قصة المرأة التي تحبني

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من روائع الأعمال الأدبية التي صدرت عن الأديب إميل زولا، وقد تمكن من خلالها تقديم انتقاد للحالة العامة للمجتمع الفرنسي في حقبة الزمن القديم، فقد كان هناك العديد من مسببات الفقر، وقد دون الكاتب ذلك من خلال قصة فتاة تعيش حياة الفقر مما دفع بها للسير في طرق غير أخلاقية وغير آمنة عليها.

قصة المرأة التي تحبني

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة من خلال تساؤل قدمه الشخصية الرئيسية في تخيله للسيدة التي تحبه، وقد كان خلال العديد من التساؤلات يطلق عليها اسم المرأة التي تحبني، وأول ما بدأ به هو: هل هي تلك السيدة التي ينبع أصلها من الطبقات المرموقة في المجتمع؟ أم أن هي تلك الفلاحة الذي يكللها فوق جمالها ذلك اللون الأسمر البهي التي تحتويني بنظراتها حينما تعبر من أمامي؟ أم هل من الممكن أن تكون تلك السيدة التي يبدو أنها مسكينة ولطيفة التي مررت بها وقدمت لي شكرها على النقود التي قدمتها لها.

أم أنها سيدة متزوجة من رجل آخر؟ أم أنها في الحقيقة من فتيات أوروبا اللواتي يتميزن بالبشرة البيضاء وكأنهن بدر الضحى؟ أم أنها من بنات قارة آسيا اللواتي يتميزن بتلك البشرة الصفراء المبهجة؟ فهل أن المرأة التي تحبني كل ما يفصلها عني هو فقط حاجز رقيق؟ أم هي تقيم هناك بعيداً خلف البحار والمحيطات؟ فهل من الممكن أن تكون بعيدة عني كبعد النجوم؟ فمن الممكن أنها لم تولد بعد؟ كما أنه من المحتمل أن تكون قد توفيت قبل مئات الأعوام؟

وفي تلك الأثناء استطرد الرجل حديثة بقوله: في يوم الأمس هممت بالبحث عنها في ساحة مهرجان، حيث أنه كان هناك احتفال في إحدى ضواحي القرية، وبينما أنا مشغول ببحثي عنها كان الناس يمشون في الشوارع ويقومون بأهازيج الاحتفال ويرتدون أجمل الملابس لديهم، كما كانت الفوانيس تشع بضوئها وإنارتها في جميع الشوارع، وعلاوة على كل تلك المعالم الجمالية كانت الطرق مزينة بأعمدة ذات ألوان مزهرة، ويعلو كل عامود منه آنية صغيرة ملونة يوجد بها فتيل يبعث منه دخان يترنح هنا وهناك مع كل هبت ريح.

وفي ذلك الوقت كنت أسير وسط تلك الحشود الغفيرة، وأنا أشعر بعزلة ووحدة عن كل ما يدور حولي إلى أن وصلت في لحظة ما إلى إحدى الخيم المنصوبة، وعلى باب تلك الخيمة كان يقف رجل يرتدي بدلة ساحر وقبعة تتوزع على أطرافها رسومات من النجوم، ويصيح بين الحشود: هيا ادخلوا يا سادة يا كرام، لقد حضرت للتو من دولة الهند وأملك المرآة السحرية وهي مرآة الحب، وتلك المرآة سحرية تدخل البهجة والفرح والسرور إلى القلوب، ادخلوا أيها الكرام لتروا الفتاة التي تحبكم، وكل ما أقدمه لكم مقابل فلسين فقط، وهنا قال الرجل: كانت تقف إلى جانب الساحر سيدة ترتدي ملابس راقصة مسرح وبين يديها جرس تلوح به، والساحر يقوم بقرع الطبول.

وفي تلك اللحظات كان الناس ينظرون إليه ولكن مترددين بعض الشيء، إذ أن رؤية الرجل لتلك المرأة التي تحبه يثير الفضول لديه، وبالنسبة إليّ فقد عثرت على ما يتوق إليه قلبي منذ فترة، حينها وضعت قدماي على أول لوح خشبي في طريقي لذلك الساحر، ولكن في تلك اللحظة استوقفني شخص ما، وقد كان ذلك الرجل طويل القامة يرتدي بيديه قفازين وكان يبدو على ملابسه أنها رثة وبالية، وهنا قال لي: يا سيدي إنني صديق الشعب، وما يؤسفني أن أشاهد أمام عيناي شاب كريم مثلك يقدم لتلك الحشود مثال سيء، فمما يؤسفني أن تشجع ذلك الساحر الذي يراهننا على أسوأ ما فينا من غرائز.

وعلى الرغم من كل الكلام الذي قاله لي ذلك الرجل الطويل القامة، إلا أنني أدرت له ظهري وتوجهت إلى داخل تلك الخيمة، دخلت وتركت الستائر تنسدل خلفي، كانت الخيمة من الداخل أشبه بقاعة طويلة ضيقة وخالية من أي مقعد، كما كان الداخل يعج بالشبان والفتيات، توقفت للحظات أراقب تلك الحشود وكانت مرآة الحب ما هي سوى مرآة عادية بوجهين، وهنا سألت نفسي: يا هل ترى أي أفكار جميلة كانت تتدفق داخل تلك الرؤوس الشابة.

وأخيرًا حاولت أن أتقدم محاولاً النظر في داخل تلك المرآة، في محاولة مني لمعرفة تلك المرأة التي تحبني، وفي تلك اللحظة ظهرت أمامي سيدة متكئة إلى أريكة، وتلك السيدة ترتدي فستان طويل وجميل باللون الأبيض يجر من خلفها، وكانت تتميز بعيون ذات لون أزرق لامع وتحدق بهما نحوي، وفي نهاية تلك النظرة رأيت أنها بدأت تتبخر، ولكنني سرعان ما طبعت ملامحها في ذاكرتي وغادرت الخيمة.

وحينما خرجت من تلك الخيمة رأيت صديق الشعب ما زال يقف في ذات المكان، لم التفت إليه وسرت بين الحشود وقد عزمت حينها على أن أجد المرأة التي تحبني بعد ما صرت أعرف ملامحها، كنت في حالة من حيرة من أمري، وبينما كنت أسير في الطريق وجدت صديق الشعب مرة أخرى من جديد غارق في تأملاته أمام أحد الأعمدة المنيرة، وأول ما وقفت إلى جانبه قال لي: زيت تلك المصابيح يكلف ما يقارب على ثلاثمائة وأربعة وثمانون فرانك، والشعب يكاد لا يجد الخبز، والحكومة تهيب بإقامة تلك المهرجانات المكلفة حتى ينسي الشعب حالة الفقر التي يعيشها.

وفي تلك اللحظة لم أرد عليه ولو بكلمة واحدة، كما أنني تركته واستمريت في مسيري، وحينما انطفأت آخر المصابيح واقترب الصباح من البزوغ لمحت تلك المرأة التي تحبني، كانت تلك المرأة فتاة يطغو على ملامحها البساطة وترتدي ملابس مزركشة ذات ألوان باهته، حدقت بي للحظة ثم أمسكت يدي وقالت لي: الجو شديد البرودة دعنا نسير، وهنا سألتها: هل عرفتني؟ فردت: لا، وهنا كررت عليها سؤال آخر وقلت: إلى أين بإمكاننا الذهاب؟ فردت دون إبداء أي اهتمام: أينما شئت إلى منزلي أو في منزلك.

واصلنا المسير وفي الطريق اقترب منا ثلاثة شباب وصاحوا بي: يا سيدي هذه السيدة خداعة، وهنا شعرت بقطرات عرق باردة على جبيني، وقد حاولت الهروب حينها، ولكنها بادرتني بقولها: إنني أعيش حياة فقيرة وأبذل ما في وسعي من أجل توفير قوت يومي، ففي فصل الشتاء الماضي كنت أقضي ما يقارب خمس عشرة ساعة منكبه على منوال الحياكة ولم يكن لدي أي قطعة من الخبز.

وأردف حديثها قائلة: وما إن جاء فصل الربيع حتى قمت برمي إبرة الحياكة من النافذة وجدت عمل أقل تعب ومجهود علي، ففي كل ليلة أرتدي الثوب الأبيض، وأجلس لوحدي في غرفة ضيقة، وكل ما يقتصر عليه عملي هو إضفاء الابتسامة وبين الحين والآخر، وحيها يتم تكريمي بانحناء وقبلة على اليد، وجراء ذلك اتقاضى أجر ثلاثة فرنكات، وأبقى على الدوام في رؤية عيون تنظر تجاهي وينتابني الذعر لرؤيتها وأشعر برغبة في الصراخ أو الفرار، ولكن لا بد أن أعمل من أجل أن أتمكن من الاستمرار في الحياة.

المصدر: كتاب الفيضان ومنتخبات قصصية أخرى - إميل زولا - 2014


شارك المقالة: