قصة الغريمة

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من القصص التي صدرت عن الكاتبة والأديبة السويسرية إيزابيل إبراهادت، وقد تناولت من خلال مضمون القصة الحديث عن أحد المتشردين الذي يعيش في عزلة ووحدة، وقد كان ذلك بعد أن تركته محبوبته بشكل مفاجئ، إلا أنه مع الوقت لم يقوى على نسيانها، وحينما ذهب لرؤية الأطلال التي كان يجلس عليها مع محبوبته في السابق تم قتله، وكأنه كتب عليه أن يبقى في عزلة دائمة وأبدية.

قصة الغريمة

في البداية بدأت القصة في صباح أحد الأيام، حيث أنه في ذلك اليوم كانت للتو قد توقفت الأمطار الغزيرة، وأطلت الشمس بأشعتها الساطعة في سماء صافية بلونها الأزرق المبهج وكأنها اغتسلت من ماء الأمطار، وفي ذلك اليوم كانت الأجواء في الحديقة التابعة لمنزل البطل رائعة جداً، إذ أن من الجهة اليسار كانت محاطة بأشجار الأرجوان الضخمة تمد أذرعها التي كانت مكسوة بالأزهار الوردية البديعة، ومن الجهة اليمين كان يمتد الانعطاف الطويل لروابي أحد الأشخاص والذي يدعى السيد مصطفى.

وقد كانت تلك الروابي تنأى في شفافية لا متناهية، كما كانت هناك بعض الشذرات ذات اللون الذهبي، والتي بدورها كانت تتدلى عن تلك الواجهات ذات اللون الأبيض، وعلى مسافة قريبة من تلك الحديقة كانت تحط أجنحة الزوارق على موج الخليج الهادئ، وتمر من جوانبها نسمات مفعمة بالهواء الدافئ.

وفي ذلك الوقت كان في المنزل الذي تحيط به الحديقة قد انعزل أحد الأشخاص والذي وصف بأنه متشرد؛ وقد كان سبب انعزاله هو أنه كان هناك فتاة قد أحبها منذ زمن قديم، وقد أقامت معه علاقة لفترة قصيرة ومن ثم تركته، كان ذلك المنزل صغير من ناحية المساحة، إلا أنه يتميز بانشراح واسع، وكان المتشرد يقضي أوقاته مجرد من الإحساس والمشاعر خلف تلك المشربية المنحوتة من الخشب وخلف الستائر زاهية الألوان، كما كان من الجهة الأخرى الديكور بديع وجميل، وقد كان المتشرد يسأل نفسه على الدوام لماذا الرحيل من منزل بهذا الصميم الجميل؟ ولماذا أسعى للبحث عن السعادة في مكان آخر؟ فهو لا يشعر بها إلى في ذلك المنزل.

فحينما كان يجلس على شرفة ذلك المنزل التي تطل على الآفاق الفسيحة، حينها  يشعر بأن الكون فيها يختصر؟ ولكن في بعض الأحيان كان كل شيء يبتعد من حوله ويتغير به، إذ بدأ بالتخلي عن حلمه بالعزلة والوحدة والتي كان في السابق بالنسبة إليه مصدر فخر، إذ يشتاق إلى قرى الصدف والمغامرات التي كان يعيشها والطريق التي كانت صديقته على الدوام في تجواله، كانت الحياة والأشياء تبدو في مخيلته جميلة إلى حد كبير، ولكن في أحيان أخرى كان يفكر كذلك أن وضعه الحالي أصبح أفضل، إذ غدا أكثر رقة في أحاسيسه ومشاعره، كما أنه استعاد قوة سلامة جسمه الذي انكسر بسبب تلك الفتاة، كما تمكن بسبب العزلة من أن يجبر طاقة إرادته التي كانت قد ذويت في وقت سابق.

وفي لحظة ما بدأ المتشرد في استطراد بعض الذكريات عن أيام الماضي، إذ وصفها بأيام المنفى وأنها كان بها حالة من السأم الساحق للنفس، وأنه خلال معيشته في المدن الحضرية كل ما يشتاق إليه هو فتنة المشهد الساحر للشمس على السهل الطليق وقد كان قلبه يعتصر ألماً بسبب تذكره لذلك المشهد، حيث أنه في ذلك الوقت كان يفترش سريراً دافئاً تحت أشعة الشمس الساطعة والتي كانت تتسلل إلى ذلك الفراش بشكل ساحر، إلا أنه وصف أحلامه في تلك الأثناء أنها كانت ممزوجة فقط بالكآبة وكأنها عطر الأشياء الميتة.

ولكن توصل المتشرد إلى أنه لم يعد يتأسف على أي شيء من الماضي، وكل ما يرغب به هي تلك اللحظات السرمدية الذي أسدل بها الليل الدافئ ستائره على الحديقة وبدأ الصمت يخيم على المكان، وهنا تنهد بشكل عميق والتي بدت التنهيدة وكأنها تنهيدة البحر الذي ينام في ذلك المنخفض السحيق تحت النجوم، كما بدت وكأنها تنهيدة الأرض المفعمة بحرارة الحب والعشق، إذ بدأت النيران بالتوهج بداخله كاللآلئ المتواجدة على قمم تلك الروابي الغضة، وتلك الروابي الأخرى التي كانت تنتشر على الساحل وكأنها حبات من مسبحة ذات لون ذهبي، وهنا بدأ بتذكر علاقته مع المحبوبة، إذ أشار أنه في بداية علاقتهم أمسكا بأيدي بعضهم البعض في أحد الأيام وخرجا للتمشي في الطرق.

لم يتكلم أحد منهم مع الآخر، حيث أنهم كانوا من خلال الصمت يفهمان بعضهما البعض، وأثناء سيرهم في الطريق صعدا إلى أحد المنحدرات الساحلية بسير بطيء، وفي تلك الأثناء كان القمر ينبعث بضوئه من بين الأشجار وحال وصولهم إلى أعلى المنحدر جلسا على إحدى الصخور، وقد كان في تلك اللحظة ينبعث بريق أزرق على الريف، إذ بدا وكأنه طريق فسيحة مسافرة بعيدًا في المدى، وبعد أن حضر عالم بأكمله من الذكريات في ذاكرة المتشرد، استيقظت فجأة وحاول أن يغمض عينيه؛ وذلك رغبة منه في طرد تلك الرؤى والذكريات، ولكن ما تشنج في ذهنه هي تلك اللقطة التي كان بها تعانق يده يد محبوبته، والتي جعلته رغماً عنه يفتح عينيه.

وهنا بدأت مشاعره في عشقه القديم تعود إليه من جديد، إذ كان يكن لها حب عظيم، وفي تلك اللحظة نهض وقد أراد أن يلقي نظرة أخيره إلى تلك الطريق التي سار بها مع محبوبته للمرة الأخيرة، وحين ذهب لرؤية تلك الطريق أدرك أن صورة الحبيبة أصبحت باهتة في تلك الطريق، إلا أنه حينها أدرك أنه ما زال قلبه ينبض بحبها، وأوضح أنه سوف يبقى في تلك الطريق حتى بزوغ الفجر، وحينها سوف يرحل ويودعها للأبد، ولكنه في تلك اللحظات كان يشعر أن هناك انقباض بقلبه.

وبينما كان في تلك الطريق أمسك بيده زهرة كبيرة من أزهار الكافور العاطر، إذ أراد أن ينسى تلك القبضة بقلبه، ونظر إلى السماء فرأى أنه خلف الخط الأسود للأفق كانت الشمس مغطسة باللون الأحمر، وقد كانت تبدو وكأنها تلوثت في بحر من الدم، وهنا سرعان ما انطفأ نور النهار، وأصبحت الصحراء الصخرية يطغو عليها السواد القاتم، كما اشتعلت العديد من النيران في إحدى أركان السهل الذي كان على حافة الطريق.

وفي النهاية ظهر عليه رحالة مسلحين بالبنادق وهنا أطلق حصانه المشكول صهيله، وسرعان ما جلس كالقرفصاء، وعندما أدار رأسه إلى الخلف، سرعان ما تم إطلاق النار عليه ومات، إلا أن كان منظره وكأنه مغمض العينين يحلم، وأخيراً صمت كل شيء في المدى الشاسع وأصبح يبدو وكأنه إنسان أخرس نائم استسلم للسكينة اللامتناهية، وقبل في أن ينام وحيدًا بين الناس بسطاء ومجهولون بالنسبة إليه دون عودة للأبد.

المصدر: كتاب ياسمينة وقصص أخرى - إيزابيل إبراهادت


شارك المقالة: