فلسفة دولوز الجمالية

اقرأ في هذا المقال


جزء من سبب تأثير كتابات الفيلسوف جيل دولوز على السينما هو ببساطة أنّه أول فيلسوف مهم كرّس له هذا الاهتمام التفصيلي وبالطبع كتب العديد من الفلاسفة عن الأفلام، ولكن دولوز يقدم تحليلاً للسينما نفسها كشكل فني ويطور عددًا من الروابط بينها وبين الأعمال الفلسفية الأخرى، وعمل دولوز المركزي في الفنون المرئية هو كتابه فرانسيس بيكون: منطق الإحساس، ولكنه يشارك أيضًا مع عدد كبير من الشخصيات الأخرى في نصوص مختلفة مثل تيرنر وفان كوخ وكلي وكاندينسكي وسيزان.

فلسفة دولوز في السينما:

فلسفة دولوز في عمله سينما 1: صورة الحركة:

كتاب دولوز الأول بعنوان سينما 1: صورة الحركة، حيث تتعامل مع السينما من تطورها حتى الحرب العالمية الثانية، وبالنسبة لدولوز تعتبر السينما كشكل فني فريدة من نوعها تمامًا، وتتعامل مع موضوعها بطرق لا يستطيع أي شكل فني آخر القيام بها وخاصة كوسيلة للربط بتجربة المكان والزمان.

يبدأ تحليل دولوز بالتوصل إلى مفاهيم جديدة لمفاهيم الصورة والحركة، فالصورة قبل كل شيء ليست تمثيلًا لشيء ما أي علامة لغوية، ويعتمد هذا التعريف على التمييز الأفلاطوني القديم بين الشكل والمادة وفي شكله السوسوري الحديث للدال، وبدلاً من ذلك يريد دولوز أن يكسر هذين الأمرين في أمر واحد وبالتالي تصبح الصورة معبرة وعاطفية أي ليست صورة جسد بل الجسد كصورة.

يأتي هذا الانهيار بالإشارة إلى اثنين من الفلاسفة وهما هنري بيرجسون وتشارلز ساندرز بيرس، حيث خصص دولوز دراسة بطول كتاب للكاتب السابق بعنوان (Bergsonism)، واستخدامه لمفاهيمه عن الحركة والوقت في نصوص السينما قد تم التنبؤ به بالفعل من خلال هذا النص، ويجادل دولوز بأنّ حركة بيرجسون لا يمكن فصلها عن الكائن الذي يتحرك أي فهما حرفياً نفس الشيء.

وبالتالي لا يمكن إنشاء علاقة تمثيلية دون إيقاف تدفق الحركة بشكل مصطنع وبالتالي إساءة تفسير العنصر المجمد باعتباره مكتفًا ذاتيًا، ولا يوجد سوى تدفق الحركة الذي يعبر عن نفسه بطرق مختلفة، ومن بين أمور أخرى هذا أحد انتقادات دولوز للظواهر، وهكذا تميزت السينما المبكرة لدولوز بحكم ما يسميه المخطط الحسي الحركي، وهذا المخطط هو وحدة المشاهدة والعين التي ترى في حركة ديناميكية.

هذا النموذج لصورة الحركة هو بالضبط طبيعة السينما بالنسبة لدولوز، فهو لا يزيّف الحركة عن طريق استخراج المقاطع وربطها معًا بطريقة تمثيلية ولكنها تخلق نطاقًا واسعًا من الصور التعبيرية، ومن أجل التصالح مع تنوع صور الحركة يلجأ دولوز إلى بيرس الذي طور أكثر التصنيفات غير العادية للصور والعلامات، وبالتالي فإنّ الجزء الرئيسي من سينما 1 مخصص لاستخدام مع بعض التعديلات تصنيفات بيرس السيميائية لوصف استخدام صور الحركة في السينما ومركزيتها قبل الحرب العالمية الثانية.

فلسفة دولوز في عمله سينما 2: صورة الوقت:

إنّ الحركة من النص الأول إلى سينما 2: صورة الوقت لها أهمية وثيقة الصلة بما يسمى بالثورة الكوبرنيكية في الفلسفة عند إيمانويل كانط، حتى كانط كان الوقت خاضعًا للأحداث التي وقعت فيه وكان الوقت وقتًا للمواسم والتكرار المعتاد، ولم يكن من الممكن اعتباره بمفرده ولكن كمقياس للحركة، وأحد عناصر إنجازات كانط لدولوز هو عكسه لعلاقة حركة الوقت، فهو يؤسس الوقت نفسه كعنصر يجب أن تخضع له الحركة وهو الوقت الخالص.

يجادل دولوز بأنّه في السينما يحدث انعكاس مماثل، والسبب التاريخي الثقافي وراء هذا الانعكاس هو حدث الحرب العالمية الثانية نفسها، ومع وضع الحقائق العظيمة للثقافة الغربية موضع تساؤل عميق من قبل الأساليب التي لم يكن بالإمكان تصورها سابقًا ونتائجها القادمة، فإنّ الجهاز الحسي-الحركي لصورة الحركة قد تم جعله يرتجف أمام ما لا يطاق والكثير من إمكانيات الحياة إمكانات الحاضر، ولم تعد الحقائق العقائدية التي وجهت المجتمع والسينما إلى حد ما تسمح بالحركة الطبيعية على ما يبدو من شيء إلى آخر بطريقة اعتيادية، أي الروابط الطبيعية فقدت فعاليتها على وجه التحديد.

وباستخدام روابط غير طبيعية أو خاطئة والتي لا تتبع التسلسل أو التأثير السردي لصورة الحركة، يتجلى الوقت نفسه وصورة الوقت في السينما، وبدلاً من إيجاد الوقت كتمثيل غير مباشر يختبر المشاهد حركة الوقت نفسه، والتي تفترضها الصور والمشاهد والمؤامرات والشخصيات مسبقًا أو تظهر من أجل اكتساب أي نوع من الحركة على الإطلاق.

إلى جانب هذا السبب الخارجي هناك أيضًا لدى دولوز دافع داخل السينما نفسها للانتقال من صورة الحركة إلى الصورة الزمنية، وتميل الصورة الحركية بفضل التجربة المعتادة للحركة على أنّها طبيعية ومركزية، وإلى تبرير نفسها فيما يتعلق بالحقيقة، أي كما يجادل دولوز فيما يتعلق بالصورة العقائدية للفكر، وهناك هو الافتراض بأنّ الفكر يتحرك بشكل طبيعي نحو الحقيقة.

بالطبع يقترح دولوز أنّ السينما عندما تكون إبداعية حقًا لم تعتمد أبدًا على هذا الافتراض المسبق، ومع ذلك فإنّ صورة الحركة في جوهرها مسؤولة عن تأثير الحقيقة التي تستحضرها بينما تحافظ الحركة على مراكزها، ويجادل دولوز بأنّ السينما في تشكيكها في افتراضاتها المسبقة اتجهت نحو طريقة جديدة ومختلفة لفهم الحركة نفسها باعتبارها تابعة للزمن.

وهذا بدوره يقود دولوز إلى التخلي عن سيميائية بيرس إلى حد كبير لأنّه لا يوجد مجال لصورة الوقت ويحل محله نيتشه، وفي دراستنا للوقت في الاختلاف والتكرار يعد نيتشه هو الفيلسوف الذي يعتبر دولوز أنّه اتخذ الخطوة الحاسمة فيما يتعلق بالوقت متجاوزًا حتى كانط.

إحدى النتائج المركزية للسينما هي أنّ هذا الانتقال من صورة الحركة إلى الصورة الزمنية يسلط الضوء مرة أخرى على أحد اهتمامات دولوز المركزية لتأسيس علم الوجود وسميميولوجيا القوة، ونظرًا لأنّ سينما صورة الوقت معنية بتحرير الصور من حمل الوقت أو الإشارة إليه من أجل تكوين سرد (ليس أقل من تحرير الوقت نفسه من السرد)، فإنّ الصور نفسها أصبحت الآن حرة للتعبير عن القوى وتصبح المشاهد والحركات واللغة معبرة وليست تمثيلية.

فلسفة دولوز في الرسم:

كتاب دولوز عن فرانسيس بيكون كما يوحي العنوان هو محاولة لبناء منطق الأحاسيس من عمل الفنان، وهذه المهمة تصنيفية إلى حد كبير، ويطور دولوز في جميع أنحاء الكتاب عددًا من المفاهيم الفئوية الرئيسية والمفاهيم الجديدة التي تسمح له بالابتعاد عن النظرة التمثيلية القياسية للرسم نحو لوحة القوة، والتي تقدم القوة وتخلق التأثيرات (الأحاسيس) بدلاً من تمثيل أو وصف مشهد، وتقدم ثلاث أفكار مركزية في العمل:

1- الأول هو تفصيل مفهوم الشكل، بالنسبة لدولوز بينما كانت فكرة التصوير في الرسم تمثيلية إلى حد كبير، يرى بيكون وإلى حد ما سيزان قبله وينهار الشكل في عالم القوى ويضعه في علاقة جديدة بالقوة، وهكذا فإنّ صرخات بيكون التي اشتهر بها تضع الشخصية أمام القوة، وبالنسبة لدولوز فإنّ الصرخة تعبر عن لحظة متطرفة من الحياة بدلاً من المعاناة أو الرعب، وكما هو الحال مع كافكا يأخذ دولوز العمل الفني لبيكون، ويُنظر إليه عمومًا على أنّه مظلم للغاية وعدمي ويعتبره علامة حقيقية للحياة والصراع مع الموت.

2- الثاني وهو عبارة عن لازمة مألوفة في جميع أعماله، تتعلق بمفهوم القوة الذي يجعلها أساسية وجوديًا وفنيًا أكثر من كونها قمعية سياسياً، ومثلما أعيد تشكيل الرغبة في الرأسمالية وانفصام الشخصية، وفي الواقع هذه الخطوة هي التي تسمح الوضعية العامة لدولوز تجاه بيكون، وفي فرانسيس بيكون أنشأ دولوز بالتالي فكرة قوة اللون، من أجل فهم كيف يمكن أن يكون اللون معبرًا عن القوة بدلاً من أن يكون تمثيليًا.

3- أخيرًا يعتمد دولوز على الاختلاف بين النماذج الغربية التمثيلية للرؤية والأسلوب اللمسي للفن المصري، حيث يرى تطورًا في أسلوب الكتابة أو الرسم الذي يقاوم كونه أقنومًا في ازدواجية المحتوى أو الشكل المشتركة في الفهم الفلسفي للفن.

المصدر: Gilles Deleuze (1925–1995)Gilles DeleuzeAnsell-Pearson ed., Deleuze and Philosophy: the difference engineer (1997: Routledge, New York) – chapters 2-5, 6, 7 and 13 especially.Alliez, Eric (ed.), 1998, Gilles Deleuze: une vie philosophique, Paris: Synthélabo, 2001, “Différence et repetition de Gabriel Tarde,” Multitudes.Alloa, Emmanuel and Michalet, Judith, 2017, “Differences in Becoming: Gilbert Simondon and Gilles Deleuze on Individuation,” Philosophy Today.


شارك المقالة: