يسقط الرجال ويقومون، كأوراق الخريف، لكن تبقى أسماؤهم لا تموت أبداً

اقرأ في هذا المقال


كان مملوكاً يُباعُ في أسواقِ بغداد والشّام، ثُمَّ انتهى به الأمر أنْ أصبح أحد أهمّ سلاطين الدّولة الإسلامية. فكان يَتَّصِف بالشجاعة والإقدَام والدَّهاء والقوّة والكرم، وحبِّ الخير والإحسان إلى الفقراء، وإكرام العلماء وسماع نصائحهم والسُّكوت على مُخَاشَنتهِم له في النصح – كما كان يفعل معه، العِزّ بن عبدالسلام، والإمام النَّوَوي. ووُصِف بأنّه كان يَتنقّل في مَمالِكهِ، فلا يكاد يَشعر به عَسكره، إلّا وهو بينهم. وقيل عنه أنّه ما كان يتوقّف عن شيء لبلوغ غايته، وكان نجاحه يعتمد على تَنظيمهِ وسُرعته، وشجاعتهِ اللّامُتَناهية.

صاحب المقولة

الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البُنْدُقْدارِي الصالحي النجمي لقب بـأبي الفتوح. سلطانُ مصر والشام، ورابع سلاطين الدولة المملوكيّة، ومُؤسّسها الحقيقي. وُلِد بيبرس نحو عام 620 هجرية/ 1223م.

بدأ مملوكاً يباع في أسواق بغداد والشام وانتهى به الأمر كَأحَدِ أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط. لقّبهُ الملك الأيوبي” الصّالح أيوب” في دمشق بـ”ركن الدين”، وبعد وصوله للحكم لَقَّب نفسه” بالملك الظاهر”.

وقد اختُلِف في أصله، فبينما تذكر جميع المصادر العربية والمملوكية الأصلية؛ أنّه تُركيّ من القُبجَاق( كازاخستان حالياً)، واسمه بيبرس؛ وهو اسم تركي، مُؤلَّف من{” بي” أي أمير؛ و”برس” أي فهد}، فإنَّ بعض الباحثين المسلمين في العصر الحديث، يُشِيرون إلى أنّ مُؤرّخي العصر المملوكي من عرب ومماليك، كانوا يَعتبرون الشَّركَس من التُرك، وأنّهم كانوا يَنسِبون أيّ رَقِيق مَجلُوب من مناطق” القُوقاز والقَرم”، للقُبجَاق.

وذُكِر بأنّه وصل مدينة حَماة مع تاجر، وبِيعَ للملك” المنصور محمد” حاكم حماة، لكنّه لَمْ يُعجِبه، فأرجعهُ وذهب التَّاجر به إلى سوق الرَّقِيق بدمشق، وهو في الرابعة عشر من عمره، وباعهُ هناك بثمانمئة درهم، لكن الذي اشتراه أرجعه للتاجر لِعَيبٍ خَلقِيّ كان في إحدى عَينيه (مياه بيضاء)، فاشتراه الأمير” علاء الدين إيدكين البُندقدَاري”( صاحب الخَانقاه في بِركة الفيل بالسيدة زينب)؛ وبه سُمّي البُندقدَاري.

ثمَّ انتقل بعد مٌصادرة ممتلكات سَيّده علاء الدين إيدكين، إلى خدمة السلطان الأيوبي” الصالح نجم الدين أيوب”، في القاهرة؛ ثمّ أعتقهُ الملك الصالح؛ ومَنحهُ الإمارة فصار أميراً.

كان بيبرس ضخماً طويلاً ذا شخصية قوية، وصوته جَهوريّ، وعيناه زرقاوان، ويوجد بإحدى عينيه نقطة بيضاء، وقد يكون سبب زرقة عينيه أنَّ أصله كان مُختلطاً. وكان شعار دولته “الأسد” وقد نقش صورته على الدراهم.

سُطوع نجم بيبرس

برز بيبرس كقائد، عندما قاد جيشَ المماليك في معركة المنصورة ضِدَّ الصليبيين، في رمضان من عام 647 هجرية. فقد شَنَّ الفِرنجة هجوماً مُباغتاً على الجيش المصري؛ مِمّا تَسبَّب بمقتل قائد الجيش” فخر الدين بن الشيخ”، وارتبك الجيش وكادت أن تكون كَسرةً؛ إلا أنَّ خُطّة معركة أو” مصيدة المنصورة” التي رتبها بيبرس، القائد الجديد للمماليك الصالحية أو البحريّة، وبموافقة شجرة الدُّرّ التي كانت الحاكمة الفعلية لمصر في تلك الفترة بعد موت زوجها سلطان مصر الصالح أيوب. فقاد الهجوم المعاكس في تلك المعركة ضدَّ الفِرنج، وتسبَّبَ بنَكبتهِم الكبرى في المنصورة. التي أُسِرَ فيها الملك الفرنسي لويس التاسع، وحبسه في دار ابن لقمان.

بعد وفاة السلطان الصالح أيوب، استَدعَت” شجرة الدُّر” ابنه” توران شاه”، من حِصن كِيفا، ونَصَّبته سلطاناً على مصر ليقود الجيش المصري ضدّ القوات الصليبية الغازية. لكنْ ما إنْ انتهت الحرب، حتى بدأ توران شاه بمضايقة شجرة الدُّر، وظلَّ يطالبها بِرَدِّ أموال ومجوهرات والده، وفي نفس الوقت توعَّدَ وهدَّدَ مماليك أبيه واستَبعَدهم من المناصب، ووضع مكانهم أصحابه الذين أتوا معه من حصن كيفا. مما حدا بالمماليك الإسراع في قتله قبل خروج الفرنج من دُمياط، فقُتل بمشاركة بيبرس وفارس الدين أقطاي.

وبعد مقتل” توران شاه”، نصَّبَ المماليك شجرَةَ الدر سلطانةً باعتبارها أرملة السلطان الصالح أيوب، أما ابنه خليل فقد مات صغيراً، وطلبوا من الأمراء الأيوبيين في الشام الإعتراف بِسَلطنتها. فرفض أيّوبيّو الشام هذا التنصيب، لأن ذلك معناه نهاية دولتهم في مصر، وأيضاً لم يوافق الخليفة العباسي المُستَعصِم بالله في بغداد، الذي اعترض على ولاية امرأة. فتسلَّم السَّلطنة” عزّ الدين أيبك”، الذي تزوجها لكي يتمكن من الحُكم. ولكنَّ الأيوبيّين لم يوافقوا على ذلك وأرسل جيش إلى مصر بقيادة صاحب حلب ودمشق النّاصر يوسف لاحتلالها وتحريرها من المماليك، ولكنّهم هُزموا أمام المماليك، وفرّوا هاربين إلى الشام مِمّا مَكَّن المماليك من تثبيت حكمهم في مصر.

صراع المماليك

بعد استِتبَاب الأمر للمماليك في حكم مصر بقيادة السلطان أيبك، بدأ أمر أقْطاي يستفحل، وأحسَّ السلطان عز الدين أيبك بزيادة نفوذه، خاصة بعدما طلب من أيبك أنْ يُفرد له مكاناً في قلعة الجبل، ليسكن به مع عروسه، فقرَّر قتله بالتعاون مع مملوكه سيف الدين قُطز ، والمماليك المُعزِّية، فاستدرجه إلى قلعة الجبل واغتاله وألقى برأسه إلى المماليك البحرية الذين تجمعوا تحت القلعة مطالبين بالإفراج عنه. وكان ذلك سنة 652 هـ؛ ففرَّ المماليك البحرية من مصر إلى سورية والكرك وسلطنة الروم السّلاجقة، وأماكن أخرى، وكان في مقدمتهم بيبرس، وقَلاوون، وبَلبان الرَّشيدي.

فرح الملك” الناصر يوسف” بما حصل ورحّب بهم، وحاول أن يستخدمهم ضد أيبك. استمرت العداوة بين الناصر يوسف وأيبك فأرسل الناصر يوسف جيشه للهجوم على مصر بمساعدة المماليك البحرية الذين معه في هذه المرة، ولكن ما إن وصل حدود مصر حتى اضطر إلى أن ينسحب ويوافق على شروط أيبك التي كان من ضمنها إبعاد البحرية عن سوريا فرحلوا إلى الكرك. فأستقبلهم صاحب الكرك المغيث عمر أحسن استقبال، وفرَّق فيهم الأموال، وحاول الهجوم على مصر بدعم المماليك البحرية ولكنّه مُنِيَ بهزيمة أمام أيبك وكرَّ راجعاً. وكان ذلك سنة 656 هـ / 1258 م. وأثناء عودة المماليك مُنهَزمين من مصر، هاجموا غَزّة التي تعد تابعة للناصر يوسف، فهزموا الحامية التي بها وأسروا آمرها، فَقَوي أمرهم.

وفي أثناء تحرك المَماليك البحرية في جنوب الشام، صادفوا في غور الأردن فرقة الشّهروزيّة؛ التي فرَّت من العراق تحت ضغط التّتار، فاتفقوا معهم وتزوج بيبرس امرأة منهم، لتوثيق الاتفاق بالمُصاهرة.

تَحرّكت المخاوف عند الناصر يوسف منهم، فحرَّك عساكره إليهم، فهزم المماليك البحريةُ عسكرَ الشام، فركب الناصر بنفسه وبكل جيشه، ففرّت البحرية إلى الكرك والشهرزورية إلى مصر.

انتهت الخلافات بين الناصر يوسف، وعز الدين وأيبك، على إثرِ وساطة قام بها الن العلقميّ، وزير الخليفة المستعصم بالله؛ ونص الاتفاق على أنْ تُسحب فلسطين من أملاك أيبك وتُضمّ إلى يوسف، وأقطع الظاهر بيبرس نابلس، لإرضائه بعد استشاطته غضباً من الإتفاق بين يوسف وأيبك.

توجه المغول إلى حلب واستولوا عليها ودمروها، مما أثار موجة من الرعب في قلوب المسلمين وحكامهم، فمنهم من هرب إلى مصر كما فعل صاحب حماة، ومنهم من فضل الإستسلام حقناً للدماء كما فعل حاكم حمص. ولم يبق من المدن المهمة سوى دمشق التي جمع حاكمها الناصر الجيوش لمواجهة المغول، ثمّ ما لَبثَت تلك الجيوش أنْ انفضَّت من حوله، وذلك لأنه كان مُحتاراً في ما يفعل تجاه المغول، فما كان من المماليك الرافضين لتصرفاته المُتردّدة، إلّا أنْ حاولوا قتله وتَولية أخيه الملك الظاهر علي مكانه. فاكتشف الناصر تلك المؤامرة فَرَّ ليلاً من المعسكر إلى قلعة دمشق وتحصَّن فيها، فلما علم مماليكه بهربه وافتضاح أمرهم ساروا نحو غزّة برفقة بيبرس البُندقداري، ومن غزة اتصل بسلطان المماليك الجديد سيف الدين قُطز، فدعاه للعودة وأقطعهُ منطقة قَليُوب، وأنزله بدار الوزارة وعَظُم شأنه لديه.

معركة عين جالوت

عاد بيبرس لمصر بعد أن ولّاهُ سيف الدين قطز، منصب الوزارة؛ ليشتركا معاً في محاربة المغول الذين كانوا في طريقهم إلى مصر بعد اجتياحهم المشرق الإسلامي ثم العراق، وإسقاطهم الدولة العبّاسيّة  في بغداد.

أرسل هولاكو رُسُلاً لقطز يحملون كتاباً فيه تهديد ووعيد، إنْ لم يَخضعوا له. فعقد سيف الدين قطز اجتماعاً مع وجهاء الدولة وعُلمائها وتمَّ الإتفاق على التَّوجّه لقتال المغول إذْ لا مجال لمُداهَنتهم. وقد اختلى قطز ببيبرس البندقداري، الذي كان أمير الأمراء واستشاره في الموضوع؛ فأشار عليه بأن: أقتل الرسل، وأن نذهب إلى كَتبغا قائد الجيش المغوليّ مُتضامِنين؛ فإن انتصرنا أو هُزمنا، فسوف نكون في كلتا الحالتين معذورين. فاستصوب قطز هذا الكلام، وقام بقتل رسل المغول.

قام سيف الدين قطز بتقسيم جيشه لمُقدّمة بقيادة بيبرس، وبقيّة الجيش يَختبئ بين التِّلال وفي الوديان المجاورة كقوات دعم أو لتنفيذ هجوم مُضادّ أو معاكس. فقامت مقدمة الجيش بقيادة بيبرس بهجوم سريع ثمَّ انسحبت مُتظاهرة بالإنهزام لسحب خَيَّالة المغول إلى الكمين، وانطَلَت الحِيلة على كتبغا، فحمل بكلّ قُواه على مقدمة جيش المسلمين، واخترقه وبدأت المقدمة بالتّراجع إلى داخل الكمين، وفي تلك الأثناء خرج قطز وبقية مُشاة وفرسان الجيش وعملوا على تطويق ومحاصرة قوات كتبغا، فعندئذ استَعرَ القتال ولم يمضِ كثير من الوقت حتى هُزم الجيش المغولي، وقُتل معظمهم بمن فيهم قائدهم كتبغا، ويعد بيبرس المهندس العسكري لمعركة عين جالوت.

بيبرس يقتل سيف الدين قطز

بعد انتصار قطز على المغول في عين جالوت، سارَ ورائهم لتحرير باقي مدن الشام، فتحررت دمشق وحماة وحمص، وأرسل بيبرس ليطرد التتار من حلب، ويتسَلَّمها ووعده بنيابتها، فلمّا طردهم منها وتسلّمها المسلمون، استَناب عليها غيره وهو” علاء الدين ابن صاحب الموصل”، وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينهما فاقتضى قتل السلطان قطز سريعاً.

بعد عودة السلطان قطز من معركة عين جالوت منتصراً قاصداً مصر، وصل ما بين الغزالي والصالحيّة( منطقة)، فَضرَب دِهليزه، وسار خلف أرنبٍ وساق معه بيبرس ومعه الأمراء الذين اتفقوا على قتله، فَشَفعَ بيبرس في شيء فَشفَّعهُ قُطز في الأمر، فأخذ يدهُ ليُقبّلها فأمسكها وحمل عليه الأمراء بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنِّشاب حتى قتلوه. ثم كرّوا راجعين إلى المخيم وبأيديهم السيوف مُصلَتة، فأُخبِروا خَبرهم، فقال بعضهم من قتله؟ فقالوا: ركن الدين بيبرس، فقالوا له: أنت قتلته؟ فقال: نعم، فقالوا أنت الملك إذاً.

بيبرس السلطان

بعد مبايعة بيبرس على مُلكِ مصر أواخر ذي القعدة سنة 658 هـ، دُقّت الطبول فرحاً بذلك، ودخل قلعة الجبل وجلس على كُرسيّها. وقد لقّب نفسه أول مرة” بالقاهر”، فقال له الوزير: إنَّ هذا اللّقب لا يُفلح من تَلقَّب به. تلقَّب به القاهر بن المُعتَضد، فَلمْ تَطُل أيامه حتى خُلِع وسُمِلت عيناه، ولُقِّب به القاهر صاحب الموصل فَسُمَّ ومات، فعدل عنه حِينئذٍ إلى الملك الظاهر، ثمَّ شَرع في مَسكِ كلّ من يرى في نفسه الرئاسة من أكابر الأمراء حتى مَهّد المُلك لنفسهِ.

أعمال الظّاهر بيبرس

اهتم بيبرس بتجديد الجامع الأزهر، فأعاد للأزهر رَونقهُ، وقام بحملات من التَّرميم والتجميل حتى عاد له جَماله ومكانته مرة أخرى، وأعاد خطبة الجمعة والدِّراسة إلى الجامع الأزهر بعد أنْ هُجِر طويلاً، ونصَّبَ أربعة قُضاة شَرعيّين، واحداً من كل مذهب من مذاهب السنة الأربعة بعد أن كان القضاء مُقتصراً على قاضي قضاة شافعي. وفي خارج مصر قام بعدد من الإصلاحات في الحرم النبوي في المدينة المنورة، وقام بتجديد مسجد إبراهيم في الخَليل، وزار بيت المقدس يوم الجمعة 17 جمادى الآخرة 661 هـ / 1262 م، فقام بتجديد ماقد تَهدَّم من قبة الصخرة، وجدد قُبّة السّلسلة وزخرفها، ورتَّب بِرسمِ مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم. وأنشأ بها خانا للسبيل نقل بابه من دِهليز كان للخلفاء المصريين بالقاهرة. وقد زار بيت المقدس في شعبان سنة 664 هـ / 1265 م، وأجرى عليها تعميرات إضافية. وعمل على إقامة دارٍ للعَدلِ؛ للفصل في القضايا والنَّظر في المظالم، وقام أيضاً بتوسعة مسجد الصحابي خالد بن الوليد في مدينة حمص.

السياسة الخارجية لبيبرس

تحالف بيبرس مع بركة خان، زعيم القبيلة الذّهبيّة، في حربهِ ضدَّ هولاكو خان، وأقام معاهدات وعلاقات وديّة مع مانفرد بن فريدريك الثاني الإمبراطور الروماني، كما حالف ملك نابولي وصِقلّية وملك قَشتَالة ألفونسو العاشر. وحالف أيضاً سلطان سلاجقة الروم” عزالدين كيكاوس”، وقد كان يبعث بالرسائل والهدايا للآخرين (بركة خان وعز الدين) ويَحثّهم على محاربة المغول الخَانات، لكَفِّ أذاهم عن دولته، كي يَتفرّغ للصّليبيّين.

قضاء بيبرس على المغول

وقد ظل مغول فارس يتحينون الفرصة للحرب، وخاصة” ابغا بن هولاكو”، الذي واصل سياسة أبيه العدائية تجاه المسلمين، فيما اتّسَمت سياسته مع الصليبيين بالودّ. لكنَّ الظاهر بيبرس وقف لهم دائماً بالمرصاد، واستطاع أنْ يكسر شوكتهم، مِمّا دعا ابغا إلى طلب الصلح، ولجأ في طلبه إلى الترغيب والتهديد، لكنّ بيبرس كان يعلم جيداً أنّ الصُّلح مع المغول أمر لا يُرضي المسلمين، وذلك بسبب ما فعلوه في بغداد.

ورغم ذلك واصل المغول هجماتهم على منطقة السَّاجور، لكن بيبرس ردَّهُم خائبين، ثمَّ ما لبثوا أنْ هاجموا عين تاب، لكنَّ بيبرس دَحَرهم، وهكذا قام بكسر التَّتار في آخرها، عندما تحالف المغول مع سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، فأعد حملة كبيرة سنة 675 هـ، لغزو سلاجقة الروم.

في موقعة أبلستين حلّت الهزيمة الساحقة بالمغول وحلفائهم من السلاجقة، وقد فرَّ زعيم السلاجقة بعد أنْ قُتِل عدد كبير من رجالهِ ورجال المغول، ثم دخل بيبرس قَيسَارية، ودُعي له على منابرها وقَدّم له أمراء السلاجقة فروض الولاء والطاعة.

وقيل أنَّ أبغا لمّا سمع بما فعله بيبرس برجالهِ في موقعة أبلستين، أسرع إلى هناك ليَشتدَّ غضباً بما وجده من الآف القتلى من المغول، في حين لمْ يرَ أحداً من السلاجقة، مما جعلهُ يأمر بقتل ما يزيد على مائتي ألف من المسلمين السلاجقة.

أراد بيبرس أيضاً معاقبة الصليبيين الذين ساعدوا المغول في معركة عين جالوت، خاصة” بوهيموند السادس أمير إنطاكية”، فوجّه جيشاً تمركَز في حلب لشنِّ غارات على إنطاكية، ثمّ تجدَّدت الغارات في السنة التالية وتعرضَ ميناء السُّويديّة للتهديد، وكذلك تعَرّضت مدينة أنطاكية نفسها للحصار، وكادت أن تسقط لولا النجدة المغولية الأرمنية التي قادها الملك” هِيتوم”، فاضطَّرَّ المماليك إلى فكِّ الحصار عنها.

بيبرس يستَرِدّ إمارة إنطاكيه

بدأت الحملة لاسترداد إنطاكيه من الصليبيين، فوصل الظاهر بيبرس بجيوشه إليها يوم الثلاثاء 1 رمضان 666 هـ/ 15 مايو 1268 م، وهناك قَسّم جيوشه إلى ثلاث فرق وزعها حول المدينة لِيُحكِم حصارها، ويَمنع وصول المَدَد إليها من البرِّ والبحر. ولم يستطع الصليبيون المدافعون من المقاومة، بسبب شِدّة الحصار وقوة المُهاجِمين، ففُتِحت المدينة وتمكَّنت جيوش بيبرس من دخولها وغنموا غنائم كبيرة لا تُعدّ ولا تُحصى من الأموال والأسرى.

وقد كان سقوط تلك الإمارة الصليبية حدثاً مهمّاً في تاريخ الحروب الصّليبيّة، حتى غَدَت مصالح الصليبيين في الشام مُهدَّدة بشكل مباشر ولم يبقَ أمامهم سوى مملكة قبرص الصليبيّة، والتي توحدت مع مملكة طرابلس وعكّا، لأنّهم انضموا إلى تاج الملك هِيو الثالث، والذي باشر حُكمَه بعقد هُدنة مع السلطان بيبرس إلى حين وصول المساعدات من أوروبا. وقد وافق بيبرس على الهدنة لكي يعطي قُوّاته قَسطاً من الرَّاحة، خاصة وأنَّ فصل الشتاء قادم، ويتطلّب منه العودة إلى مصر ليُدِير بعضاً من شؤونها الداخلية.

وفاته

توفي الظاهر بيبرس في 27 محرم من عام 676 هجرية/1277 ميلادية؛ ودفن في المكتبة الظاهرية في دمشق، بعد حُكم دام 17 سنة، تولّى من بعده أكبر أولاده ناصر الدين الحُكم، إلّا أنَّ أولاد بيبرس لمْ يَدُم لهم الحكم طويلاً، ثمّ تولّى الحُكم المنصور قلاوون.


شارك المقالة: