تَنَصَّرَت الأَشْرافُ مِن عَارِ لَطْمَةٍ

اقرأ في هذا المقال


كانَ آخِرُ ملوك الغَسَاسِنة، حكَمَ ستّ سنوات، وكان يحكم نصارى العَرَب الذينَ كانوا مُتَحالفين مع الرّومِ قبل الإسلام.

مَن هو جَبَلَة بن الأيهَمِ؟

صاحبُ هذه المَقولة هو جَبَلة بنُ الأيهَمِ بن جَبَلة بن الحارث بن أبي شَمَّر، وأُمَّهَ هي مارِيَّه ذات القِرطَين. كانَ من أشرافِ العربِ وأكثرهِم عطاءً، وكان من ملوكِ آل جَفنَة إحدى قبائل العرب النّصارى.

قِصّة الأمير الغَسّانِي مع ابن الخطّاب

ومِمَّا يُروى عن قِصَّتهِ أنَّ جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني لما أرادَ أنْ يُسْلِم، كتبَ إلى عمر بن الخطاب من الشام يُعلِمَه بذلك، ويَستأذِنَهُ في القدومِ عليه؛ فَفرِحَ بذلك عمر _ رضي الله عنه _ والمسلمون ، فكتب إليه الفاروق:” أنْ أقْدُم لكَ ما لنا، وعليك ما علينا”.

فيخرجُ جبلة من بلاده في أرضِ الشّامِ في خَمسِمائة فارس من قبيلتي( عَكّ وجفنة) ، فلمّا دنا واقتربَ من المدينة المنورة ألبَسَهُم الثّياب المُوشّاه والمنسوجة بالذَّهبِ والفِضّة ، ولِبسَ جَبَلة تَاجَهُ وفيه قِرطُ أمّهِ ماريّة، ويدخل المدينة المنورة فلم يَبقَ بها أحد ، إلا خرج ينظر إليه حتى النّساء والصِّبيان، فلمّا وصلَ إلى عمر بن الخطّابِ رَحَّبَ به وأدْنَى مَجلِسَه منه، ثمَّ أرادَ عمرُ الحجّ فخرج معه جَبَلة إلى مكة.

فبينما هو يطوفُ حولَ الكعبة، إذ وَطِئَ على إزَارهِ؛ أي على ثِيابهِ ، رجلٌ فقيرٌ من بني فُزَارة إحدى قبائلِ العرب كان يطوف حول الكعبة هو أيضاً، فَسقطَ الإزارُ عن جسَده، فالتفتَ إليه جَبلة مُغاضِباً ومُوبِّخاً، ثمَّ لَطَمهُ فَهشَّمَ أنفَه ، فقام الفُزارِيّ يشكوه إلى عمر بن الخطاب. يبعثُ الفاروق إليه في الحال يأتوا به على عُجالةٍ، فيقول: ما دَعَاكَ يا جَبَلة أنْ تلطمَ أخاكَ الفُزاريّ فَهشّمتَ أنفه! فقال: إنَّه وَطِيء إزاري فَحلّهُ وسقطَت عباءتي، ولولا حُرمة البيت الحرام لضربتُ الذي فيهِ عَيناه، أي رأسه. فقال له عمر : أمّا فقَدْ أقْرَرتَ ، فإمّا أنْ تُرضِيه وإلا أقْدّتَهُ منك، أي جعلتهُ يأخذُ حقّهُ منك؛ فقال: أيستَقِدُّ مني وأنا مَلكٌ وهو سُوقة، أي عبدٌ من العبيد. فقال عمر لجَبَلة : إنّه قدْ جَمَعكَ وإيّاهُ الإسلام ، فمَا تَفْضلَهُ بشيء إلا بالتّقوى والعافية ، يا ابن الأيهمِ نزواتُ العُنجهيّة، ورياحُ الجاهليّة قد دَفنَّاهَا، وأقَمْنَا فوقها صَرحَاً جديداً ، وتساوى النَّاس أحراراً لدينا وعبيداً؛ أرضِ الفتى لا بدَّ من إرضائه.

قال جَبلة: والله لقدْ رَجَوتُ أنْ أكون في الإسلام أعزَّ مِنّي في الجاهليّة، فقال عمر : دَعْ عنكَ هذا ،فإنّك إنْ لَمْ تُرضِ الرجل جعلتهُ يستقِدُّ منك، قال جَبلة : أتَنصَّر، أي أعود للنّصرانيّة، قال : إن تنصَّرتَ ضربتُ عُنُقك، واجتمع قومُ جَبلة وبنو فُزَارة فكادت تكون فتنة، فقال جبلة : ارْخِني وأجِّلني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ، قال: ذلك لك .

ولمّا هبطَ اللّيل، خرج جَبلة وأنصاره من مكَّة وسار حتى دخل القُسطنطينيّة على هرقل فَتنصّر ، وأقام عنده وأعْظَمَ هرقل قدوم جبلة ، وسُرَّ بذلك وأقْطَعهُ الأموال والبساتين والمَزارع.

فلمّا بعث عمر بن الخطاب رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، وأجابهُ إلى المُصالَحةِ على غيرِ الإسلام وأنْ يدفَع الجِزْيَة، ثُمَّ أراد أنْ يكتبَ جواباً لعمر على كِتابهِ الذي بعثهُ له، وقال للرسول : ألَقِيتَ ابن عمِّك هذا الذي بِبَلدنَا، يعني جَبَلة؛ الذي أتَانا راغباً في دِيننَا، قال: ما لَقيتهُ، قال: إذن إليه، ثمَّ عُدْ إليَّ أعطِكَ جواب كتابك .

ثمّ أمَرَ أنْ يُقَدّم الطعام، فَجِيءَ بهِ بأوانٍ من ذهبٍ وفِضَّة؛ فلمّا رأيتُ ذلك، قُلتُ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنِيةِ الذَّهب ، فقال: نعَم ولكن نَقِّ قلبَكَ من الدَّنَس ، ولا تُبَالي على ما جلست، ثمّ قلتُ له ويحَكَ، يا جَبلة ألا تسلم وقد عرَفْتَ الإسلام وفضلهُ قال: أبَعدَ ما كان منّي؟ قال: ذَرنِي من هذا، إنْ كُنتَ تَضمنُ لي أنْ يُزوجَني عمر ابنتهُ، ويولِّني الإمِرَة من بعدهِ رجعت إلى الإسلام ، قال : ضمنتُ لك التَّزويج، ولم أضمن لك الإمرة، فقال: إذاً لنْ أعود للإسلام.

ويَصِلُ رسول عمر إلى المدينة المنورة دار الخلافة، ويروي لعمر ما حدث، ويقولُ له:إنّي ضَمنتُ له التّزويجَ ولم أضمَن له الإِمْرَة ، فقال عمر: هَلّا ضمنتَ له الإمرة ، فإذا أفاءَ الله به إلى الإسلام ، قَضى عليه بحُكمهِ عز وجل، قال : ثمَّ جَهّزنِي عمر إلى هرقل، وأمَرني أنْ أضمن لجَبَلة ما اشترط به، فلمّا قَدِمتُ القُسطنطينية وجَدّتُ الناس مُنصَرفينَ من جنازته، فعلمتُ أنَّ الشَّقاء غَلبَ عليه في أمِّ الكتاب.

الخُلاصة في هذا المقال أنَّ المُساواة بِكُلِّ صُورهَا وألوانها هي الكفيلُ الوحيد لقُوةِ وتماسك الأوطان و البلدان ونظرةُ المساواة بين الناس دون النَّظر لمواقعهم ومراتبهم ومناصبهم وتَفاوتهِم الطَّبقيِّ في الغِنى والفقر. إنَّ هذا هو الضَّمان الوحيد لكي يبقى أيُّ قطرٍ وبلدٍ ووطن؛ لكي يبقى مُتماسكاً يَشدُّ بعضه بعضاً، وخصوصاً في أوقات الأزَماتِ والنّكبات والمِحَن .

دولةُ العدلِ التي أقَامها الإسلام يتساوى فيها أعزُّ الناس بالعبدِ والمملوكِ والصُّعلوكِ، ولمْ يندَم عُمر على تنَصّرِ الأميرِ الغَسّانِي، ولم يَقُلْ خسرتُ أميراً أو خسرتُ صاحب سلطة أو صاحبَ جاهٍ ومال؛ لأنَّ العدل هو أساس قيام الدُّول و المُجتمعات.

ويُذكَر أنَّ جَبلة بن الأيهمِ هذا، قد قال أبياتاً من الشّعرِ، أصبحت فيما بعد مثَلاً دارِجاً على ألسِنَةِ الناس؛ ومِمَّ قال:

تَنصَّرتِ الأشرافُ من عَارِ لَطْمةٍ …… وَمَا كانَ فِيها، لو صَبرتُ لها ضَرر.

فَيَا ليتَ أمّي لمْ تَلدنِي، وَليتَنِي …… رَجعتُ إلى القَولِ الذي قالهُ عُمر.

ويا ليتَنِي أرْعَى المَخاضَ بقَفرةٍ …… وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مُضَر.

ويا ليتَ لي بالشَّامِ أدنى مَعيشةٍ …… أُجَالِسُ قَومي ذَاهبَ السَّمعِ والبَصر.

أدِينُ بما دَانوا به من شَريعةٍ * وَقدْ يَصبِرُ العُودُ الكبير على الدَّبر.


شارك المقالة: