع من صاحب الجاه والسلطان على ضعيفي الحال بسلب حقوقهم واغتصابها، فإلى من يلجأ هؤلاء المظلومين الضعفاء؟ وبمن يستجيرون من السلطان الجائر؟ فهل يستجيرون من الرمضاء بالنار؟ أي أنهم يفرّون من ظالم إلى ظالم أكبر أوسع جاهًا وأكثر قدرة على التحكم بمصائرهم.

المصدر: الأمثال والحكم، محمد بن أبي بكر الرازي،2011أمثال وحكم،محمد ايت ايشو،2009الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة،حمزة بن حسن الأصفهاني،2000حدائق الحكمة"أقوال مأثورة من مدرسة الحياة"،نبيل أحمد الجزائري،2010


شارك المقالة: