فلسفة بوبر السياسية

اقرأ في هذا المقال


كانت أفكار وفلسفة مارتن بوبر السياسية مثالية ومثالية للغاية، وبدت دعوته لتحقيق ما اعتبره المهمة الأبدية للشعب اليهودي غريبة للغاية بالنسبة للصهاينة العلمانيين الذين يرغبون في إقامة دولة قومية حديثة، حيث رفض إلى حد كبير المجال السياسي الحديث ودعا إلى استبداله بالظروف الاجتماعية التي من شأنها أن تسمح بالحوار التلقائي.

الفلسفة الاجتماعية والسياسية:

ارتبطت الصهيونية الثقافية لمارتن بوبر بتركيزها المبكر على التطور الجمالي ارتباطًا وثيقًا بشكله الاشتراكي، فيجادل بوبر بأنّها حاجة إنسانية دائمة الوجود إلى الشعور وكأنك في بيتك في العالم أثناء تجربة تأكيد الاستقلالية الوظيفية للفرد عن الآخرين، وإنّ تطوير الثقافة والقدرات الجمالية ليس غاية في حد ذاته ولكنه شرط مسبق لمجتمع محقق بالكامل أو جعل الصهيونية حقيقة واقعة (Verwirklichungszionismus).

فالهدف الأساسي للتاريخ هو المجتمع الحقيقي الذي يتميز بالتوجه الداخلي نحو الحياة المشتركة، وهذا يدحض المفهوم الخاطئ الشائع بأنّ علاقة (أنا وأنت) هي علاقة عاطفية حصرية لا يمكن أن تعمل في إطار مجتمعي.

ينتقد بوبر التجميعية لإنشاء مجموعات من خلال تفتيت الأفراد وعزلهم عن بعضهم البعض، وعلى النقيض من ذلك فإنّ المجتمع الحقيقي هو مجموعة مرتبطة بالتجارب المشتركة مع التصرف والاستعداد المستمر للدخول في علاقة مع أي عضو آخر يتم تأكيد كل واحد منهم على أنّه كائن متمايز، ويقول إنّ أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي في بلدات القرى مثل الكيبوتسات (الكيبوتس مزرعة جماعية يهودية) الإسرائيلية.

في دراسته عام 1947 للاشتراكية الطوباوية مسارات في المدينة الفاضلة ومقال عام 1951 المجتمع والدولة (في تحديد الطريق) ميّز بوبر بين المبادئ الاجتماعية والسياسية، ويميل المبدأ السياسي المتمثل في اشتراكية ماركس ولينين نحو مركزية السلطة والتضحية بالمجتمع من أجل الحكومة في خدمة طوباوية عالمية مجردة.

في المقابل يتأثر بوبر بصديقه المقرب الفوضوي جوستاف لانداور ويفترض مبدأ اجتماعيًا تعمل فيه الحكومة على تعزيز المجتمع، ويصر على أنّ التغيير الحقيقي لا يحدث بطريقة من أعلى إلى أسفل ولكن فقط من تجديد العلاقات البشرية، وبدلاً من المركزية المتزايدة باستمرار يجادل لصالح الفيدرالية واللامركزية القصوى المتوافقة مع ظروف اجتماعية معينة والتي ستكون بمثابة خط فاصل دائم التغير للحرية.

في محاولة لاستعادة فكرة إيجابية عن طوباوية يصف بوبر الاشتراكية الطوباوية الحقيقية على أنّها الإدراك المستمر للإمكانات الكامنة للمجتمع في مكان ملموس، وبدلاً من السعي لفرض مثال مجرد يجادل بأنّ المجتمع الحقيقي ينمو عضوياً من الاحتياجات الموضعية والزمانية لموقف معين وأشخاص معينين، رافضًا الحتمية الاقتصادية للتطوعية.

ويصر على أنّ الاشتراكية ممكنة إلى حد أنّ الناس سيعيدون تنشيط الحياة المجتمعية، وبالمثل فإنّ صهيونيته لا تقوم على فكرة حالة الفداء النهائية ولكنها هدف يمكن تحقيقه على الفور يجب العمل من أجله، وهذا ينقل مفهوم الاشتراكية الطوباوية من المثالية إلى التحقيق والمساواة.

على الرغم من دعمه للحياة الجماعية للكيبوتسات شجب بوبر الأساليب الأوروبية للاستعمار وجادل بأنّ الكيبوتسات لن تكون مجتمعات حقيقية إلّا إذا لم يتم عزلها عن العالم، وعلى عكس القومية التي ترى الأمة كغاية في حد ذاتها كان يأمل أن تكون إسرائيل أكثر من أمة وأن تبشر بنمط جديد من الوجود.

يجب أن يتعلم المستوطنون العيش مع العرب في سلام حيوي، وليس فقط بجانبهم في سلام زائف كان يخشى أن يكون مجرد مقدمة للحرب، فمع مرور الوقت أصبح بوبر ينتقد إسرائيل بشكل متزايد قائلاً: “إنّه يخشى أن يؤدي انتصار اليهود على العرب إلى هزيمة الصهيونية”.

أدى انتقاد بوبر للسياسات الإسرائيلية إلى العديد من المناقشات العامة مع قادتها السياسيين، ولا سيما ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل، ففي مقال مبكر نسبيًا بعنوان المهمة عام 1922، جادل بوبر بأنّ تسييس كل أشكال الحياة كان أعظم شر يواجه الإنسان.

تدخل السياسة نفسها في كل جانب من جوانب الحياة مما يولد عدم الثقة فقد تعززت هذه القناعة بمرور الوقت، وفي مقالته عام 1946 صراع مأساوي (في أرض شعبين) وصف فكرة صراع الفائض المُسيَّس، وعندما يتم تسييس كل شيء يتنكر الصراع المتخيل على أنّه صراع مأساوي حقيقي، واعتبر بوبر أنّ بن غوريون يمثل هذا الاتجاه التسييس، ومع ذلك ظل بوبر متفائلاً معتقدًا أنّه كلما زادت الأزمة زادت إمكانية حدوث انعكاس عنصري وولادة جديدة للفرد والمجتمع.

كانت علاقة بوبر بالعنف معقدة وجادل بأنّ العنف لا يؤدي إلى الحرية أو الولادة الجديدة، بل يؤدي فقط إلى تراجع متجدد وشجب الثورات التي لا تتماشى وسائلها مع نهايتها، وخوفًا من أنّ عقوبة الإعدام لن تؤدي إلّا إلى الشهداء وإحباط الحوار فقد احتج على الحكم على كل من المسلحين اليهود والعرب ووصف إعدام النازي أدولف أيخمان بأنّه خطأ فادح.

ومع ذلك فقد أصر على أنّه ليس من دعاة السلام، وأنّه في بعض الأحيان يجب خوض حروب عادلة، وتم توضيح هذا بشكل أوضح في تبادله للرسائل عام 1938 مع غاندي الذي قارن ألمانيا النازية بمحنة الهنود في جنوب إفريقيا واقترح أن يستخدم اليهود ساتياغراها (وهي نهج المقاومة السياسية السلبية، والتي دعا إليها المهاتما غاندي ضد الحكم البريطاني في الهند) أو قوة الحقيقة غير العنيفة.

كان بوبر منزعجًا جدًا من المقارنة بين الحالتين وأجاب أنّ ساتياغراها تعتمد على الشهادة، في مواجهة الخسارة الكاملة للحقوق والقتل الجماعي والنسيان القسري، فلم يكن من الممكن تقديم مثل هذه الشهادة وكانت ساتياغراها غير فعالة.

اللاهوت السياسي:

صقل بوبر لاهوته السياسي ردًا على الصراع بين الفاشية والشيوعية وهما الأيديولوجيتان الرئيسيتان اللتان هيمنتا على أوروبا في منتصف القرن العشرين، وشارك فكره الطوباوي القومي في السمات مع كل من هذه المواقف المتطرفة وجعله في الواقع واحدًا من الشخصيات اليهودية القليلة المقبولة كشريك في النقاش مع الاشتراكيين الوطنيين المعتدلين في أوائل الثلاثينيات، وهو التقارب الذي رفضه بشدة باعتباره تصور خاطئ.

ظل موقفه السياسي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتزامه الفلسفي اللاهوتي بحياة الحوار التي نشأت في (أنا وأنت)، ووفقًا لبوبر كانت السياسة هي العمل الذي يشكل المجتمع من خلاله نفسه، ولقد رفض أي تشكيلات أيديولوجية متشددة للجماعية، وبالتالي اعترض على الحلول التي تم التعبير عنها على أي من المتطرفين السياسيين، ولقد فهم هذه الأمور على أنّها لا تتعرف على أنا ولا أنت في الحياة الاجتماعية.

عارض بوبر بشكل خاص فكرة أنّ المجال السياسي يعتمد على تمييز الصديق أو العدو، كما تصورها الفقيه المحافظ المتطرف كارل شميت، وإنّ المثل الأعلى السياسي لبوبر الرأسي والطوباوي كما كان مشتق من إعادة بناء النظام السياسي الإسرائيلي القديم كما ينعكس في كتاب القضاة، وبالمقابل كما قيل كانت قراءته للقضاة مستوحاة من أناركية لانداور.

كما قدم بوبر في ثلاثينيات القرن الماضي فإنّ المجاز الأساسي الحاكم للاهوت السياسي اليهودي -الملكية الإلهية (Königtum Gottes)- يمثل إجابة على شميت الذي سمح لاهوته السياسي بامتصاص السلطة الإلهية من قبل الملك البشري، وقاوم بوبر هذا الانزلاق وفضل بدلاً من ذلك الطبقات المناهضة للملكية في الكتاب المقدس العبري.

إن ما يقرأه بوبر على أنّه (لا) حقيقي وغير مشروط للسيادة السياسية يعتمد على (نعم) غير المشروطة التي تؤكد ملكية الله المطلقة، وضد النظرية التي وضعها شميت فإنّ التأكيد على أنّ الله وحده هو صاحب السيادة يعني أنّ سلطة الله غير قابلة للتحويل إلى أي رئيس بشري أو مؤسسة سياسية، وهكذا حافظ بوبر على فكرة السيادة الإلهية على جميع أشكال أجهزة الدولة والاستبداد.

فضل بوبر الأشكال البسيطة والأولية والبدائية والفورية للحكومة وأصر على أنّ الثيوقراطية الحقيقية ليست شكلاً من أشكال الحكومة على الإطلاق بل هي كفاح ضد التيار السياسي، ولا يوجد عمل فني لاهوتي فالنموذج المسياني للملك الإلهي الموجود في الكتاب المقدس العبري يتم تقديمه كصورة موثوقة محفوظة في الذاكرة الجماعية للتقاليد.

في كتابه مسارات في المدينة الفاضلة كان على بوبر رسم صورة الفضاء المثالي على أنّها تتكون من خطوط لا تسمح بتعريف ثابت، أي المنطقة بين الفرد والجماعة ويتم إعادة معايرتها باستمرار وفقًا للإبداع الحر لأعضائها، واستندت المدينة الفاضلة إلى رسم وإعادة رسم خطوط التماس.

المصدر: Martin Buber (1878—1965)Martin BuberBraiterman, Zachary, 2007, The Shape of Revelation: Aesthetics and Modern Jewish Thought, Stanford: Stanford University Press.Brody, Samuel H., 2018, Martin Buber’s Theopolitics, Bloomington: Indiana University Press.Friedman, Maurice, 1981, Martin Buber’s Life and Work: The Early Years, 1878–1923, New York: Dutton.


شارك المقالة: