تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها

اقرأ في هذا المقال


يُعدّ المثل واحدًا من أقدم الموروثات العربية والتي ما زالت تُستعمل حتى يومنا هذا، ويعود أصول بعضها إلى الجاهلية والعصور القديمة، وقد نالت الأمثال الشعبية اهتمامًا خاصًا عند الغرب والعرب على حد سواء، ونظرًا لأهميتها في الثقافة العربية، فقد بلغت عناية الأدباء العرب بها مبلغًا كبيرًا، وكان لها طابع مميز.

يُعتبر ضرب الأمثال، واحدًا من أكثر أشكال التعبير الشعبيّ انتشارًا، ولا تكاد تخلو منه أية ثقافة من ثقافات الأمم، حيث إنه يُمثل فكر الشعوب وكما أنه يعكس تصوراتها ومعتقداتها وعاداتها وأغلب مظاهر حياتها، في صور حية، وفي دلالات إنسانية شاملة، ويمكن أن نعتبره عصارة حكمة الشعوب وذاكرتها الباقية المتوقدة.

قصة مثل تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها:

لعل من أشهر الأمثال الفصحى القديمة والتي تسربت إلى اللغة الدارجة قول عامة الناس “تجوع الحرة ولا تأكل بثديها”، ومعنى المثل ومغزاه هو أن المرأة الفاضلة الشريفة لا ترتضي رخاء العيش والثروة من وراء تسخير جسدها سواء بالحلال أو الحرام.
حيث يرجع أصل هذا المثل إلى قصة “الحارث بن سليل الأسدي”، وقد كان صاحب مال وجاه وسيادة، وقيل إنه في أواخر أيامه قصد بيت صديق وحليف له هو: “علقمة بن خصفة الطائي”، ومكث عنده عدّة أيام، وقد لمح في الأثناء الزباء بنت علقمة وأسره جمالها وبهاؤها، فقصد والدها طالبًا خطبتها وقال: أتيتك خاطباً، وقد ينكح الخاطب ويدرك الطالب ويمنح الراغب، أجابه علقمة بما يطيب خاطره ووعده خيرًا: “أنت كفؤ كريم يقبل منك الصفو ويؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك”.
ثم أتى علقمة الطائي فأخبر زوجته بما أراد صاحبه، وراحت الأم بدورها لتحدث ابنتها فقالت لها: أي الرجال أحب إليك يا ابنتي؟ الكهل الجحجاح “وهو السيد السمح الكريم”، أم الفتى الوضاح؟ قالت: لا، بل الفتى الوضاح، فقالت الأم: إن الفتى يغيرك والشيخ يميرك، وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحديث السن الكثير المن، فأجابتها، يا أماه، إن الفتاة تحب الفتى حب الراعي لأنيق الكلا، قالت يا بنيتي إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، فأجابتها: “إن الشيخ يبلي شبابي ويدنس ثيابي ويشمت بي أترابي”.
غير أن الأم ما زالت تعيد الكلام على الزباء حتى غلبتها في آخر الأمر، وزوجتها للحارث على مهر كبير، فرحل بها إلى قومه، وللمرء أن يتوقع طبيعة العلاقة الزوجية بين فتاة تتوهج أنوثةً وشبابًا وفتوة، وبين شيخ عجوز أهلكه الدهر ووهن عظمه، وهو الشيء الذي حدث، فبينما هو ذات يوم جالس بفناء قومه وهي إلى جانبه، إذ أقبل شباب يتصارعون فيما بينهم، وتنبعث منهم حرارة الشباب والقوة، فتنفست الصعداء وانفجرت بالبكاء، فقال لها الحارث: “ما يبكيك؟”، فقالت: ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ؟ فقال لها: ثكلتك أمك، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أما وأبيك لرب غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها، فالحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك، فكان فراقهما قد خلّف مثلًا سائرًا تتدواله العامة “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها“.

ثم إن الحارث بعد أن أدرك أن زواجه بالزباء لم يكن إلا لحاجتها وحاجة أهلها، أمر بإلحاقها بأهلها وأنشد قائلًا:
تهزأت إن رأتني لابسا كبرا وغاية الناس بين الموت والكبر
فإن بقيت رأت الِشيب راغمة وفي التعرف ما يمضي من العمر
عني إليك فإني لا توافقني عور الكلام ولا شرب على كدر.
قصة الحارث والزباء ما هي إلا حلقة صغيرة واحدة من آلاف الحكايات التي رُويت عن الزواج غير المتوازن ولا المنسجم، الأمر الذي ينتج في الغالب من تفاوت الأعمار، وهو موضوع التفت حوله ثروة كبيرة من التراث الشعبي والأدبي في شتى أجزاء العالم، ولعل من أصدق الكلمات في هذا الصدد قول فرنسس بيكن، الأديب والمفكر الإنجليزي: الزوجة عشيقة للشباب وزميلة للكهل وممرضة للشيخ العجوز، وللألمان مثل سائر وساخر: “الموت يضحك عندما يسمع بزواج رجل عجوز”.
مع ما سبق غير أن تراثنا الشعبي يعج بكثير من الأمثال، والتي تنص بالنقيض من ذلك، ففي بعض البلدان تقول الأمثال: “شايب يدللني ولا شاب يبهذلني”، وهي بلا دون شك الروح العملية لأبناء تلك المناطق، وبعض العرب يحثون الناس على تزويج بناتهم فيقولون: قرد عود “عجوز” ولا قعود.
أخيرًا أذكّر أن مثل تجوع الحرة وﻻ تأكل بثدييها، يُقال في مواقف الصبر وحفظ الكرامة، والترفع عن المال غير المشروع، إذ أن الانسان في حياته يُبتلى بكثير من المواقف، منها ما هو سهل لين ومنها الصعبة، ففي أوقات الرخاء والعيش في بحبوحة قد لا يظهر معدن الانسان، ولا تعرف شدة صبرة على الظروف الصعبة، غير أن ما يظهر قوته وعزة نفسه وصلابة عوده، هو ما يتعرض له من صعوبات في تأمين ما يضمن له العيش الكريم دون أن يذل نفسه، ويوردها موار الهوان، والمثل لا ينطبق على النساء فقط، ولكنه يشمل الجنسين: الذكر والانثى، فالمرأة الحرة العفيفة ابنة الأصول المعروفة لا تضع نفسها في موضع يجلب الإهانة لها والعار لأهلها مهما كلفها ذلك من صبر وعناء ومشقة حينما تتعرض لظروف صعبة، وكذلك الرجل مهما بلغت به سوء الظروف لا يلجأ إلى الوسائل غير المشروعة في الكسب.

المصدر: كتاب الحكم والأمثال،محمد بن أبي بكر الرازي،مكتبة النور،2011أمثال وحكم،محمد ايت ايشو،2009حدائق الحكمة"أقوال مأثورة من مدرسة الحياة"،نبيل أحمد الجزائري،2010خزاتة الخيال في الآداب والحكم والمواعظ والمناظرات والتراجم والأمثال،كاتب غير محدد،2014،


شارك المقالة: