فلسفة دريدا في مفهومي الهدية وحسن الضيافة

اقرأ في هذا المقال


أصبح الفيلسوف جاك دريدا مؤخرًا أكثر انشغالًا بما أصبح يُطلق عليه اسم المشكلة المحتملة والمستحيلة، حيث كان مصطلح (aporia) في الأصل مصطلحًا يونانيًا يعني اللغز، ولكنه أصبح يعني شيئًا يشبه المأزق أو التناقض، وعلى وجه الخصوص وصف دريدا المفارقات التي تبتلى بها مفاهيم مثل العطاء والضيافة والتسامح والحداد، ويجادل بأنّ شرط إمكانية وجودهم هو أيضًا وفي الحال شرط استحالة ذلك.

مفهوم الهديه:

يدور الانحراف الذي يحيط بالهدية حول فكرة متناقضة مفادها أنّ الهدية الحقيقية لا يمكن في الواقع فهمها على أنّها هدية، ويقترح دريدا في نصه (الوقت المعطى) أنّ مفهوم الهدية يتضمن طلبًا ضمنيًا بأنّ الهبة الحقيقية يجب أن تكون خارج المطالب المعارضة للعطاء والأخذ وتتجاوز أي مصلحة ذاتية أو تفكير حسابي، ومع ذلك فبالنسبة له فإنّ الهدية هي أيضًا شيء لا يمكن أن يظهر على هذا النحو، حيث يتم تدميرها من قبل أي شيء يقترح التكافؤ أو المكافأة، وكذلك من قبل أي شيء حتى يقترح معرفتها أو الاعتراف بها.

قد يبدو هذا غير بديهي ولكن حتى عبارة (شكر) بسيطة على سبيل المثال، والتي تقر بوجود هدية وتقترح أيضًا نوعًا من التكافؤ مع تلك الهدية ويمكن رؤيتها على أنّها تلغي الهدية، ومن خلال الرد بأدب بعبارة الشكر غالبًا ما يكون هناك افتراض بأنّه بسبب هذا الإقرار لم يعد المرء مدينًا للآخر الذي قدمه، وأنّه لا يمكن توقع أي شيء أكثر من فرد لقد استجابت لذلك، والأهم من ذلك أنّ الهبة تنجذب إلى دورة العطاء والأخذ حيث يجب أن يكون العمل الصالح مصحوبًا برد عادل مناسب.

نظرًا لأنّ الهدية مرتبطة بأمر للرد فإنّها تصبح فرضًا على المتلقي بل إنّها تصبح فرصة للاستفادة من (المانح)، والذي قد يعطيه فقط لتلقي الاعتراف من الآخر بأنّه قد أعطاها بالفعل، وهناك بلا شك العديد من الأمثلة الأخرى حول كيفية نشر الهدية، وليس بالضرورة بشكل متعمد للحصول على ميزة، وبالطبع قد يُعترض على أنّه حتى لو كان من الصعب نفسياً العطاء دون تلقي (وبطريقة تعادل الأخذ)، فإنّ هذا لا يشكل في حد ذاته تفنيدًا لمنطق العطاء الحقيقي.

ووفقًا لدريدا فإنّ مناقشته لا ترقى إلى مجرد ادعاء تجريبي أو نفسي حول صعوبة تجاوز مفهوم العطاء غير الناضج والأناني، وعلى العكس من ذلك فهو يريد أن يضع إشكالية في احتمال وجود عطاء يمكن فصله بشكل لا لبس فيه عن الاستلام والأخذ.

النقطة المهمة هي أنّه بالنسبة إلى دريدا تتطلب الهدية الحقيقية إخفاء هوية المانح بحيث لا تكون هناك فائدة متراكمة في العطاء، ولا يستطيع المانح حتى أن يدرك أنّه يعطيه لأنّ ذلك يعني إعادة استيعاب هديته للشخص الآخر كنوع من الشهادة على قيمة الذات، أي هذا النوع من منطق التهنئة الذاتي الذي يطرح سؤالًا بلاغيًا: “ما مدى روعة أن أعطي هذا الشخص ما طالما رغب فيه وحتى دون إخباره بأنّي مسؤول؟”.

هذا مثال متطرف ولكن دريدا يدّعي أنّ مثل هذا المأزق يصيب كل العطاء بطرق أكثر أو أقل وضوحًا، وبالنسبة له فإنّ منطق الهبة الحقيقية يتطلب في الواقع أن تكون الذات والآخر متباينين ​​بشكل جذري، وليس لديهم التزامات أو مطالبات على بعضهم البعض من أي نوع، ويجادل بأنّ الهدية الحقيقية يجب ألّا تنطوي على تخوف من عمل صالح ولا اعتراف الطرف الآخر بتلقيه، ويبدو أنّ هذا يجعل حقيقة أي هدية مستحيلة.

ومع ذلك من المهم وفقًا لدريدا أنّ القوة الوجودية لهذا الطلب على الإيثار المطلق لا يمكن تهدئتها أبدًا، ومع ذلك فمن الواضح أيضًا أنّه لا يمكن تحقيقها أبدًا، وهذا يضمن ارتباط شرط إمكانية الهبة ارتباطًا وثيقًا استحالة ذلك، وبالنسبة إلى دريدا لا يوجد حل لهذا النوع من المشاكل، ولا تلميح إلى جدلية قد توحد عدم قابلية القياس الظاهر حيث تشير الاحتمالية إلى الاستحالة والعكس صحيح.

ومع ذلك في الوقت نفسه لا ينوي ببساطة التأرجح في المفارقات الزائدية والمرجعية الذاتية، وهناك شعور بأنّ التفكيك يسعى فعليًا إلى العطاء الحقيقي والضيافة والتسامح والحداد، حتى عندما يقر بأنّ هذه المفاهيم بعيدة المنال إلى الأبد ولا يمكن تحقيقها في الواقع.

حسن الضيافة:

يجدر أيضًا التفكير في المشكلة (aporia) الذي يربطه دريدا بالضيافة، ووفقًا لدريدا فإنّ الضيافة الحقيقية قبل أي عدد من الأشخاص غير المعروفين ليست بالمعنى الدقيق للكلمة سيناريو محتمل، وإذا فكرنا في التخلي عن كل ما نسعى لامتلاكه وندعوه ملكنا، فيمكن لمعظمنا أن يتعاطف مع مدى صعوبة تفعيل أي ضيافة مطلقة، وعلى الرغم من ذلك يصر دريدا على أنّ فكرة الضيافة بأكملها تعتمد على مفهوم الإيثار ولا يمكن تصورها بدونه، وفي الواقع يجادل بأنّ هذا التوتر الداخلي هو الذي يبقي المفهوم على قيد الحياة.

كما يوضح دريدا هناك مثال وجودي أكثر لهذا التوتر حيث أنّ مفهوم الضيافة يتطلب أن يكون المرء (سيد) المنزل أو البلد أو الأمة (ومن ثم يتحكم)، ومن وجهة نظره هنا بسيطة نسبيًا لكي تكون مضيافًا، فمن الضروري أولاً أن يمتلك المرء القدرة على الاستضافة، ومن ثم فإنّ الضيافة تطالب بملكية الممتلكات وتشارك أيضًا في الرغبة في إنشاء شكل من أشكال الهوية الذاتية.

ثانيًا هناك نقطة أخرى وهي أنّه من أجل أن يكون مضيافًا، ويجب أن يكون لدى المضيف نوع من التحكم في الأشخاص الذين يتم استضافتهم، وهذا لأنّه إذا استولى الضيوف على منزل بالقوة فإنّ المضيف لم يعد مضيافًا تجاههم على وجه التحديد لأنّهم لم يعودوا مسيطرين على الموقف، وهذا يعني بالنسبة إلى دريدا أنّ أي محاولة للتصرف بشكل مضياف هي أيضًا مخطوبة جزئيًا دائمًا لإبقاء الضيوف تحت السيطرة، وإغلاق الحدود والقومية وحتى استبعاد مجموعات أو أعراق معينة.

هذا هو مفهوم دريدا المحتمل للضيافة حيث تجعل مفاهيمنا الأكثر حسن النية للضيافة الآخرين على أنّهم غرباء ولاجئون، وسواء كان أحدهم يستدعي الانشغال الدولي الحالي بمراقبة الحدود أو ببساطة سياج الضواحي ونظام الإنذار في كل مكان فأنّه يبدو أنّ الضيافة تفرض دائمًا نوعًا من القيود على المكان الذي يمكن للآخر التعدي عليه، وبالتالي يميل إلى أن يكون غير مضياف إلى حد ما.

من ناحية أخرى بالإضافة إلى المطالبة بنوع من التمكن من المنزل أو البلد أو الأمة هناك شعور بأنّ فكرة الضيافة تتطلب ترحيبًا بمن يحتاج إلى هذه الضيافة أو أي شخص آخر، ويترتب على ذلك أنّ الضيافة غير المشروطة أو قد نقول ضيافة مستحيلة، وبالتالي تنطوي على التخلي عن الحكم والسيطرة فيما يتعلق بمن سيحصل على تلك الضيافة، وبمعنى آخر تتطلب الضيافة أيضًا عدم التمكن والتخلي عن جميع المطالبات بالممتلكات أو الملكية، ومع ذلك إذا كان هذا هو الحال فإنّ إمكانية الضيافة المستمرة يتم الالتفاف عليها، حيث لم تعد هناك إمكانية لاستضافة أي شخص مرة أخرى ولا توجد ملكية أو سيطرة.

المصدر: Jacques Derrida (1930—2004)Jacques DerridaCircumfessions: Fifty Nine Periphrases, in Bennington, G., Jacques Derrida, Chicago: University of Chicago Press, 1993 (Circ).Caputo, John D., 1999, The Prayers and Tears of Jacques Derrida, Bloomington: Indiana University Press, 1999.


شارك المقالة: